دعوة أهل الكوفة والإعلان عن الاستعداد للبيعة ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين عليه السلام من البيعة، ارجفوا بيزيد وعُقد اجتماع في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فأرسلوا وفداً من قبلهم وعليهم أبو عبدالله الجدلي وكتبوا إليه معهم. ثم لبثوا يومين وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن شداد الأرحبي وعمارة بن عبدالله السلولي إلى الحسين عليه السلام ومعهم نحو مائة وخمسين صفحة من الرجل والإثنين والأربعة، وهو مع ذلك يتأنى ولا يجيبهم، فورد عليه في يوم واحد مائة كتاب، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده إثنا عشر ألف كتاب، ثم لبثوا يومين آخرين وسرحوا إليه هاني بن هاني السبعي وسعيد بن عبدالله الحنفي وكانا آخر الرسل وكتبوا إليه:( بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد، فحيّهلا، فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام1. اجتماع الإمام عليه السلام برسل أهل الكوفة ومبعوثيهم بعد أن علم أهل الكوفة بامتناع الإمام عليه السلام عن البيعة ليزيد، وأنه عليه السلام قد صار إلى مكة، تقاطرت رسائلهم الكثيرة إليه بلا انقطاع، وقد أبدوا فيها استعدادهم لنصرته والقيام معه، ودعوه فيها إلى القدوم إليهم. "وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن الناس..."2، وكان هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله الحنفي آخر الرسل القادمين عليه. فقال الحسين عليه السلام لهاني وسعيد بن عبد الله الحنفي: خبراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب معكما إليّ؟ فقالا: يا أمير المؤمنين اجتمع عليه شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجاج، ومحمّد بن عمر بن عطارد. قال: فعندها قام الحسين عليه السلام فتطهّر وصلّى ركعتين بين الركن والمقام، ثم انفتل من صلاته وسأل ربه الخير فيما كتب إليه أهل الكوفة، ثم جمع الرسل فقال لهم: "إني رأيتُ جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامي، وقد أمرني بأمر وأنا ماضٍ لأمره. فعزم الله لي بالخير، إنّه ولي ذلك والقادر عليه إن شاء الله تعالى"3 رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة "... ثم كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبدالله، وكانا آخر الرسل: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين: أما بعدُ: فإنّ هانياً وسعيداً قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلِّكم: إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى. وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وأمرته أن يكتب لي بحالكم وخبركم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجه إليكم إن شاء الله، ولاقوة إلا بالله، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم (أو: فإن كتب إليّ أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم) وقرأت في كتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه، فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام العامل(الحاكم) بالكتاب القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، كالذي يحكم بغير الحق ولا يهتدي سبيلاً والسلام..."4. ثم طوى الكتاب، وختمه، ودعا بمسلم بن عقيل فدفع إليه الكتاب وقال: "إنّي موجهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ ببركة الله وعونه حتى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها، وادع الناس إلى طاعتي، فإن رأيتهم مجتمعين على بيعتي فعجّل عليّ بالخبر حتى أعمل على حساب ذلك إن شاء الله تعالى". ثم عانقه الحسين عليه السلام وودّعه وبكيا جميعاًً"5. ثم سرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبد الله السلولي، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي، وأمره بالتقوى وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك..."6. رحلة مسلم إلى العراق لقد كان مسلم بن عقيل من أشجع بني عقيل وأرجلهم7، فقد كان أحد قيادات ميمنة جيش أمير المؤمنين علي عليه السلام في صفين8، وهو الذي خاطب معاوية وكان آنذاك الطاغية ذا اليد المطلقة في العالم الإسلامي: مه، دون أن أضرب رأسك بالسيف9، وهو الذي ودّع الإمام الحسين عليه السلام وداع فراق لا لقاء بعده إلا في الجنة بعد أن عرف أنه متوجه إلى الشهادة لا محالة من قول الإمام عليه السلام له: وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء. وهو الذي قابل جموع أهل الكوفة وحده من دون أن يعينه أو يقف إلى جنبه أي أحد، فأشاع فيهم القتل مما ملأ قلوبهم ذعراً وخوفاً، ولمّا جيء به أسيراً على ابن زياد لم يظهر عليه أي ذل أو انكسار. ولكن بعض المؤرخين روى قصة مختلقة عن رحلة مسلم إلى العراق، تصفه بالجبن والتطيّر، للحطّ من مقام هذا الشهيد وتشويه صورته، وللايحاء بأن مسؤولية فشل انتفاضة الكوفة تقع على عاتق مسلم بن عقيل وليس على عاتق أهل الكوفة، فقد كان جباناً متطيّراً!!! فقالوا إن مسلم بن عقيل أقبل حتى أتى المدينة، فصلّى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وودع من أحب من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به، فضلَّا من الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان: هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء، وقد كادوا أن يموتوا عطشاًً (وفي رواية الإرشاد: ومات الدليلان عطشاًً)، فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى الحسين وذلك بالمضيق من بطن الخُبيت (أوالخبت): أما بعدُ، فإني أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق وضلَّا، واشتد علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد تطيّرتُ من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري، والسلام. فكتب إليه الحسين عليه السلام: أما بعدُ، فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إليَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن، فامضِ لوجهك الذي وجهتك له، والسلام عليك. فقال مسلم لما قرأ الكتاب: هذا ما لستُ أتخوفه على نفسي..."10. وقد فات رواة هذه الحكاية الكاذبة أن مضيق الخبت، الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام، يقع ما بين مكة والمدينة 11، في حين أن الرواية تنص على أنه استأجر الدليلين من المدينة، وخرجوا إلى العراق فضلوا عن الطريق ومات الدليلان، وهذا يعني أن هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة والعراق، ولم تقع ما بين مكة والمدينة. ولو فرضنا أن هناك مكاناً يُدعى بهذا الاسم يقع ما بين يثرب والعراق، فإن السفر منه إلى مكة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيام، في حين أن سفر مسلم من مكة كان في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان، وقد وصل إلى الكوفة في اليوم الخامس من شوال، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً، وهي أسرع مدة يقطعها المسافر من مكة إلى المدينة، ثم إلى الكوفة، وإذا استثنينا من هذه المدة سفر رسول مسلم من ذلك المكان ورجوعه إليه، فإن مدة سفره من مكة إلى الكوفة تكون أقل من عشرة أيام، ويستحيل عادة قطع تلك المسافة بهذه الفترة من الزمن. والمؤسف ان الشيخ المفيد ينقل هذه الحكاية عن الطبري، بدون تمحيص ونقد، مع ما عرف عن الطبري من انحراف عن المنهج الحق وانتقائية. رسول الحسين عليه السلام إلى الكوفة خرج مسلم بن عقيل عليه السلام من مكة في منتصف شهر رمضان سنة ستين للهجرة، ودخل الكوفة في اليوم الخامس من شهر شوّال من نفس السنة12. وأوصاه الإمام الحسين عليه السلام أن ينزل عند أوثق أهل الكوفة13، وقد روي أنه نزل عند مسلم بن عوسجة 14، كما روي أنه نزل عند هاني بن عروة ابتداءً15، لكن الأشهر هو أن مسلماًً عليه السلام نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي ابتداءً ثم تحوّل منها بعد ذلك إلى دار هاني16. وجعل الإمام مبادرته وإسراعه في القدوم على أهل الكوفة منوطاً بما إذا كتب إليه مسلم بأن حقيقة حالهم على مثل ما قدمت به رسلهم وكتبهم17. ما هي طبيعة مهمة مسلم بن عقيل في الكوفة؟ لم تكن مهمة مسلم في الكوفة منحصرة في الإعداد والتعبئة فقط حتى يقدم الإمام عليه السلام فتتم البيعة له مباشرة، ثم هو يرى رأيه في كيفية العمل بعد ذلك، بل كان، كما يظهر من الأخبار، أن مسلماًً كان معه صلاحية المبادرة إلى التحرك المباشر والقيام بأهل الكوفة ضد السلطة الأموية هناك حتى قبل مجيء الإمام عليه السلام18. والظاهر أن الإمام كان يعلم بأن مهمة مسلم سوف تنتهي بشهادته، ولذلك أشعره بأن ختام أمره في هذا الطريق هو الفوز بدرجة الشهادة19. وأوصاه: "بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك..."20. الأسلوب السرّي في تعبئة أهل الكوفة كان لا بد لمسلم من اعتماد السرّ والرفق في تعبئة أهل الكوفة حتى يستكمل العدد والعدّة الكافيين لتأهيل الكوفة للقيام معه، أو مع الإمام عليه السلام بعد أن يصل إليها21، وقد كانت الأجواء المعنوية والسياسية مؤاتية للتحرك، ولذلك فقد اتخذ له مركزاً في أحد البيوت، وابتدأ يجتمع بالناس الذين أخذوا يتوافدون عليه أفراداً وجماعات ويبايعون الإمام الحسين عليه السلام (وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين، فأخذوا يبكون..."22. وأخذ عدد الذين يبايعون مسلماًً من أهل الكوفة يتزايد يوماً بعد يوم، حتى بايعه ثمانية عشر ألف رجل في ستر ورفق!"23، حينئذٍٍ24 كتب مسلم إلى الإمام عليه السلام بذلك وأرسله مع عابس بن أبى شبيب الشاكرى: " أمّا بعدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ الناس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى، والسلام"25. إنّ هذه البيعة كانت من جهة أهل الكوفة تعبيراً عن الحب والولاء من جانبهم للإمام عليه السلام، ليس أكثر، ولم يكن معناها أن كل الذين يبايعون قد تحولوا إلى تشكيلات منظمة من سرايا وكتائب وقطعات مسلحة جاهزة للقتال، فكانت هذه مهمة أخرى لمسلم، ومرحلة أدق وأصعب من مرحلة تحصيل البيعة وإعلان الولاء، فكان على مسلم، الذي يمثّل قوة سياسية، كانت بعيدة عن الكوفة طوال عشرين عاماً، أن يختصر عشرين عاماً، كانت السلطة الأموية خلالها تبني أقوى تشكيلاتها الأمنية وأخطبوطها الإرهابي، وامتداداتها القبلية والعشائرية، ولذلك كانت المواجهة غير متكافئة تماماً، فمجرد البيعة لا يعني وجود القوة حتى لو كان عدد المبايعين ثمانية عشر ألفاً!! ففي أحد الاجتماعات التي عقدت مع مسلم وبايعه فيها الناس، على كثرة من حضر هذا الاجتماع ممن هو محسوب على التشيّع، لم يقم إلا ثلاثة، استشهدوا بعد ذلك في كربلاء، أظهروا لمسلم استعدادهم التام لامتثال أمره والتضحية في هذا السبيل!26. بينما كان هناك كثرة أظهرت أنها تحبّ الحق ولكنها تكره أن تموت من أجله27. إن كراهية الموت هنا هي تعبير عن الخوف من الإقدام في ضوء التفوق الكاسح للسلطة الأموية، لأن الإقدام في مثل هذه الحالة يحتاج إلى وعي والتزام كبيرين، وإلى نفوس كبيرة عالية الهمة، وإلى مستوى فكري وعقائدي متين جداًً، لم يكن متوفراً عند جمهور أهل الكوفة، الذي كان يحتاج إلى أن ينجز مسلم مرحلة الإعداد وتشكيل السرايا، فإذا تم ذلك، واستشعر هؤلاء الناس القوة، فإنهم سوف يقاتلون، لأن القتال حينئذٍ مضمون النتيجة، وهذا ديدن الجماهير التي كلما استشعرت الكثرة والتظافر اعتمدت على تجمهرها واعتبرته مصدر قوة فتقوم وتثور، وعلى القيادة بعد ذلك أن تسيّرها نحو أهدافها. ولما تزايد عدد المبايعين لمسلم انتشر أمره وفشا بين الناس، وكان لا بد للسلطة الأموية من أن تعلم، والظاهر أن النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي والي الكوفة، لم يكن مستعدا ًلتنفيذ استعمال القوة ضد مسلم والمبادرة إلى الهجوم عليه، إما لأن مسلماًً كان في بيت صهره المختار، وإما لأنه كان يتبنّى سياسة معاوية، وهي تحاشي المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام، بحيث أن معاوية لو اضطر إلى مواجهة علنية وقتال ضدّ الإمام الحسين عليه السلام وظفر به لعفا عنه، وليس ذلك حبّاً للإمام عليه السلام وإنما لأن معاوية يعلم أن إراقة دم الإمام علناً وهو بتلك القدسيّة البالغة في قلوب الأمّة كفيل بأن يفصل الأموية عن الإسلام، ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب الأموي خاصة أدراج الرياح، خصوصاً تلك الجهود التي بذلها معاوية في مزج الأموية بالإسلام في عقل الأمة وعاطفتها بحيث أنه لم يعد أكثر هذه الأمة يعرف إلا الإسلام الأموي، حتى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأموية إلا إذا أريق ذلك الدم المقدس، دم الإمام عليه السلام، ضد الحكم الأموي. فكان النعمان بن بشير يعتقد أن يزيد سوف يطبق سياسة معاوية في تجنب الإصطدام الدموي مع رمز الإسلام المحمّدي الأصيل آنذاك، الحسين بن علي، خوفاً من وقوع الفرز بينه وبين الإسلام الأموي، وبالتالي انكشاف اللعبة النفاقية التي كان يحتاج إليها معاوية في بناء واستمرارية ملك بني أمية! وإما لأن القوة المعنوية لنهضة مسلم كانت قد انتشرت بحيث أنها تحتاج، لمواجهتها، إلى استعمال شرس وعنيف للسلطة الأمنية، ولم تكن شخصية النعمان لذاتها قادرة على ذلك! هذه هي الاحتمالات الممكنة، فلم يكن النعمان بن بشير محباً لأهل البيت عليه السلام ولا ذا ميل إليهم28، بل كان له ولأبيه تاريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد موت النبي الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عثماني الهوى، يجاهر ببغض علي عليه السلام، ويسيء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصفّين، كذلك فلم يكن النعمان "حليماً ناسكاً يحبّ العافية ويغتنم السلامة"29، بل تلميذاً نبيهاً في مدرسة معاوية السياسية، فكان يتضعّف مكراً وحيلة، ويعوّل على الأسلوب السرّي والخدعة الخفية للقضاء على الثورة والتخلص من مسلم بن عقيل، بل التخلص حتى من نفس الإمام عليه السلام. وعلى كل حال، لم يرق موقفه لحلفاء بني أمية في الكوفة30، فأخذت تتوالى رسائلهم إلى يزيد في الشام31 تخبره بمستجدات حركة الأحداث في الكوفة، وبموقف النعمان بن بشير منها، وقد أجمعت على أنه "إن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاًً قوياً، يُنفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف!"32. عبيد الله بن زياد والي الكوفة الجديد استدعى يزيد مستشاره ومستشار أبيه من قبل سرجون بن منصور النصراني، وسأله عن رأيه في من يكون الوالي على الكوفة بدلاً من النعمان، فأشار عليه سرجون باستعمال عبيد الله بن زياد قائلاً بأن هذا هو رأي معاوية أيضاً، وأخرج له كتاباًً كان معاوية قد كتبه بذلك قبل موته33، فأخذ يزيد بهذا الرأي وضم الكوفة والبصرة إلى عبيد الله بن زياد، وبعث إليه بعهده الجديد وأمره باعتقال مسلم أو قتله. وما أن تسلم عبيد الله بن زياد رسالة يزيد حتى أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد34، ثمّ خرج ومعه شريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعياً، وقيل: "كان معه خمسماءة، فتساقطوا عنه، فكان أوّل من سقط في الناس شريك، ورجوا أن يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحدٍ منهم..."35. فلما أشرف عليها نزل حتى أمسى ليلاً، ولما صار في داخل المدينة في جنح الظلام وكان معتمّاً بعمامة سوداء وهو متلثم، والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه السلام، فقالت امرأة: الله أكبر ابن رسول الله وربّ الكعبة! فتصايح الناس، وظنّوا أنه الإمام الحسين عليه السلام، وقالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً. وازدحموا عليه حتى أخذوا بذنب دابّته، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباًً بك، يا ابن بنت رسول الله، قدمت خير مقدم، فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه36. "وسار حتى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التفّوا به لا يشكّون أنّه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان بن بشير الباب عليه وعلى خاصته، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب، فاطلع عليه النعمان وهو يظنه الحسين عليه السلام، فقال: ياابن رسول الله مالي ولك؟ وما حملك على قصد بلدي من بين البلدان؟ أنشدك الله إلا ما تنحيت، والله ما أنا بمسلم إليك أمانتي، ومالي في قتالك من إرب!. فجعل لا يكلمه، ثم إنه دنى وتدلى النعمان من شُرف القصر، فقال له ابن زياد: إفتح لا فتحت! فقد طال ليلك! وحسر اللثام عن فيه. وسمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين عليه السلام فقال: يا قوم! ابن مرجانة والذي لا إله غيره! فعرفه النعمان ففتح له، وتنادى الناس: ابن مرجانة! وحصبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر37، وضربوا الباب في وجوه الناس"38. لقد أظهرت كيفية دخول ابن زياد الكوفة مدى الشلل في الجهاز الأمني الأموي، ومدى الحالة العامة المعنوية المؤيدة للإمام الحسين عليه السلام. تفعيل التشكيلات الأمنية الأموية في الكوفة هو المهمة الأولى التي عمل ابن زياد عليها، فبعد أن دخل القصر، واطلع على حقيقة مجريات حركة الأحداث في الكوفة، مهّد لقراراته وإجراءاته بخطاب إرهابيّ توعّد أهل الكوفة فيه بالسوط، والسيف، ورغّبهم بالانقياد39. ثم أتبع خطابه بإجراءات أمنية، تمثلت في إعادة ضبط وتفعيل التشكيلات الأمنية، وأهم فئة فيه هم العرفاء، أي المسؤولين الأمنيين المباشرين في الأحياء ووسط القبائل، فاستدعاهم وأخذهم أخذاً شديداًً، وطلب منهم تزويده بالتقارير: اكتبوا إليّ الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية، وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق! فمن كتبهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب لنا أحداًً يضمن لنا ما في عرافته ألّا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذمّة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وألغيت تلك العرافة من العطاء، وسُيّر إلى موضع بعمان الزارة"40. لقد كان لمبادرة ابن زياد هذه أهمية كبيرة في تحويل الأحداث في ساحة الكوفة إلى غير المجرى الذي كان تجري فيه بهدوء تحت إشراف ابن عقيل، إذ كان العرفاء الواسطة بين السلطة والناس آنذاك، فهم المسؤولون عن أمور القبائل، يوزعون عليهم العطاء، ويقومون بتنظيم السجلات العامة، التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال، ويسجّل فيها من يولد ليفرض له العطاء، ويحذف منها الميّت ليحذف عطاؤه، وكانوا أيضاً مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا أيام الحرب يقومون بأمور تعبئة الناس لها، ويخبرون السلطة بأسماء المتخلّفين عنها، وتعاقب السلطة العرفاء أشدّ العقوبة إذا أهملوا واجباتهم أو قصّروا فيها، ولقد كان للعرفاء بعد هذا القرار دور كبير في تخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الخوف والرهبة بينهم، كما كان لهم بعد ذلك دور كبير في زجّ الناس لحرب الإمام الحسين عليه السلام. ولما سمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد إلى الكوفة ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، لم يعد بقاؤه في دار صهر الوالي نافعاً، إذ لم يعد هذا في السلطة، وكان عليه أن يبادر إلى الإستعانة بعناصر قوة سريعة، لاتعتمد فقط على البيعة والولاء لأهل البيت، بل على عنصر الولاء القبلي، لمواجهة التطور الأمني الجديد الذي تمثل باستنهاض وتفعيل القوة الأمنية الأموية، خصوصاً وأن المختار ليس له من القوة القبلية في الكوفة ما يجعله في منعة، بعكس ما عليه هانيء بن عروة المرادي من العزة والقوة القبلية في الكوفة41. فخرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هانيء بن عروة المرادي، شيخ مذحج، من أقوى قبائل الكوفة، وزعيمها، فدخلها، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانيء على تستر واستخفاء من عبيد الله، وتواصوا بالكتمان..."42. تصفية وجوه الشيعة وحبسهم اتخذ ابن زياد وضعية الهجوم، للسيطرة على زمام الأمور والقضاء على حركة مسلم، فبادر إلى تقصّي رجال الشيعة في الكوفة وإلقاء القبض عليهم وقتلهم، فحبس ميثم التمار وقتله وصُلب معه تسعة آخرون في دُفعة واحدة!. وقتل رشيد الهجري43، وحبس المختار وعبد الله بن الحارث44، وسليمان بن صرد، وإبراهيم بن مالك الأشتر45. محاولة اكتشاف مركز مسلم بن عقيل كان الهم الأكبر لعبيد الله بن زياد منذ بدء تفعيله لجهازه الأمني هو معرفة مكان مسلم بن عقيل، وقد تم له ذلك بسهولة، عبرعميل تظاهر بأنه رجل من أهل الشام ومن أهل حمص 46، وأنه مولى لذي الكلاع الحميري في الشام، وأنه محب لأهل البيت وأنه يحمل مالاً لهم، حتى لا يكون بإمكان مسلم بن عوسجة أن يسأل ويستفسر عن حقيقة حاله في قبائل الكوفة، ولعل أهل حمص آنذاك قد عُرف أن فيهم من يحبّ أهل البيت عليه السلام، فيكون ذلك مدعاة لاطمئنان من يتخذه "معقل" منفذاً لاختراق حركة مسلم، كما أن المعروف عن جلّ الموالي حبّهم لأهل البيت عليه السلام. فاخترق هذا العميل الموانع الأمنية المحيطة بمسلم ووصل إلى مركزه، عبر إيقاع مسلم بن عوسجة في الفخ. ولا يحتاج تعرفه على ابن عوسجة إلى كثير جهد ومشقة، إذ كان وجيهاً شيعياً معروفاً في الكوفة، وقد كشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه عليه حين قال له: سمعت نفراً يقولون: هذا رجلٌ له علم بأهل هذا البيت، فأتيتك لتقبض هذا المال وتدلّني على صاحبك فأبايعه، وإن شئت أخذت البيعة له قبل لقائه!"47 ولقد عبّر له ابن عوسجة عن استيائه لسرعة تعرّفه عليه وقوله: "... ولقد ساءتني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته.."48. إن عبارة مسلم بن عوسجة (ولقد ساءتني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته) تدل على مدى سيطرة عبيد الله بن زياد على الشارع وعلى مدى سريّة وتكتم وخفاء حركات مسلم بن عقيل، وتدل أيضاً على أن تشكيلات مسلم لم تنضج بعد وتنمو بشكل يصح الاعتماد عليها والانطلاق بها49. كشف موقع مسلم بن عقيل ثم إن ابن عوسجة أخّر معقلاً أياماً قبل أن يطلب الإذن له، وكان يجتمع معه في منزله هو تلك الأيام "اختلف إليّ أياماً في منزلي فإني طالب لك الإذن على صاحبك..."50 ثم لم يدخله على مسلم بن عقيل حتى طلب له الإذن فأذن له. وهكذا، استطاع عبيد الله بن زياد اختراق جماعة مسلم عبر هذا العميل الذي أوصله مسلم بن عوسجة إلى مقر مسلم في دار هانيء، حيث كان يمكث النهار بطوله يراقب الغادين والرائحين، وفي الليل كان يضع عبيد الله بن زياد في حصيلة معلوماته. فكرة اغتيال عبيد الله بن زياد في دار هانيء بن عروة وسواء كان المريض في الروايات هو هانيء بن عروة أو هو شريك بن الأعور الهمداني، وسواء كان الذي وضع خطة الاغتيال وحرّض عليها هو هانيء بن عروة أم هو شريك.. إلا أن الثابت أن مسلماًً رفض تنفيذ هذه الخطة، لأن هانيء أبى وكره أن يتم الاغتيال في داره، أو لأن امرأة في داره هي التي أبت ذلك، ولا غرابة في ذلك فليس من أخلاق أهل البيت خيانة الأمانة ولا الفتك ولا الغدر بمن استضافهم وأدخلهم داره، فقد كانت خطة الاغتيال وإن حققت نصراً عاجلاً تعتبر نقيصة في الأخلاق السياسية لأهل البيت لما فيها من الإساءة وعدم الوفاء لهانيء، خصوصاً وأن عملية الاغتيال هذه سوف تكون في عرف العرب سبباً في السبّة والمعابة على هانيء، فقد جاء عبيد الله ليزوره أو ليعوده والعرب لا تسيء إلى ضيفها حتى ولو كان عدواً51. ولكن ابن الأثير52، خلافاً لقاعدته في النقل الأعمى عن الطبري، زاد هنا برهاناً على عمى بصيرته كلمة (بمؤمن) في رواية (فلا يفتك مؤمن بمؤمن) ونسبها إلى مسلم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه يريد أن مسلماًً يصف عبيد الله بن زياد بأنه مؤمن، وهذا ينسجم مع قاعدته في تقديس السلطان وإن كان جائراًً. اعتقال هانيء بن عروة بعد أن علم عبيد الله بن زياد بموقع مسلم قرّر المبادرة إلى الهجوم، وكانت أول خطوة اعتقال هانيء، فاستدرجه عبر رؤوس أهل الكوفة، فاستأمن، ودخل القصر متخلياً عن الحذر، حيث واجهه عبيد الله بن زياد بالجاسوس، فأوقع في يده واعترف، لكنه بادر إلى الهجوم معتمداً على قوة عشيرته، ولكن عبيد الله بن زياد اعتقله، وساعده قريبه عمرو بن الحجاج في تفريق عشيرته حينما جاءت لنجدته، كما لعب شريح القاضي دوراً سيئاً في التعمية على العشيرة، فبقي هانيء معتقلاً في القصر، واستطاع عبيد الله بن زياد إخراج قبيلة مذحج من ساحة المعركة وجرّد مسلم بن عقيل من قوة قبيلة كانت ستكون تحت تصرفه لو أن هانيءاً طليق53. إنتفاضة مسلم بن عقيل هل كان ينبغي لأهل الكوفة المعارضين للحكم الأموي أن يُعدَّوا العدة ويستبقوا الأمور، والمبادرة إلى السيطرة على الوضع في الكوفة قبل مجيء الإمام عليه السلام إليها، وذلك بالقيام بإجراءات وقائية احترازية، كاعتقال الوالي الأمويّ ومعاونيه، ومنع الخروج من الكوفة لحجب أخبارها عن مسامع السلطة الأموية أطول مدة ممكنة حتى يصل الإمام عليه السلام فيمسك بزمام الأمور ويقود الثورة؟ لم يكن من الممكن أن تصدر هذه المبادرة عن أهل الكوفة، حتى مع وجود ذوي الخبرات العسكرية فيهم، وإذا كان من المظنون جداًً أن تكون فكرة هذه المبادرة قد خطرت في ذهن بعضهم، إلاّ أنها لم يكن من الممكن لها أن تتحول إلى مبادرة جماعية تنفيذية على الأرض. فقد كان أهل الكوفة من قبائل شتى، لكل قبيلة وجهاؤها وأشرافها المتعددّون، ولكلّ منهم تأثير في قبيلته لا يتعداه إلى القبائل الأخرى، ولم يكن من السهل أن يكون لهذا العدد الكبير من القبائل عميدٌ واحد يرجعون إليه في أمورهم، ويصدرون عن رأيه وقراره وأمره. كذلك لم يكن من السهل أبداًً أن تصدر مواقفهم إزاء الأحداث عن تنسيق بينهم وتنظيم يوحّد بين تلك المواقف. لقد كان ذلك شبيه بالمستحيل في ذلك الزمان!! ولقد ترسخت هذه الحالة، في أهل الكوفة خاصة والعراق عامة، نتيجة السياسات التي مارسها معاوية، وبتركيز خاص على الكوفة، وكان عمادها الإرهاب والقمع، والمراقبة الشديدة، والاضطهاد والقتل الذي تعرّض له كثير من أهل الكوفة ومن زعمائهم خاصة، وبث عناصر الفرقة والتناحر بين القبائل، الأمر الذي زرع بين الناس، على مدى عشرين سنة، الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة النظام الأمني الأموي، وضعف الثقة بالنفس، وعدم الإطمئنان لبعضهم البعض، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار. ولم تكن جميع قبائل الكوفة معادية للنظام الأموي، وإذا ما كانت قبيلة معادية له فلم تكن كذلك بجميع أفرادها، بل كثيراً ما نجد انقساماً للولاء في نفس أفراد القبيلة الواحدة، ففي كلّ قبيلة إذا كان هناك من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيت عليه السلام، فقد كان هناك أيضاً من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، بل قد يكون في بعض هذه القبائل من الموالين للحكم الأموي أكثر من المعارضين له عامة والموالين لأهل البيت عليه السلام خاصة. ولذلك كان من الصعب جداًً أن يستطيع رؤساء القبائل التأثير النفسي والمعنوي على قبائلهم ودفعهم للثورة ضد الحكم الأموي علانية، ذلك لأن عناصر أخرى، قد تكون أساسية أيضاً، في نفس القبيلة، ممّن يخدمون في أجهزة الأمويين الأمنية أو يوالونهم، سوف يحبطون ذلك، بالتخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم، أو من خارجها بالإستعانة بالسلطة الأموية نفسها، وذلك إما بإخبار السلطة الأموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم، وإما بالمبادرة إلى إجهاض تحرك زعيم قبيلتهم، ومحاصرته ومنعه من استنهاض القبيلة ضد النظام الأموي، وذلك بإحداث حالة من التنازع الداخلي بين أفراد القبيلة ودفعها نحو عدم أخذ قرار إجماعي ضد أحد طرفي النزاع، فتميل القبيلة إلى الحياد بين الأطراف المتنازعة، وبهذا ينجو النظام الأموي، وتخرج هذه القبيلة من عداد أعدائه، فيُقضى بذلك على العمل قبل البدء فيه، هذا إذا لم يقض على الزعيم وعلى أنصاره أيضاً. ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلاً، كان زعيم القبيلة معاد للنظام الأموي، وهو هانيء بن عروة، ولكن كان بإزاءه زعيم آخر موال للنظام الأموي، وإن كان أقل منه مرتبة في القبيلة، هو عمرو بن الحجاج الزبيدي، الذي قدّم خدمة كبيرة للأمويين، حينما ركب موجة قبيلة مذحج التي استنفرت لإطلاق سراح هانيء، فصرفهم عن اقتحام القصر وفرّق جموعهم بمكيدة شارك في حبكها عبيد الله بن زياد وشريح القاضي. المهمة الصعبة لمسلم بن عقيل من هنا كانت مهمة مسلم، التي أرسله من أجلها الإمام عليه السلام إلى الكوفة، هي تعبئة وإعداد الموالين للإمام الحسين عليه السلام والمعارضين للحكم الأموي في الكوفة، وتنظيمهم في تشكيلات أمنية وعسكرية مؤاتية لمواجهة المهام المقبلة، التي أولها السيطرة على الوضع داخل الكوفة، وقد لا يكون آخرها الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع الجيش الأموي الشامي. لقد كان ذلك يحتاج إلى وقتٍ بحيث تُسدُّ كل الثغرات والنواقص المعنوية والتنظيمية، على الأقل من أجل إنجاز المرحلة الأولى وهي إعادة الكوفة إلى حظيرة الطاعة والإنقياد لقيادة الإمام الحسين المقبلة من الحجاز، حتى إذا وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة، فإنه سوف يكون هو القائد المباشر، ويواصل من موقعه المقدس في القلوب، وعلى طريقته، قيادة الثورة واستكمال المشروع الإصلاحي والتغييري العام. من هنا، تحاشى مسلم الدخول في أي مواجهة ميدانية فاصلة قبل أوانها مع السلطة الأموية المحليّة في الكوفة، حتى يستكمل الإعداد والتحضير، كذلك كانت هذه السلطة لا تريد تلك المواجهة الميدانية الفاصلة مع حركة مسلم بن عقيل، إما لاعتبارات شخصية تربك حركة الوالي، كوجود قيادة هذه الحركة في دار صهره المختار، أو لطمع في نفس هذا الوالي بإمكانية السيطرة على هذه الحركة واستيعابها بالسياسة، على طريقة معاوية، أو لعدم وجود مقدرة شخصية سلطوية عند الوالي على تفعيل الامكانيات الأمنية المحلية في الكوفة، ومراهنته على وصول نجدة من الشام تتولى هي الموقف. بينما نجد أن الأمر انقلب تماماً مع قدوم عبيد الله بن زياد، الشخصية السلطوية الأمنية الأقوى، إلى الكوفة، فقد كان إلى جانب خبثه ودهائه عارفاً بالوضع السياسي والإجتماعي والنفسي في الكوفة، وبرجالها وقبائلها، وقادراً على الإمساك بالجهاز الأمني وتفعيله وتشغيله بأقصى طاقاته، وأبوه زياد بن أبيه هو الذي أسسه وبناه، وكان قوامه أربعة آلاف رجل، فإذا ما كان هذا الوالي الجديد قادراً على الإمساك بالوضع الأمني، وكان طامحاً إلى إنجاز المهمة التي أوكلها إليه يزيد، طمعاً في تقوية موقعه الإداري ومركزه القيادي عنده فسوف يبادر إلى استعمال أقصى ما يملك من الدهاء والبطش والقسوة بدون الإستعانة بالجيش الأموي. فبادر إلى اختراق حركة مسلم من داخلها بواسطة أحد جواسيسه الأمنيين المحترفين، ثمّ تواطأ مع بعض زعماء الكوفة للإيقاع بهانىء بن عروة واعتقاله، ثم شغّل شريح القاضي في تضليل قبيلة هانىء، ثم استعمل عمرو بن الحجاج في امتطاء موجة غضب مذحج الزاحفة نحو القصر، ثم لصرفها عنه وتفريق جموعها، وبعد أن فصل بين مسلم وأقوى قيادة قبلية كانت معه في الكوفة، أراد الانتقال إلى الخطوة الأخيرة، إعتقال رأس الحركة: مسلم بن عقيل!! الاضطرار والقرار الاستثنائي مثّل اعتقال هاني منعطفاً حرجاً وخطيراً في تقديرات مسلم بن عقيل، اضطره إلى الخروج عن الخطة الأصلية التي كان قد اعتمدها، واتخاذ قرار استثنائي لمواجهة الوضع الطارئ الذي فرضه ابن زياد على الحركة باعتقاله هانياً، فلم يعد طبيعياً الإستمرار في مواصلة التعبئة والإعداد والتحضير، وكأن شيئاًً لم يكن!! فإن هذه المواصلة، من جهة، لم تعد ممكنة بعد اعتقال هانىء، الذي يعد من أقوى وأمنع زعماء القبائل في الكوفة، ومن جهة ثانية، إذا تمكن ابن زياد من اعتقاله ولم يواجه بتحرك صارم من قبيلته ومن بقية عناصر حركة مسلم بن عقيل لإنقاذه، فسوف يبادر عبيد الله بن زياد إلى اعتقال المزيد والمزيد من أشراف وزعماء الكوفة بلا أدنى محذور، بدون أن يتحرك أحد لإنقاذ أيّ رجل من قبضة ابن زياد، أو إنه، من جهة ثالثة، سوف يعتقل مسلماًً نفسه الذي لم يعد آمناً في الكوفة، ولا شك أنه الرجل الثاني الذي سيُعتقل مباشرة بعد هانىء الذي كان أقوى وأمنع حصن يمكن أن يحميه. فأيّ فائدة تبقى بعد اعتقال هانىء في مواصلة التعبئة والتحضير!؟ إذن لا بد من الانعطاف في طريقة العمل، والتخلّي عن مواصلة الإعداد والتحضير، والمبادرة إلى التحرك فوراً، تحت وطأة الضرورة والاضطرار، والدخول في مواجهة حاسمة سريعة مع السلطة الأموية المحلّية في الكوفة. الانتفاضة يقول عبد الله بن حازم: "أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر في أثر هانيء لأنظر ما صار إليه أمره، فلما ضرب وحبس ركبت فرسى وكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين يا عثرتاه يا ثكلاه، فأخبرته الخبر، فأمرني أن أنادي في أصحابي وقد ملأ الدور منهم حواليه، فقال: نادِ: يا منصور أمِتْ! فخرجت فناديتُ، وتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وقال: سر أمامي في الخيل، وقدّمه في الخيل، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد، وقال له: إنزل فأنت على الرّجّالة. وعقد لأبي تمامة الصائدي على تميم وهمدان، وعقد للعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة، ثمّ أقبل نحو القصر"54. وكان عبيد الله بن زياد، خشية أن يثب الناس به 55، قد بادر إلى المسجد، بعد أن حبس هانىء بن عروة وبعد أن صرف قبيلته مذحج مستعيناً بشريح وعمرو بن الحجاج، فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ولا تفرقوا فتختلفوا وتهلكوا وتذلوا وتخافوا وتخرجوا، فإن أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر. وما أن أتم خطبته وذهب لينزل حتى سمع الصيحة، فقال ما هذا؟ فقيل له: أيها الأمير الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من بايعه! فما نزل حتى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون ويقولون: قد جاء ابن عقيل، فدخل عبيدالله القصر و تحرز فيه وأغلق بابه56. وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد، وبين يديه الأعلام وشاكّوا السلاح وهم في ذلك يشتمون عبيد الله بن زياد ويلعنون أباه57، حتى أحاط بالقصر، وكانوا حينما خرجوا مع مسلم أربعة آلاف فما بلغوا القصر إلا وهم ثلثمائة58!!! ثم إن الناس تداعوا إليهم واجتمعوا، وما لبثوا إلا قليلاًً، حتى امتلأ المسجد من الناس والسوقة، ما زالوا يتوثبون حتى المساء، وأمرهم شديد59، فضاق بعبيد الله أمره60، وكان كبر أمره أن يتمسك بباب القصر وليس معه إلا ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه61. إنضمام الأشراف إلى ابن زياد ولما سمع أشراف الكوفة بما يجري لابن زياد أقبلوا يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين، وجعلوا يشرفون على أنصار مسلم، فينظرون إليهم، فيتقون أن يرموهم بالحجارة وأن يشتموهم وهم لا يفترون على عبيدالله وعلى أبيه 62، وكان أنصار عبيد الله بن زياد من الأشراف حتى تلك الساعة قد أصبحوا مائتين!!! فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر63 والنشاب، ويمنعونهم من الدنو من القصر، فلم يزالوا بذلك حتى أمسوا64. الحرب النفسية ودعا عبيدالله بن زياد أعوانه: كثير بن شهاب، فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم الحرب ويحذرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبث بن ربعي التميمي، وحجار ابن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلة عدد من معه من الناس65. محاولة محاصرة مسلم وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل، وينصب الحواجز لكي يمنع الناس من الإلتحاق بمسلم، فألفى عبد الأعلى بن يزيد قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في(حي) بنى فتيان، فأخذه حتى أدخله على ابن زياد فأخبره خبره فقال لابن زياد: إنما أردتك، قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك فأمر به فحبس. وخرج محمّد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يريد ابن عقيل عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه66. مسلم يحاول فك الحصار بعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمن بن شريح الشبامي فلما رأى محمّد بن الأشعث كثرة من أتاه أخذ يتنحى ويتأخر وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمّد بن الأشعث: قد حلّت على ابن عقيل من العرار، فتأخر عن موقفه، فأقبل حتى دخل على ابن زياد من قبل دار الروميين67. تجمع قوة ابن زياد في القصر وانتقالها إلى الهجوم فلما اجتمع عند عبيدالله كثير بن شهاب ومحمّد والقعقاع فيمن أطاعهم من قومهم، وقد ظهر أنه تجمع لدى ابن زياد القوة الكافية للقيام بالهجوم المعاكس على قوة مسلم ومنعها بالتالي من الهجوم على القصر، وعلى الأقل تأخير الهجوم حتى المساء، فقال كثير لابن زياد، وكانوا مناصحين له: أصلح الله الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فأخرج بنا إليهم!! فأبى عبيد الله، وعقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه 68. قتال شوارع حول القصر وركب أصحاب ابن زياد، بقيادة شبث بن ربعي، واختلط القوم، فقاتلوا قتالاًً شديداًً، وعبيد الله بن زياد وجماعة من أهل الكوفة قد أشرفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس 69. الإنهيار المعنوي لأنصار مسلم ثم قال عبيدالله للأشراف: ليشرف كل رجل منكم في ناحية من السور، فخوفوا القوم70، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم، فأشرف كثير بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقمقاع بن شور، وشبث ابن ربعي، وحجار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن71، على قوات مسلم، فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس، يا أهل الكوفة، اتقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقوا عصا هذه الأمة، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم، وجربتم شوكتهم، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت. وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشأم على غير طمع وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرّت أيديها، وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا. الإنهيار العام فلما سمع الناس مقالتهم فتروا بعض الفتور، وأخذوا يتفرقون وينصرفون. وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي ابنه، وأخاه، وابن عمه فيقول: انصرف، فإن الناس يكفونك، غداًً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف! فيذهب به. وتجيء المرأة إلى ابنها وزوجها وأخيها فتقول انصرف! الناس يكفونك، فتتعلق به حتى يرجع. فما زالوا يتفرقون ويتصدّعون حتى أمسى ابن عقيل وما معه إلاّ ثلاثون نفساً في المسجد حتى صلاة المغرب، فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر خرج منصرفاً ماشياً، ومشوا معه، متوجهاًً نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلاّ معه منهم عشرة72. والظاهر الذي لا بد من القول به هنا هو أن قادة الألوية الأربعة، مسلم بن عوسجة، وأبا ثمامة الصائدي، وعبد الله بن عزيز الكندي، وعباس بن جعدة الجدلي، وغيرهم من أمثال عبدالله بن حازم البكري، كانوا من القلة التي بقيت مع مسلم بن عقيل إلى آخر الأمر، ولم يتخلوا عنه في تلك الساعة، ولم يتركوه، بل الأرجح أنه اتفق معهم على التفرق والاختفاء بعد أن أصبحوا لا ناصر لهم ولا معين، على أن يلتحقوا بالإمام الحسين عليه السلام. وقد التحق فعلاً مسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائدي بالركب الحسيني واستشهدوا مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وأماعبد الله بن عزيز الكندي، وعباس بن جعدة الجدلي، فقد اعتقلهم عبيد الله بن زياد ثم قتلهم، وأما عبدالله بن حازم البكري فقد استشهد في ثورة التوابين. مسلم بن عقيل وحيداً ثم خرج مسلم من الباب وإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحس أحداًً يدله على الطريق ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو 73، فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة، وقد أثخن بالجراحات74، لا يدري أين يذهب حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها طوعة، أم ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالاً، وكان بلال قد خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره، وكانت ممن خف مع مسلم 75، فسلم عليها ابن عقيل، فردت عليه، فقال لها: يا أمة الله اسقيني ماء!! فدخلت فسقته، فجلس، وأدخلت الإناء ثم خرجت. فقالت: يا عبد الله ألم تشرب؟ قال: بلى! قالت: فاذهب إلى أهلك! فسكت! ثم عادت فقالت مثل ذلك، فسكت! ثم قالت له: فئ لله! سبحان الله! يا عبد الله! فمر إلى أهلك عافاك الله! فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك! فقام فقال: يا أمة الله مالي في هذا المصر منزل ولا عشيرة! فهل لك إلى أجر ومعروف ولعلي مكافئك به بعد اليوم؟؟ فقالت: يا عبد الله! وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل!! كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني! قالت: أنت مسلم؟ قال: نعم! قالت: ادخل! فأدخلته بيتاً في دارها، غير البيت الذى تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال: والله إنه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه، إن لك لشأناً. قالت: يا بنى اله عن هذا!! قال لها: والله لتخبرني. قالت: أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء! فألح عليها، فقالت: يا بنيّ لا تحدّثن أحداً من الناس بما أخبرك به، وأخذت عليه الإيمان، فحلف لها فأخبرته، فاضطجع وسكت، وزعموا أنه قد كان شريداً من الناس، وقال بعضهم كان يشرب مع أصحاب له76. عبيد الله بن زياد يسيطر على الوضع ولمّا تفرّق الناس عن مسلم، طال على ابن زياد، وأخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمعه قبل ذلك، فقال لأصحابه: أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحداً؟ وكان المسجد مع القصر. فأشرفوا، فلم يروا أحداً، فقال ابن زياد: فانظروا، لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم! فنزعوا تخائج المسجد، وجعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم ثم ينظرون هل في الظلال أحد، وكانت أحياناً تضيء لهم وأحياناً لا تضيء لهم كما يريدون، فدولوا القناديل وأطناب القصب، تشد بالحبال ثم تجعل فيها النيران ثم تدلى حتى تنتهي إلى الأرض، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها، حتى فعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلما لم يروا شيئاً وأعلموا ابن زياد، فقال ابن زياد: إن القوم قد خذلوا، وأسلموا مسلماً. وانصرفوا. فخرج فيمن كان معه، وجلس في المسجد، ووضعت الشموع والقناديل، ففتح باب السدة التي في المسجد، ثم خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة. ابن زياد يستنفر كامل جهازه الأمني لاعتقال مسلم وأمر ابن زياد عمرو بن نافع، فنادى: ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة والحرس صلّى العتمة إلا في المسجد، فلم يكن له إلا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة، فقال الحصين بن نمير: إن شئت صليت بالناس أو يصلّي بهم غيرك ودخلت أنت فصليت في القصر فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك، فقال: مر حرسي فليقوموا ورائي كما كانوا يقفون ودر فيهم فإني لست بداخل إذاً. فصلّى بالناس العشاء، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته، اتقوا الله عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً. ثم قال للحصين بن نمير السكوني: يا حصين ابن نمير، ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة لم تطبق على أهلها، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، فوالله لئن خرج من الكوفة سالماً لنريقن أنفسنا في طلبه، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدة على أفواه السكك وأصبح غداًً واستبر الدور، داراً داراً، وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل، وكان الحصين على شرطه، وهو من بني تميم، ثم نزل ابن زياد فدخل القصر وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمّره على الناس77. إنكشاف مكان مسلم فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل في أوائلهم محمّد بن الأشعث فقال: مرحباً بمن لا يستغش ولايتهم، ثم أقعده إلى جنبه معه على سريره،وأصبح ابن تلك العجوز وهو بلال بن أسيد الذى آوت أمه ابن عقيل فغداً إلى عبد الرحمن بن محمّد ابن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمه، فقال له عبد الرحمن: أسكت الآن ولا تعلم بهذا أحداًً من الناس، ثم أقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارّه في أذنه وقال: إن مسلماًً في دار طوعة، فقال له ابن زياد: ما قال لك عبد الرحمن؟ فقال: أصلح الله الأمير، البشارة العظمى! فقال عبيد الله بن زياد: وما ذاك؟ ومثلك من بشّر بخير! فقال محمّد بن الأشعث: إن ابني هذا أخبرني أن ابن عقيل في دار من دورنا، في دار طوعة، مولاة لنا. فسُرّ بذلك عبيد الله بن زياد، ونخس بالقضيب في جنبه ثم قال: قم فأتني به الساعة، ولك ما بذلت من الجائزة والحظّ الأوفى. وحين قام ابن الأشعث ليأتيه بابن عقيل بعث ابن زياد إلى عمرو بن حريث، وهو في المسجد خليفته على الناس، أن أبعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلاً كلهم من قيس أو قريش78، لأن قيس وقريش من عرب الشمال الذين يبغضون علي بن أبي طالب عليه السلام لأنه قتل رجالهم في بدر وأحد والأحزاب والجمل وصفين، فهم مستعدون لقتل ابن أخيه مسلم بن عقيل، بخلاف أهل الجنوب، اليمنيين الذين يحبون علي بن ابي طالب عليه السلام. وإنما كره أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل، فبعث معه عمرو بن عبيدالله بن عباس السلمى في ستين أوسبعين من قيس حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل79. المعركة الأخيرة وشهادة مسلم بن عقيل فلما سمع مسلم بن عقيل وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قد أتي في طلبه، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه، وصب عليه درعه، واعتجر بعمامة، وتقلد سيفه والقوم يرمون الدار بالحجارة، فتبسم مسلم، ثم قال للمرأة: رحمك الله وجزاك عني خيراًً، إعلمي أني أوتيت من قبل ابنك، ولكن افتحي الباب. ففتحت الباب، فاقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمري ضربتين فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا، وأشرع السيف في السفلى ونصلت لها ثنيتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة، وثنّى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه، فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، وظهروا فوقه، فأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت. فلما رأى ذلك قال: أكلما أرى من الإجلاب لقتل ابن عقيل؟ يانفس اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص، ولا عنه محيد، فخرج مصلتاً سيفه إلى السكة، وجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل منهم جماعة، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فأرسل إلى محمّد بن الأشعث أن أعطه الأمان، فإنك لن تقدر عليه إلاّ بالأمان80! وأخذوا يرمون مسلماًً بالحجارة فقال: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفّار!؟ وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار! ويلكم، أما ترعون حقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذرّيته!؟ ثم حمل عليهم على ضعفه فكسرهم! وفرّقهم في الدروب! ثم رجع وأسند ظهره إلى باب دار هناك، فرجع القوم إليه، فصاح بهم محمّد بن الأشعث: ذروه حتى كلمه بما يُريد. ثم دنا منه ابن الأشعث حتى وقف قبالته وقال: ويلك يا ابن عقيل! لا تقتل نفسك، أنت آمن ودمك في عنقي! فقال له مسلم: أتظنّ يا ابن الأشعث أني أعطي بيدي أبداًً وأنا أقدر على القتال!؟ لا والله لا كان ذلك أبداًً! ثم حمل عليه حتى ألحقه بأصحابه، ثم رجع إلى موضعه فوقف وقال: اللهم إن العطش قد بلغ منّي! فلم يجسر أحد أن يسقيه الماء ولا قَرُبَ منه! فأقبل ابن الأشعث على أصحابه وقال: ويلكم! إن هذا لهو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! إحملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة!81. فطُعن من ورائه طعنة فسقط إلى الأرض، فأقبل عليه محمّد بن الأشعث فقال: يا فتى لك الأمان، لا تقتل نفسك. فقال مسلم: لا حاجة لي إلى أمان الغدرة، ثم أقبل يقاتلهم وهو يقول:
أضـربكم ولا أخـاف ضــرّا
فقال له محمّد بن الأشعث: ويحك يا ابن عقيل، إنك لا تكذب ولا تخدع ولا تغر، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، فلا تقتل نفسك! ولكن مسلم بن عقيل لم يلتفت إلى كلامه وجعل يقاتل حتى أثخن بالجراح، وتكاثروا عليه وجعلوا يرمونه بالحجارة، فعجز عن القتال، وانبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فدنا محمّد بن الأشعث فقال: لك الأمان! فقال له مسلم: آمن أنا؟ قال: نعم! وقال القوم جميعاً: أنت آمن! غير عمرو بن عبيدالله بن العباس السلمي، فإنه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وتنحى. وقال ابن عقيل أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم، فأُخذ أسيراً، وأتي ببغلة فحمل عليها، واجتمعوا حوله، وسلبه ابن الأشعث حين أعطاه الأمان سيفه وانتزعه من عنقه82، وتقدّم رجل من بني سليمان يُقال له عبيد الله بن العباس فأخذ عمامته!"83. فكأنه عند ذلك آيس من نفسه فدمعت عيناه، وعلم أن القوم قاتلوه، فقال: هذا أول الغدر! فقال محمّد بن الأشعث: أرجو ألا يكون عليك بأس! قال مسلم: ما هو إلا الرجاء، أين أمانكم؟! إنا لله وإنا إليه راجعون، وبكى. فقال له عمرو بن عبيدالله بن عباس السلمي: إن من يطلب مثل الذى تطلب إذا نزل به مثل الذى نزل بك لم يبك! قال مسلم: "نى والله ما لنفسي أبكي ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي لحسين وآل حسين، ثم أقبل على محمّد بن الأشعث فقال له: يا عبد الله! إني أراك والله ستعجز عن أماني فهل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلغ حسيناًً، فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلاً، أو هو خرج غداً هو وأهل بيته، وإن ما ترى من جزعي لذلك، فيقول إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير، لا يرى أن تمشي حتى تقتل، وهو يقول ارجع بأهل بيتك ولا يغرك أهل الكوفة فانهم أصحاب أبيك الذى كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل إن أهل الكوفة، قد كذبوك وكذبوني وليس لمكذوبٍ رأي، فقال ابن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك. وأقبل محمّد بن الأشعث بمسلم ابن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن فأذن له، فأخبر عبيدالله خبر ابن عقيل وضرب بكير إياه، فقال: بعداً له، فأخبره محمّد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إياه، فقال عبيدالله: ما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك تؤمنه!! إنما أرسلناك تأتينا به!! فسكت!! وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب، وإذا قلة باردة موضوعة على الباب فقال: اسقوني من هذا الماء!! فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها؟؟ لا والله لا تذوق منها قطرة أبداًً حتى تذوق الحميم في نار جهنم! قال له مسلم: ويحك من أنت؟؟ قال: أنا ابن من عرف الحق إذا أنكرته! ونصح لإمامه إذ غششته! وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت! أنا مسلم بن عمرو الباهلي! فقال مسلم: لأمك الثكل! ما أجفاك وما أفظك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني. ثم جلس متسانداً إلى حائط، وجاؤوه بقلة عليها منديل ومعه قدح فصب فيه ماء ثم سقاه، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دماً، فلما ملأ القدح المرة الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه فيه فقال: الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم شربته. ثم أُدخل مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد فقال له الحرسي: سلّم على الأمير! فقال له مسلم: أُسكت لا أُمّ لك! مالك وللكلام! والله ليس هو لي بأميرٍ فأسلّم عليه!84 فقال له عبيد الله بن زياد: لا عليك! سلّمت أم لم تسلّم، فإنك مقتول! فقال مسلم بن عقيل: إن قتلتني فقد قتل شرٌ منك من كان خيراًً منّي! فقال ابن زياد: يا شاقّ! يا عاقّ! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألحقت الفتنة! فقال مسلم: كذبت يا ابن زياد! والله ما كان معاوية خليفة بإجماع الأمّة، بل تغلب على وصيّ النبي بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة الغصب، وكذلك ابنه يزيد! وأمّا الفتنة فإنك ألحقتها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف! وانا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته! فوالله ما خالفت ولا كفرتُ ولا بدّلتُ! وإنما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحسين بن علي، بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد! فقال له ابن زياد: يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله! قال: فمن أهله يا ابن مرجانة؟ قال: معاوية وأمير المؤمنين يزيد!! فقال مسلم: الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم! قال: كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئاً؟ قال: لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين! قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة