عن سكينةَ بنت الحسين عليه السلام، أنها قالت: كُنتُ جالسةً في ليلة مقمّرة وسط الخيمة، وإذا أنا أسمع من خلفها بكاءً وعويلاً، فخشيت أن يفقه بي النساء، فخرجت أعثر بأذيالي، وإذا بأبي عليه السلام جالس وحوله أصحابه وهو يبكي، وسمعته يقول لهم: أعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد إنعكس الأمر لأنهم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم مقصدٌ إلاّ قتلي وقتل من يجاهد بين يدي وسبي حرمي بعد سلبهم، وأخشى أنّكُم ما تعلمون وتستحون، والخدع عندنا أهل البيت محرّم، فمن كره منكم ذلك فلينصرف، فإنّ الليل ستير والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومَنْ واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمن، وقد قال جدّي محمد صلّى الله عليه وآله: ولدي الحسين يُقتل بأرض كربلاء غريباً وحيداً عطشاناً فريداً، فمن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم ـ عجل الله فرجه ـ، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة.قالت سكينة: فو الله ما أتمّ كلامه إلاّ وتفرق القوم من عشرة وعشرين، فلم يبق معه إلا واحد وسبعون رجلاً، فنظرت إلى أبي منكساً رأسه فخنقتني العبرة، فخشيت أن يسمعني ورفعت طرفي إلى السماء وقلت: اللهم انّهم خذلونا فاخذلهم ولا تعجل لهم دعاءً مسموعاً، وسلط عليهم الفقر ولا ترزقهم شفاعة جدّي يوم القيامة، ورجعت ودموعي تجري على خدي، فرأتني عمتي أم كلثوم، فقالت: ما دهاك يابنتاه، فأخبرتها الخبر، فصاحت واجدّاه واعليّاه، واحسناه واحسيناه، واقلّة ناصراه، أين الخلاص من الأعداء ليتهم يقنعون بالفداء، تركت جوار جدّك وسلكت بنا بُعدَ المدى، فعلا منّا البكاء والنحيب.فسمع أبي ذلك فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري، وقال: ما هذا البكاء ؟فقالت: يا أخي ردّنا إلى حرم جدّنا، فقال: يا اختاه ليس لي إلى ذلك سبيل، قالت: أجل، ذكرهم محل جدّك وأبيك وأمك وأخيك، قال: ذكّرتهم فلم يذكّروا ووعظتهم فلم يتعظوا، ولم يسمعوا قولي، فما لهم غير قتلي سبيل، ولا بدّ أن تروني على الثّرى جديلاً، ولكن أوصيكنّ بتقوى الله ربّ البريه والصبر على البلية وكظم نزول الرزيّة، وبهذا أوعد جدّكم ولا خلف لما أوعد، ودّعتكم إلهي الفرد الصمد، ثم تباكينا ساعة والإمام عليه السلام يقول: ﴿وَما ظلمُونا ولكنْ كانُوا أنفسَهُم يَظلمُون﴾.