وفي يوم الحادي عشر من المحرّم لمّا أراد الأعداء أن يرحلوا بقافلة نساء آل رسول الله من كربلاء إلى الكوفة، مرّوا بهنَّ على مصارع القتلى وهم جثث مرمّلة ومطروحة على التراب، فلمّا نظرت النسوة إلى تلك الجثث صحنَ وبكينَ ولطمنَ خدودهنَّ. وأمّا السيّدة زينب الكبرى عليها السّلام فقد كانت تلك الساعة من أصعب الساعات على قلبها، وخاصّةً حينما نظرت إلى جثّة أخيها العزيز الإمام الحسين وهو مطروح على الأرض بلا دفن، وبتلك الكيفيّة المقرحة للقلب.
يعلم الله تعالى مدى الحزن الشديد، والألم النفسي الذي خيّم على قلب السيّدة زينب، وهي ترى أعزّ أهل العالم، وأشرف مَنْ على وجه الأرض بحالة يعجز القلم واللسان عن وصفها.
فقد مدّ اُولئك الذئاب المفترسة ـ الذين لا يستحقون إطلاق اسم البشر عليهم، فكيف باسم الإنسان، وكيف باسم المسلم ـ أيديهم الخبيثة إلى جسد أطهر إنسان على وجه الكرة الأرضية آنذاك، وأراقوا دماءً كانت جزءاً من دم الرسول الأقدس، وقطعوا نحراً قبّله رسول الله صلّى الله عليه وآله مئات المرّات، وعفّروا خدّاً طالما التصق بخدّ الرسول الأطهر، ورضّوا وسحقوا جسداً كان يُحمل على أكتاف الرسول الأعظم، وكان محلّه في حجر الرسول، وعلى صدره وظهره.
لقد كان الرسول الكريم يحافظ على ذلك الجسم العزيز حتّى من النسيم والمطر، فكيف من غيره؟
نعم، إنّ المجرمين الجناة كانوا في سكرة موت الضمير، وفقدان الوعي والإدراك للمفاهيم، فانقلبوا إلى سباع ضارية وذئاب مفترسة ووحوش كاسرة لا تفهم معنى العاطفة والشرف والفضيلة، ولا تدرك إلاّ هواها الشيطاني.
فصنعت ما صنعت بذلك الإمام المتكامل شرفاً وعظمة، وجعلت جسمه هدفاً لسيوفها ورماحها وسهامها، وميداناً لخيولها، وهم يحاولون أن لا يتركوا منه أثراً يُرى، ولا أعضاء فتوارى.
كان هذا المنظر والمظهر المشجي، المقرح للقلب، الموجع للروح بمرأى من السيّدة زينب الكبرى، فهي ترى نفسها بجوار جثمان إمامها وإمام العالم كلّه، وسيّد شباب أهل الجنّة، فلا عجب إذا احتضنته تارةً، وألقت نفسها عليه تارةً اُخرى.
تبكي عليه بدموع منهمرة متواصلة، وتندبه من أعماق نفسها، ندبةً تكاد روحها تخرج مع زفراتها وآهاتها. تندبه بكلمات منبعثة من أطهر قلب، خالية عن كلّ رياء وتصنّع، وكلّ كلمة منها تعتبر إعلاناً عن حدوث أكبر فاجعة، وأوجع مصيبة.
إنّها سجّلت تلك الكلمات على صفحات التاريخ لتكون خالدةً بخلود الأبد، تقرؤها الأجيال قرناً بعد قرن، واُمّةً بعد اُمّة، كي تستلهم منها الدروس والعبر، ولكي تبقى المدرسة الزينبيّة خالدةً بخلود كلّ المفاهيم العالية والاُصول الإنسانيّة.
نعم، كلمات تقرع الأسماع اليقظة كصوت الرعد، فتضطرب منها القلوب، وتتوتّر منها الأعصاب، وتسخن الغدد الدمعيّة المنصوبة على قمّة العينين، فلا تستطيع الغدد حبس الدموع ومنعها عن الخروج والهطول، وتضيق الصدور فلا تستطيع كبت الآهات والنحيب والزفير.
أجل، إنّها معجزة وأية معجزة صدرت من سيّدة قبل أربعة عشر قرناً، أراد الله تعالى لها البقاء، لتكون تلك المعجزة غضّة، وكأنّها حادثة اليوم وحدث الساعة.
أجل، كان المفروض أن تفقد السيّدة زينب الكبرى وعيها، وتنهار أعصابها، وتنسى كلّ شيء حتّى نفسها، وتتعطّل ذاكرتها أمام جبال المصائب والفجائع والهموم والأحزان.
نعم، هكذا كان المفروض، ولكنّ إيمانها الراسخ العجيب بالله تعالى، وقلبها المطمئن بذكر الله (عزّ وجلّ) كان هو الحاجز عن صدور كلّ ما ينافي الوقار والاتّزان، والخروج عن الحالة الطبيعية.
وليس معنى ذلك السكوت الذي يساوي عدم الاهتمام بتلك الفاجعة، أو عدم المبالاة بما جرى، بل لا بد من إيقاظ الشعور العام بتلك الجناية العظمى، التي صدرت من أرجس عصابة على وجه الأرض.
فلا عجب إذا هاجت أحزانها هيجان البحار المتلاطمة الأمواج، وتفايض قلبها الكبير بالعواطف والمحبّة، وجعلت تندب أخاها بكلمات في ذروة الفصاحة والبلاغة، وتُعتبر أبلغ كلمات سجّلها التاريخ في الرثاء والتأبين، وفي مقام التوجّع والتفجّع.
قال الراوي: فوالله، لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب أخاها الحسين بصوت حزين وقلب كئيب: يا محمّداه ! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، مسلوب العمامة والرداء، محزوز الرأس من القفا، ونحن بناتك سبايا.
إلى الله المشتكى، وإلى محمّد المصطفى، وإلى علي المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيّد الشهداء.
يا محمّداه ! هذا حسين بالعراء، تسفي عليه ريح الصبا، قتيل أولاد البغايا.
وا حزناه ! وا كرباه عليك يا أبا عبد الله !
بأبي من لا هو غائب فيُرتجي، ولا جريح فيُداوى.
بأبي المهموم حتّى قضى.
بأبي العطشان حتّى مضى.
فأبكت والله كلّ عدو وصديق. واعتنقت زينب جثمان أخيها، ووضعت فمها على نحره وهي تقبّله وتقول: أخي، لو خُيّرت بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت المقام عندك، ولو أن السباع تأكل من لحمي. يابن اُمّي، لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء والأطفال، وهذا متني قد أسودّ من الضرب .