لنهضة الحسينية
كان الإمام الحسين بن علي عليه السلام في نظر الأمة والمجتمع (أعظم الخلف ممن مضى)1، والبقية الباقية من أهل بيت النبوة وبقية آية التطهير وآية المودة وآية المباهلة، حتى عند أعدائه من بني أمية2 والمنحرفين عنه3 وكان الصحابة والتابعون يطلقون عليه لقب: سيد أهل الحجاز4، وسيد العرب5، والسيد الكبير الذي ليس على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساميه ولا يساويه6، وكان المخلصون وكل من أهمّه أمر الإسلام ينتظر منه التحرّك 7.
وقد كان الصحابة والتابعون، وكل من تناقل واهتم بالحديث النبوي، يعرف بأنه سيد الشهداء وأنه يقتل مظلوماً في كربلاء، وأن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن تنال قتلته، إنهم كانوا يعرفون الطاغية الذي يأمر بقتله، ومن يقود الجيش الذي يقتله، ومن يحمل الرأس الشريف8، ويتداولون الأخبار التي استفاضت في التحذير من خذلانه والنهي عن عدم نصرته، ومع ذلك، فقد تجاوب القليل مع الأوامر النبوية، وتخاذل الأكثر. 9
منهج الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام
لقد عاصر الإمام الحسين عليه السلام ، بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن عليه السلام ، عشر سنوات من حكم معاوية، الذي كشف واقع أهدافه بكل صراحة بعد إبرام وثيقة الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام ، ولخّصها في أن هدفه هو الاستيلاء على السلطة والسيطرة على الحكم 10.
وكان معاوية يتدرج في تنفيذ المخطط الأموي، الذي أفصح عنه أبو سفيان حين تولى عثمان منصب الحكم، إذ اعتبر خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كرة يتلاعب بها صبيان بني أمية11.
ولم يسكت الإمام الحسين عليه السلام بعد إبرام الصلح مع معاوية، بل كان يتحرَّك وفق مسؤوليته تجاه شريعة ربّه وأمّة جده صلى الله عليه وآله وسلم بصفته وريث النبوة، بعد أخيه الإمام الحسن عليه السلام ، مراعياً ظروف الأمة ومراقباً لمدى تدهورها وساعياً للمحافظة على ثمرة جهود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فحاول اختراق حصار التضليل الأموي عبر أنشطة مختلفة، من الوعظ والإرشاد إلى حلقات التدريس، إلى الخطب في التجمعات العامة في موسم الحج، بل حتى في مجلس معاوية نفسه، فعرّف مكانة أهل البيت عليه السلام وفضلهم12، وأنهم حجج الله على خلقه أحياءً وأمواتاً13.
وقد عمل الإمام في فترة حكم معاوية على تحصين الأمة ضد الإنهيار التام ويمكن أن نلخّص مجمل نشاطه في هذه الفترة فيما يلي:
رفض بيعة يزيد
أعلن الإمام الحسين عليه السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد بعدما قرّر معاوية أن يسافر إلى المدينة ليتولى بنفسه إقناع المعارضين، وقد اتّسم موقف الإمام عليه السلام مع معاوية بالشدة والصرامة14.
التنديد بسياسة معاوية واستقبال المعارضة
أعلن الإمام الحسين عليه السلام وفي مناسبات مختلفة عن اعتراضه على سياسة معاوية وعلى نقضه لشروط الصلح، واحتج على ممارسات ولاته وظلمهم وانحرافاتهم. وأخذ يحذّر المسلمين علناً من سياسة معاوية الهدّامة.
ولما استشهد الإمام الحسن عليه السلام تحركت الشيعة في العراق وكتبوا إلى الحسين عليه السلام في خلع معاوية والبيعة له، وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلامية وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الإضطهاد، فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك15.
ونقلت العيون في يثرب إلى السلطة المحليّة تجمّع الناس واختلافهم إلى الإمام، وكان الوالي مروان بن الحكم، ففزع من ذلك وخاف من عواقبه، فأرسل رسالة إلى معاوية جاء فيها: أمّا بعد فقد كثر اختلاف الناس إلى الحسين، والله إني لأرى لكم منه يوماً عصيباً16، وروي أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية وهو عامله على المدينة: أمّا بعد، فإن عمرو بن عثمان ذكر أن رجالاً من أهل العراق، ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وذكر أنه لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده، فاكتب إليَّ برأيك في هذا والسلام. فكتب إليه معاوية: أمّا بعد، فقد بلغني وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين، فإيّاك أن تعرض للحسين في شيء، واترك حسيناًً ما تركك، فإنّا لا نريد أن نعرض له في شيء ما وفى بيعتنا، ولم ينازعنا سلطاننا، فاكمن عنه ما لم يبد لك صفحته والسلام17. فاضطرب معاوية من تحرك الإمام فكتب إليه رسالة قال له فيها: أمّا بعد، فقد انتهت إليَّ أمور عنك إن كانت حقاً فقد أظنك تركتها رغبة فدعها، ولعمر الله إن من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، فإن كان الذي بلغني باطلاً فإنّك أنت أعزل الناس لذلك، وعظ نفسك، فاذكر، وبعهد الله أوف، فإنّك متى ما تنكرني أنكرك، ومتى ما تكدني أكدك، فاتق شق عصا هذه الأمة وأن يردهم الله على يديك في فتنة، فقد عرفت الناس وبلوتهم، فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمّد، ولا يستخفنك السفهاء والذين لا يعلمون.
فلمّا وصل الكتاب إلى الإمام الحسين عليه السلام كتب إليه رسالة يحمّله فيها مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض الأمة للأزمات، وهي من الرسائل التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية، فقال له فيها: " أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر أنه قد بلغك عني أمور(أن بي عنها غنى وزعمت أنّي راغب فيها) أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، فإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلا الله.
وأمّا ما ذكرت أنه انتهى إليك عني، فإنه إنما رقاه إليك الملاقون المشاؤون بالنميم، وما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً، وأيم الله إني لخائف لله في ترك ذلك، وما أظن الله راضياً بترك ذلك، ولا عاذراً بدون الإعذار فيه إليك، وفي أولئك القاسطين الملحدين حزب الظلمة، وأولياء الشياطين. ألست القاتل حجراً أخا كندة، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلَّظة، والمواثيق المؤكدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا بإحنة تجدها في نفسك. أوَ لَست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة، فنحل جسمه، وصفرت لونه، بعد ما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأةً على ربك واستخفافاً بذلك العهد. أَو َلست المدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " فتركت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعمداً وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على العراقين: يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك. أو َلَست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم كانوا على دين علي صلوات الله عليه فكتبت إليه أن: أقتل كل من كان على دين علي، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين علي عليه السلام والله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، به جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين18.
وقلت فيما قلت: " انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمّد، واتق شق عصا هذه الأمة وأن تردهم إلى فتنة " وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمّد صلّى الله عليه وآله علينا أفضل من أن أجاهدك فإن فعلت فإنه قربة إلى الله، وإن تركته فإني أستغفر الله لذنبي، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.
وقلت فيما قلت " إني إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني" فكدني ما بدا لك، فإني أرجو أن لا يضرني كيدك فيّ، وأن لا يكون عليّ أحد أضر منه على نفسك، لأنك قد ركبت جهلك، وتحرصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا، وقتلوا ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقنا، فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أن لله تعالى كتاباًً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب، لا أعلمك إلا وقد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغششت رعيتك، وأخزيت أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي لأجلهم والسلام ".
فلما قرأ معاوية الكتاب قال: لقد كان في نفسه ضب ما أشعر به! فقال يزيد: يا أمير المؤمنين أجبه جواباً يصغِّر إليه نفسه وتذكر فيه أباه بشَرِّ فعله، قال: ودخل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له معاوية: أما رأيت ما كتب به الحسين؟ قال: وما هو ؟ قال: فأقرأه الكتاب، فقال: وما يمنعك أن تجيبه بما يصغِّر إليه نفسه، وإنما قال ذلك في هوى معاوية، فقال يزيد: كيف رأيت يا أمير المؤمنين رأيي ؟ فضحك معاوية فقال: أما يزيد فقد أشار علي بمثل رأيك، قال عبد الله:
فقد أصاب يزيد فقال معاوية: أخطأتما! أرأيتما لوأني ذهبت لعيب علي19 محقاًً ما عسيت أن أقول فيه، ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل، وما لا يعرف، ومتى ما عبت رجلاًً بما لا يعرفه الناس لم يحفل بصاحبه، ولا يراه الناس شيئاًً وكذَّبوه، وما عسيت أن أعيب حسيناًً ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً، وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعده وأتهدده،( وأسفّهه وأجهّله) ثم رأيت أن لا أفعل ولا أمحكه.
قال في الإحتجاج: فما كتب إليه بشيء يسوؤه ولا قطع عنه شيئاًً كان يصله به، كان يبعث إليه في كل سنة ألف ألف درهم، سوى عروض وهدايا من كل ضرب 20.
الاحتكاك بسلطة معاوية واختبار ردة فعله
وكان أول احتكاك بين الإمام الحسين عليه السلام وبني أمية، في اليوم الأول من إمامته، فبعد شهادة أخيه الحسن عليه السلام21 أراد الإمام عليه السلام دفنه قرب جده صلى الله عليه وآله وسلم فاستنفر مروان بن الحكم بني أمية وأمَّ المؤمنين عائشة، وكاد يقع القتال بينهم وبين بني هاشم. إذ خرجت أم المؤمنين على بغلة أحضرها لها مروان ومنعت الإمام عليه السلام من دفن أخيه قرب جده. وقد حال الإمام عليه السلام دون نشوب قتال وسفك دماء وصيّةً من الإمام الحسن عليه السلام22. لقد كانت هذه الحادثة إيذاناً بصورة ما سوف يكون عليه الوضع بين الإمام الحسين عليه السلام والأمويين.
وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة على تدعيم ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أمية لتقوية مركزهم السياسي والإجتماعي، وكان الإمام الحسين عليه السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأي أساس شرعي، ولا يقوم إلا على القمع والإرهاب، وقد اجتازت على المدينة أموال من اليمن إلى خزينة دمشق فعمد الإمام عليه السلام إلى مصادرتها وتوزيعها على المحتاجين، وكتب إلى معاوية: " من الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فإن عِيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن دمشق وتعلّ بها بعد النهل بني أبيك، وإني احتجتها فأخذتها، والسلام" وقد أجابه معاوية برسالة يهدده فيها بمن يأتي بعده، يعني يزيد23.
إعلان المعارضة في موسم الحج
فلما كان قبل موت معاوية بسنة حجَّ الإمام الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر معه. فجمع الحسين عليه السلام بني هاشم، رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم من حجَّ منهم، ومن الأنصار ممن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته. ثم أرسل رسلاً: " لا تدعوا أحداًً ممن حج العام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعروفين بالصلاح والنسك إلا اجمعوهم لي ". فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل24 وهم في سرادقه، عامتهم من التابعين ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وغيرهم. فقام فيهم الحسين عليه السلام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإني أريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدقت فصدقوني وإن كذبت فكذبوني. أسألكم بحق الله عليكم وحق رسول الله وحق قرابتي من نبيكم، لما سيرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي ودعوتم أجمعين في أنصاركم من قبائلكم من آمنتم من الناس ووثقتم به، فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا، فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق ويغلب، والله متم نوره ولو كره الكافرون25.
الموقف الأموي من الإمام الحسين عليه السلام
لم تكن أية مواجهة علنية بين الإمام الحسين عليه السلام ومعاوية في مصلحة الأمويين، وقد اعتمد معاوية هذا الموقف طالما بقي الإمام عليه السلام ضمن حدود المعارضة الكلامية السلمية وملتزماً بالصلح26، وقد حاول معاوية أن يبرز هذا الموقف بعناوين أخرى تظهر وكأنه يحتفظ بكرامةٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإمام الحسين عليه السلام أو كأنه حريص على أن لا يسفك هذا الدم الغالي من بني عبد مناف27.
إذن فعدم التعرض للإمام عليه السلام بالأذى في عصر معاوية كان بشرط عدم تحركه ضده، وإلا فالسيف28. ومع ذلك فقد بقي الإمام عليه السلام تحت رقابة أمنية مشددة من عملاء معاوية في المدينة حتى في خصوصيات الإمام البيتية29.
لماذا لم تحصل النهضة الحسينية في حياة معاوية؟
رفض الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن يكون معاوية حاكماً، ولم يساوم على ذلك ولم يداهن، وخاض حرباً طاحنة لمنعه وطرده من الشام، وكان هذا موقف الإمام الحسن عليه السلام لولا تخاذل أهل العراق، إذن فأسباب ودوافع القيام على معاوية ومحاربته كانت وما زالت إلى عصر الإمام الحسين عليه السلام وهو ما صرّح به الإمام نفسه حين قال: وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك30.
ولكن هل كان بإمكان الإمام الحسين عليه السلام أن يحقق أحد أهدافه لو تحرك ضد معاوية؟ طلب الإصلاح في أمة جده؟ أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أو إزالة حكومة معاوية؟ وإلا فتعريض الأمة لصدمة مروّعة بقتله وأهل بيته بحيث تستيقظ الأمة من غفلتها وتتحرر وتعرف الحق وأهله؟
بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام واغتياله من قِبل معاوية ونقض معاوية لبنود الصلح تحرّك أهل العراق وطالبوا الإمام الحسين عليه السلام بالتحرك والثورة ضد معاوية، حيث إن الحسين عليه السلام كان يملك الدليل المقبول لثورته، ولكنّه لم يستجب لطلباتهم وآثر السكون ما دام معاوية حياً. وذلك للأسباب التالية:
الأول: إن الوفاء بالعهد خُلُقٌ إسلامي رفيع يمثّله الإمام المعصوم أحسن تمثيل، ولا يسوّغ الإمام لنفسه أن يهبط إلى مستوى معاوية في نقضه للعهد.
الثاني: كان بإمكان معاوية أن يستغلّ هذا النقض، كورقة رابحة يستعملها ضدّ الإمام الحسين عليه السلام ويضلّل به الرأي العام31.
الثالث: إن السبب الرئيس الذي دفع الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح مع معاوية، وهو تخاذل المسلمين عن نصرة ابن بنت نبيهم، ما زال مستمراً في عصر الإمام الحسين عليه السلام ، فقد ذاق هؤلاء مرارة الصراع بين معاوية، الذي لم يكن مكشوفاً بعد، والإمام عليّ عليه السلام ، وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، زوج النبي وأصحابه وعليّ عليه السلام ، وبين الخوارج، الذين كانوا يدّعون الزهد والعبادة وعليّ عليه السلام ، فأنزلوا علياً عليه السلام إلى مستوى معاوية الذي كان يرمي للوصول إلى الحكم بكل سبب، ولم يكن لهذا التصدي منه والحرص على استلام السلطة أيّ مسوّغ رسالي، وإلى مستوى عائشة أو طلحة أو الزبير، وإلى مستوى الخوارج، ولم يستطع المسلمون تحمل الأعباء التامة لقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وأتعبتهم التضحيات الجمّة في الجمل وصفين والنهروان، فأخذ جمهورهم يتهرّب من أعباء تحمّل المسؤولية الشرعية نحو محاولة التشكيك في أصل الأهداف الكبرى التي من أجلها يجاهد الإمام علي عليه السلام وأولاده من بعده!! هذا التشكيك الذي تحوّل إلى نكول وتخاذل وفرار.
وحينما يستفحل هذا الشك ويتحوّل إلى حالة مرضيّة، كما حدث ذلك في عصر الإمام الحسن عليه السلام ، لم يكن بالإمكان علاجها حتّى بالتضحية، بل لا بدّ من الصبر والتأني ليتّضح لعامّة المسلمين مدى دَجَل معاوية ومدى تظاهره بالإسلام ومدى التزام أهل البيت عليه السلام بمبادئهم الرساليّة.
وقد فضح معاوية نفسه وكشف عن واقعه بعد نقضه لكلّ بنود الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام ، وكان لا بد للشاكّين في سلامة خطّ أهل البيت عليه السلام من الاكتواء بلظى النار التي سعّرها لهم معاوية وأخذ يؤجّجها بكلّ ضراوة، وكان ترشيح يزيد وفرض البيعة له بالخلافة هو آخر الخط لمعاوية، ومهّد معاوية لذلك باغتيال الإمام الحسن عليه السلام ليخلو له الجوّ، وقد ذكر له التأريخ أكثر من محاولة ومراوغة لتحقيق مأربه هذا وتحكيم الجاهليّة بثوبٍ جديد في ربوع الدولة الإسلامية.
فلو استشهد الإمام الحسين عليه السلام والحالة هذه فسوف لا يكون لقتله أية فائدة تعود على الدين والأمة. بل ربما يكون ضرر ذلك أكثر من نفعه، وذلك عندما يلاحق ذلك معاوية الداهية بحملة دعائية مغرضة، يقضي فيها على الأمل الوحيد للأمة، ويفصل المجتمع المسلم نفسياً وفكرياً عن أهل البيت عليه السلام بشكل عام، وعن أئمتهم بصورة خاصة.
وخلاصة الأمر: إن قتل الحسين عليه السلام في زمن معاوية ليس فقط لا يجدي ولا ينفع، وإنما يكون فيه قضاء تام على الأمل الوحيد للدين، والأمة، وللحق. وبمقدار ما يكون هذا خيانة حقيقية ظاهرة لكل ذلك، كان استشهاد الحسين عليه السلام بعد ذلك، في كربلاء، وفاء للدين، وللأمة وللحق، عندما لم يعد انحراف الحكم وعداؤه للدين خافياً على أحد، ولم يكن بعد للدهاء والمكر، وللسياسات المنحرفة أن تتستر عليه، ولا أن تقلل من وضوحه. وأصبح السكوت عليه في تلك الظروف هو الخيانة للدين، وللأمة، وللحق. وإلا فإن الحسين عليه السلام قد عاش في حكم معاوية بعد استشهاد أخيه الحسن عليه السلام عشر سنوات، ولم يقم بالثورة ضده، مع أن الحسين عليه السلام الذي سكت في زمن معاوية هو نفسه الحسين الذي ثار في زمان يزيد. كما أن الانحراف والظلم الذي كان في زمانه عليه السلام قد كان في زمان أخيه عليه السلام. وما ذكرناه هو المبرر لسكوته هناك، وثورته هنا.
وصحيح أن الإمام الحسين عليه السلام كان كارهاً للصلح32، ولكن الإمام الحسن عليه السلام أيضاً كان له كارهاً. غير أن هذا الصلح، على الكراهية التي كانت فيه، كان خيراًً للأمة 33، وإن لم يكن الأفضل، لأنها لم تكن مستعدة، ولم تكن تملك إمكانية القيام بالأفضل منه، وهو الجهاد والتضحية من أجل الانتصار على الطغيان الأموي وإسقاطه34، وأما أخبار اعتراض الإمام الحسين عليه السلام على أخيه، فهي من وضع الأمويين وأتباعهم، فإن فيها من سوء التخاطب بين الحسن والحسين عليه السلام ما يؤكد أنها مفتعلة35.
هذا، وقد تمدَّح الإمام الحسين عليه السلام أخاه الإمام الحسن عليه السلام على صلحه مع معاوية، واعتبره إيثاراً لله عند مداحض الباطل36.
وكتب أهل الكوفة أكثر من مرة إلى الإمام الحسين عليه السلام يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، وفي كل ذلك يأبى عليهم37، وقد أمرهم بلزوم بيوتهم وبالصبر والترقب، والتخفِّي عن أعين السلطة والانتظار والتكتّم على ميولهم وأفكارهم ما دام معاوية حياً 38. فالقول بأن سبب عدم ثورته على معاوية إنما هو عدم بيعة الناس له في زمنه، لا يصح. كما أن الناس كانوا قد بايعوا الإمام الحسن عليه السلام ، فلماذا سكت؟ ولماذا لم يطالبه الحسين بالقيام؟! ولماذا يمدحه على صلحه لمعاوية39؟
موت معاوية وطلب يزيد البيعة من الحسين عليه السلام
في السنة الثامنة عشرة من الهجرة عيّن عمر بن الخطاب معاوية والياً على دمشق خلفاً لأخيه يزيد بن أبي سفيان، فبقي حاكماً حوالي اثنين وأربعين سنة، منها سبع عشرة سنة تقريباً والياً في عهد كل من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وخمس سنوات تقريباً متمرداً باغياً في عهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ثم تسع عشرة سنة وبضعة أشهر ملكاً على جميع البلاد الإسلامية، وهو القائل: "أنا أول الملوك"40 و "رضينا بها مُلكاً"41.
ولمّا مات معاوية منتصف رجب من سنة ستين من الهجرة عن عمر تجاوز سبعين سنة، وخلّف بعده ولده يزيد، كتب يزيد إلى ابن عمه الوليد بن عتبة والي المدينة يأمره بأخذ البيعة من الحسين بن علي عليه السلام قبل أن يعلم أهل المدينة بالأمر، ولا يرخص له في التأخر عن ذلك ويقول: إن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه42، ولعل الاستعجال بأخذ البيعة من الحسين عليه السلام قبل أن يعلم أهل المدينة بالأمر كان نصيحة من مروان بن الحكم للوالي43، الذي أحضره الوليد واستشاره في أمرالإمام الحسين عليه السلام ، فقال: إنه لا يقبل، ولو كنت مكانك لضربت عنقه، فقال الوليد: ليتني لم أك شيئاًً مذكوراً.
ثم بعث الوليد إلى الحسين عليه السلام في الليل فاستدعاه، قبل أن يفشو الخبر، وكان عليه السلام في المسجد النبوي، جالساً مع عبدالله بين الزبير44 فعرف الحسين عليه السلام الذي أراد، فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه وكانوا ثلاثين رجلاًً وأمرهم بحمل السلاح وقال لهم:
"إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلّفني فيه أمراً لا أجيبه إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلت فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني"45.
ثم صار الحسين عليه السلام إلى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى الوليد معاوية، فاسترجع الحسين عليه السلام ، ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد. فلم يُرد الحسين عليه السلام أن يصارحه بالامتناع من البيعة وأراد التخلّص منه بوجه سلمي، فقال له:
"إني أراك لا تقنع أو تجتزئ ببيعتي سراًً حتى أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس"، أو "دون ان نظهرها على رؤوس الناس علانية". أو قال له "لا خير في بيعة سر، والظاهرة خير، فإذا حضر الناس كان أمراً واحداً".
فقال له الوليد: أجل!
فقال الحسين عليه السلام: "تصبح وترى رأيك في ذلك".
فقال له الوليد: انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس.
فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداًً، حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه.
فلما سمع الحسين عليه السلام مروان صارحهما حينئذٍٍ بالامتناع من البيعة وأنه لا يمكن أن يبايع ليزيد أبداًً، فقال لمروان: ويلي عليك يا ابن الزرقاء ! أنت تأمر بضرب عنقي؟! كذبت والله ولؤمت. والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك، وإن شئت ذلك فرم ضرب عنقي إن كنت صادقاً.
ثم أقبل على الوليد فقال: أيّها الأمير إنَّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة. بنا فتح الله وبنا ختم. ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة46.
وسمع من بالباب من الهاشميين الحسين عليه السلام ، فهمّوا بفتح الباب وإشهار السيوف، فخرج إليهم الحسين عليه السلام سريعاً فأمرهم بالإنصراف إلى منازلهم، وتوجه إلى قبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم47، ثم عاد إلى منزله مع الصبح48.
وكانت تلك الليلة هي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين، فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان فقال له: يا أبا عبدالله إني لك ناصح فأطعني ترشد، فقال الحسين عليه السلام: وما ذاك، قل حتى أسمع! فقال مروان: إني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية فإنه خير لك في دينك ودنياك.
فقال الحسين عليه السلام: "إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد".
وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف عليه السلام وهو غضبان، فلما كان آخر نهار السبت بعث الوليد إلى الحسين عليه السلام ليحضر فيبايع فقال لهم الحسين عليه السلام: أصبحوا ثمّ ترون ونرى، فكفّوا عنه تلك الليلة، ولم يلحّوا عليه واشتغلوا بابن الزبير49، فعزم عليه السلام على الخروج من المدينة.
فلما كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضا وصلّى ركعات، فلما فرغ من صلاته جعل يقول: "اللهم هذا قبر نبيك محمّد، وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحب المعروف، وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضى، ولرسولك رضى".
ثم جعل يبكي عند القبر، حتى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه، حتى ضم الحسين عليه السلام إلى صدره وقبَّل بين عينيه، وقال: "حبيبي يا حسين، كأنّي أراك عن قريب مرملاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء، من عصابة من أمتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى، وظمآن لا تروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، حبيبي يا حسين إن أباك وأمك وأخاك قدموا عليَّ وهم مشتاقون إليك، وإن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة" فجعل الحسين عليه السلام في منامه ينظر إلى جده ويقول: "يا جداًه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك"
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة، وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم، فإنك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة، حتى تدخلوا الجنة ".
فانتبه الحسين عليه السلام من نومه، ثم رجع إلى منزله، وعند الصبح قص رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب، فلم يكن في ذلك اليوم، في مش