يوم عاشوراء
أصبح الصباح من يوم عاشوراء، واشتعلت نار الحرب وتوالت المصائب الواحدة تلو الاُخرى، وبدأت الفجائع تترى، فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة الجهاد ويستشهدون زرافات ووحداناً، وشيوخاً وشباناً. ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبويّة، ورجالات البيت العلوي الذين ورثوا الشجاعة والشهامة، وحازوا عزّة النفس وشرف الضمير، وثبات العقيدة وجمال الاستقامة.
مقتل سيّدنا علي الأكبر عليه السّلام
وأوّل مَنْ تقدّم منهم إلى ميدان الشرف هو علي بن الحسين الأكبرعليهما السّلام، فقاتل قتال الأبطال، وأخيراً انطفأت شمعة حياته المستنيرة، وسقط على الأرض كالوردة التي تتبعثر أوراقها. وتبادر الإمام الحسين عليه السّلام إلى مصرع ولده، ليشاهد شبيه رسول الله صلّى الله عليه وآله مقطّعاً بالسيوف إرباً إرباً. ولا أعلم كيف علمت السيّدة زينب بهذه الفاجعة المروعة، فقد خرجت تعدو وهي السيّدة المخدّرة المُحجّبة الوقورة ؟! خرجت من الخيمة مسرعة وهي تنادي: وا ويلاه! يا حبيباه! يا ثمرة فؤاداه! يا نور عيناه! يا اُخيّاه وابن اُخياه! وا ولداه! وا قتيلاه! وا قلّة ناصراه! وا غريباه! وا مهجة قلباه! ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء! ليتني وسدّت الثرى! وجاءت وانكبّت عليه، فجاء الإمام الحسين عليه السّلام فأخذ بيدها وردّها إلى المخيّم، وأقبل بفتيانه إلى المعركة وقال: احملوا أخاكم. فحملوه من مصرعه وجاؤوا به حتّى وضعوه عند الخيمة التي كانوا يقاتلون أمامها.
مقتل أولاد السيّدة زينب عليها السّلام
وإلى أن وصلت النوبة إلى أولاد السيّدة زينب عليها السّلام وأفلاذ كبدها، اُولئك الفتية الذين سهرت السيّدة زينب لياليها، وأتعبت أيّامها، وصرفت حياتها في تربية تلك البراعم حتّى نمت وأورقت. إنّها قدّمت أغلا شيء في حياتها في سبيل نصرة أخيها الإمام الحسين عليه السّلام. وتقدّم اُولئك الأشبال يتطوّعون ويتبرّعون بدمائهم وحياتهم في سبيل نصرة خالهم، الذي كان الإسلام متجسّداً فيه وقائماً به. وغريزة حبّ الحياة انقلبت عندهم إلى كراهية تلك الحياة. ومَنْ يرغب ليعيش في أرجس مجتمع متكالب، يتسابق على إراقة دماء أطهر إنسان يعتبر مفخرة أهل السماء والأرض ؟! وكان عبد الله بن جعفر زوج السيّدة زينب قد أمر ولديه عوناً ومحمداً أن يرافقا الإمام الحسين عليه السّلام لمّا أراد الخروج من مكّة، والمسير معه، والجهاد دونه.
فلمّا انتهى القتال إلى الهاشميين برز عون بن عبد الله بن جعفر، وهو يرتجز ويقول:
إنّ تـنكروني فأنا ابنُ جعفرْ **شهيدُ صدقٍ في الجنانِ أزهرْ
يـطيرُ فـيها بجناحٍ أخضرْ **كـفى بهذا شرفاً في المحشرْ
فقتل ثلاثة فرسان، وثمانية عشر راجلاً، فقتله عبد الله بن قطبة الطائي. ثمّ برز أخوه محمّد بن عبد الله بن جعفر فقتل عشرة من الأعداء، فقتله عامر بن نهشل التميمي.
مقتل سيّدنا أبي الفضل العباس عليه السّلام
لقد كانت العلاقات الودّيّة بين السيّدة زينب وبين أخيها أبي الفضل العباس عليهما السّلام تمتاز بنوع خاص من تبادل المحبّة والاحترام، فقد كانت السيّدة زينب تكنّ لإخوتها من أبيها كلّ عاطفة وودّ، وكان ذلك العطف والتقدير يظهر من خلال كيفيّة تعاملها مع إخوانها الأكارم. وكان سيّدنا أبو الفضل العباس بشكل خاص يحترم اُخته زينب احتراماً كثيراً جدّاً. وفي طوال رحلة قافلة الإمام الحسين عليه السّلام من مكّة نحو العراق كان العباس هو الذي يقوم بشؤون السيّدة زينب، من مساعدتها حين الركوب أو النزول من المحمل، ويبادر إلى تنفيذ الأوامر والطلبات بكلّ سرعة ومن القلب.
فالسيّدة زينب عليها السّلام محترمة ومحبوبة عند الجميع، يحبونها لعواطفها وأخلاقها المثالية يضاف إلى ذلك: أنّها عميدة الاُسرة، وعقيلة بني هاشم، وابنة فاطمة الزهراء، وسيّدة نساء أهل البيت. ومنذ وصول قافلة الإمام الحسين إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرّم، اختار سيّدنا العباس ابن أمير المؤمنين عليهما السّلام لنفسه نوعاً خاصاً من العبادة، وهي أنّه كان إذا جنّ الليل يركب الفرس ويحوم حول المخيّمات لحراسة العائلة.
والعباس: اسم لامع وبطل شجاع، تطمئن إليه نفوس العائلة والنساء والأطفال، ويعرفه الأعداء أيضاً، فقد ظهرت منه يوم صفين شجاعة عظيمة جعلت اسمه يشتهر عند الجميع بالبطولة والبسالة، ولا عجب من ذلك فهو ابن أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام.
وفي يوم عاشوراء، لمّا قُتل أكثر أصحاب الإمام الحسين عليه السّلام أقبل العباس إلى أخيه الحسين واستأذنه للقتال، فلم يأذن له، وقال: أخي، أنت صاحب لوائي، فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات. فقال العباس: يا سيّدي، لقد ضاق صدري، واُريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين. فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام: إذن، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء. فأقبل العباس وحمل القربة وتوجّه نحو النهر ليأتي بالماء... وإلى أن وصل إلى الماء وملأ القربة، وتوجّه نحو خيام الإمام الحسين عليه السّلام. فجعل الأعداء يرمونه بالسهام كالمطر حتّى صار درعه كالقنفذ، ثمّ قطعوا عليه الطريق، وأحاطوا به من كل جانب، فحاربهم وقاتلهم قتال الأبطال، وكان جسوراً على الطعن والضرب. فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وضربه بالسيف على يمينه فقطعها، فأخذ السيف بشماله واستمر في القتال، فضربه لعين على شماله فقطع يده، وجاءته السهام والنبال من كلّ جانب، وجاء سهم وأصاب القربة فأريق ماؤها، وضربه الأعداء بعمود من حديد على رأسه، فسقط على الأرض صريعاً، ونادى بأعلى صوته: أدركني يا أخي.
وكان الإمام الحسين عليه السّلام قد وقف على ربوة عند باب الخيمة وهو ينظر إلى ميدان القتال، وكانت السيّدة زينب واقفة تنظر إلى وجه أخيها، وإذا بالحزن قد غطّى ملامح الإمام الحسين، فقالت زينب: أخي، مالي أراك قد تغيّر وجهك ؟! فقال: اُخيّه، لقد سقط العلم، وقُتل أخي العباس. فكأنّ السيّدة زينب انهدّ ركنها، وجلست على الأرض وصرخت: وا أخاه! وا عباساه! وا قلة ناصراه! وا ضيعتاه من بعدك يا أبا الفضل! فقال الإمام الحسين: إي والله، من بعده وا ضيعتاه! وا انقطاع ظهراه!. وأقبل الحسين كالصقر المنقض حتّى وصل إلى أخيه، فرآه صريعاً على شاطئ الفرات، فنزل عن فرسه ووقف عليه منحنياً، وجلس عند رأسه، وبكى بكاءً شديداً، وقال: يعزّ والله عليّ فراقك. الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي.
مقتل الطفل الرضيع عليه السّلام
قال السيّد ابن طاووس: لمّا رأى الحسين عليه السّلام مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته، ونادى: هل من ذابٍّ يذب عن حرم رسول الله ؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟ هل من مُعين يرجو ما عند الله بإعانتنا ؟. فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدّم الإمام عليه السّلام إلى باب الخيمة، وقال لأخته زينب: ناوليني ولدي الرضيع حتّى اُودّعه. فأخذه وأوما إليه ليقبّله، فرماه حرملة بن كاهل بسهم فوقع في نحره فذبحه، فقال الحسين لاُخته زينب: خذيه. ثمّ تلقّى الدم بكفيه، فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء وقال: هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله. قال الإمام الباقر عليه السّلام: فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض. وفي رواية اُخرى: أنّ الإمام الحسين عليه السّلام حينما طلب طفله الرضيع ليودّعه، أقبلت السيّدة زينب عليها السّلام بالطفل، وقد غارت عيناه من شدّة العطش، فقالت: يا أخي هذا ولدك له ثلاثة أيّام ما ذاق الماء، فاطلب له شربة ماء. فأخذه الإمام الحسين عليه السّلام على يده، وأقبل نحو أهل الكوفة وقال: يا قوم، قد قتلتم أخي وأولادي وأنصاري، وما بقي غير هذا الطفل، وهو يتلظى عطشاً من غير ذنب أتاه إليكم، فاسقوه شربةً من الماء، ولقد جف اللبن في صدر اُمّه. يا قوم، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل. فبينما هو يخاطبهم إذا أتاه سهم فذبح الطفل من الأذن إلى الأذن. فجعل الإمام الحسين عليه السّلام يتلقّى الدم حتّى امتلأت كفّه ورمى به إلى السماء، وخاطب نفسه قائلاً: يا نفس، اصبري واحتسبي فيما أصابك. ثم قال: إلهي، ترى ما حلّ بنا في العاجل، فاجعل ذلك ذخيرةً لنا في الآجل.
وجاء في بعض كتب التاريخ: أنّ الإمام الحسين عليه السّلام لمّا رجع بالرضيع مذبوحاً إلى الخيام، رأى الأطفال والبنات ومعهنَّ اُمّ الرضيع واقفات بباب الخيمة ينتظرنَ رجوع الإمام، لعلهنَّ يحصلنَ على بقايا من الماء الذي قد يكون الإمام سقاه لطفله. فلمّا رأى الإمام الحسين ذلك غيّر طريقه، وذهب وراء الخيام، ونادى اُخته زينب لتأتي وتمسك جثمان الرضيع، لكي يخرج الإمام خشبة السهم من نحر الطفل. ويعلم الله ماذا جرى على قلب الإمام الحسين وقلب السيّدة زينب عليهما السّلام ساعة إخراج السهم من نحر الطفل! ثمّ إنّ الإمام عليه السلام حفر الأرض ودفن طفله الرضيع تحت التراب.