هذا الإتهام الباطل يهدف منه الوهابيون حصر شرعية التمذهب بمدرستهم "السلفية الجهادية"، وتحديداً بمذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ كونه العربي الوحيد بين أئمة المذاهب السنية الأربعة؛ فضلاً عن أن ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب هما عربيان أيضاً، وهما الفقيهان اللذان أحيا المذهب الحنبلي، وحوّلاه الى فرقة تكفيرية قتالية لها خصائصها العقدية والمذهبية المتمايزة عن باقي المذاهب السنية والشيعية. و بما أن المذاهب السنية تتبع أئمة وفقهاء ومحدثين ومفسرين من العجم؛ ولذلك فهي فاقدة لشرعية التمذهب؛ كما يلمح التيميون؛ خاصة وأنهم يقرنون المسلمين "الفرس" بصفة "المجوس".
وغير خاف على أحد أن الوهابية هي الفرقة الأكثر تكريساً لقواعد التمييز العرقي والقومي، وتفضيل العرب على غيرهم من المسلمين، ووصف كل من يدعو للتساوي بين المسلمين بأنه شعوبي ومعادٍ للعرب، وهي نزعة جاهلية أعرابية أسسها الأمويون، وأورثوها للمدرسة السلفية التكفيرية التيمية. ثم تلقفها منهم إمام الشوفينيين البعثيين ميشيل عفلق؛ ليمعن هو ومنظروا حزب البعث وقادته في تكريس فلسفة الكراهية للشعوب المسلمة، ولاسيما للفرس؛ ولكن ليس على أساس ديني؛ بل على أساس عنصري. وبذلك مثّل الوهابيون الجناح اليميني الثيوقراطي من الايديولوجيا الأموية، ومثل البعثيون الجناح اليساري العلماني من الايديولوجيا الأموية؛ على اعتبار أن جوهر الحكم الأموية كان علمانياً محضاً، ولكن ببرقع ثيوقراطي؛ شانها شأن الملكيات الأوربية والآسيوية، والتي كان ملوكها يدّعون أنهم آلهة أو أنصاف آلهة أو نواب الآلهة على الأرض.
ورغم أن الماكنتين الدعائيتين الوهابية والبعثية؛ لاتصرحان بفارسية ومجوسية المذاهب الإسلامية السنية؛ ولكنهما حين تقرنان "الفرس" بصفة "المجوس" في تنظيراتهما وكتاباتهما وإعلامهما؛ فإنهما توحيان تلقائياً بأن أهل السنة هم أتباع المجوس؛ كون معظم أئمة المذاهب الاسلامية السنية وفقهائها ومحدثيها ومفسريها ومشايخ طرقها الصوفية؛ هم من الفرس الأقحاح او من بلاد فارس أو من إقليم خراسان الكبير؛ كما ذكرنا. ولذلك فمن الظلم والجريمة اتهام هؤلاء العلماء الكبار بالمجوسية؛ لمجرد أنهم من الأعاجم. ومن أمثلتهم:
1. الإمام أبو حنيفة النعمان؛ إمام المذهب الحنفي، تاجيكي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
2. الإمام مالك بن أنس؛ إمام المذهب المالكي؛ جده من الموالي من بلاد فارس.
3. الإمام محمد بن إدريس الشافعي؛ إمام المذهب الشافعي؛ جده من الموالي من بلاد فارس.
4. الإمام الليث بن سعد الإصفهاني؛ مؤسس المدرسة الفقهية السنية في مصر؛ فارسي من إصفهان في وسط بلاد فارس.
5. ربيعة الرأي بن فروخ؛ كبير محدثي أهل السنة؛ أبوه من الموالي فارسي الأصل.
6. الإمام محمد بن اسماعيل البخاري؛ أهم أئمة الحديث عند السنة وأبرز أصحاب الصحاح الستة، اوزبكي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
7. مسلم بن الحجاج النيسابوري؛ أحد أصحاب الصحاح الستة؛ فارسي من نيسابور في شمال بلاد فارس.
8. محمد بن عيسى الترمذي؛ أحد أصحاب الصحاح الستة؛ اوزبكي من اقليم خراسان في بلاد فارس.
9. محمد إبن ماجه القزويني؛ أحد أصحاب الصحاح الستة؛ فارسي من قزوين في وسط بلاد فارس.
10. أحمد بن شعيب النسائي؛ أحد أصحاب الصحاح الستة؛ تركماني من اقليم خراسان في بلاد فارس.
11. سليمان بن الأشعث السجستاني؛ أحد أصحاب الصحاح الستة؛ تاجيكي من من اقليم خراسان في بلاد فارس.
12. أحمد بن الحسين البيهقي ؛ صاحب السنن الكبرى؛ فارسي من بيهق في شرق بلاد فارس.
13. محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري؛ فارسي من نيسابور في شمال بلاد فارس.
14. محمد بن عمر الزمخشري؛ أمام المفسرين عند السنة؛ تركماني من اقليم خراسان في بلاد فارس.
15. محمد بن إدريس الرازي؛ من أهم المفسرين والمحدثين عند السنة؛ فارسي من ري في وسط بلاد فارس.
16. الإمام محمد الغزالي الطوسي النيسابوري؛ فارسي من نيسابور في شمال بلاد فارس.
17. عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري؛ أحد أهم المفسرين لدى السنة؛ فارسي من نيسابور في شمال بلاد فارس.
18. محمد بن يعقوب الفيروز آبادي الشيرازي؛ من أئمة الحديث واللغة؛ فارسي من شيراز في وسط بلاد فارس.
19. ابو إسحاق ابراهيم بن علي الشيرازي؛ إمام الشافعية في وقته؛ فارسي من شيراز في وسط بلاد فارس.
20. عبد القادر الكيلاني؛ إمام الفرق الصوفية؛ فارسي من كيلان في شمال بلاد فارس.
21. الإمام محمد بن جرير الطبري؛ من أهم الفقهاء والمفسرين والمؤرخين السنة؛ فارسي من طبرستان (مازندران) في شمال بلاد فارس.
وهذا يعني بكل وضوح أن أئمة الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية عند أهل السنة هم من بلاد فارس. وبكلمة أخرى؛ فإن أهل السنة أخذوا دينهم وشريعتهم وفقههم وحديثهم وتفسيرهم وتاريخهم ولغتهم العربية من العجم. وإذا كان الفرس قد ظلوا على مجوسيتهم بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس؛ كما يعتقد الوهابيون والبعثيون؛ فهذا يعني أن الذين أسسوا مذاهب أهل السنة وكتبوا أحاديثهم وفسروا لهم القرآن الكريم وكتبوا تاريخهم وعلموهم العربية هم مجوس. فهل يصح هذا عقلاً وشرعاً؟!
صحيح أن الدعاية الوهابية والبعثية كانت تستهدف ـ أساسا ـ مدرسة أهل البيت ورموزها بهذه التهمة، وتصف التشيع بأنه فارسي، وبالتالي فهو دين مجوسي، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في إثبات هذه التهمة بالأدلة العقدية والفقهية والرجالية والتاريخية؛ بل ارتدّت دعايتها على المذاهب الإسلامية السنية، بقصد أو بدونه، وباتت التهمة لصيقة بالمذاهب السنية. إلّا إذا أخذنا بالتفسيرات الوهابية والبعثية الإنتقائية التي تخلو من أي رائحة للمنطق والمنهج العلمي؛ إذ تقول هذه التفسيرات بأن ((الفارسي يكون مجوسياً حين يكون شيعياً))، أما الفارسي السني فهو ليس مجوسياً؛ بل مسلم ينطبق عليه الحديث الشريف ((لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى)). ولو كان الفارسي السني عدواً للعرب فعلاً؛ ولكن بما أنه سني فلايطلقون عليه صفة عدو العرب. في حين لو كان الفارسي شيعياً وعادلاً ومتقياً؛ بل من أصل عربي شامخ وسيد شريف من سلالة رسول الله؛ ولكن بما انه شيعي؛ فلابد أن يكون مجوسياً وعدواً للعرب !!.
كما لو كان الشيعي الفارسي طاغيةً يذل الوهابيين والبعثيين ويحتقرهم؛ كشاه إيران محمد رضا بهلوي؛ فإنه سيكون الأخ الأكبر المؤمن والشاهنشاه المعظم؛ كما كانت تصفه الأدبيات السعودية والبعثية العراقية، والذي يستقبله ملوك العرب وأمرائهم وحكامهم بالإنحناء والتعظيم وتقبيل الأيادي. بينما فقيهٌ شيعي ومرجعٌ ديني من أصل عربي وحفيدٌ لنبي الإسلام؛ كالإمام الخميني؛ فإنه سيكون مجوسياً لا محالة، ودولته مجوسية ومعادية للإسلام والعروبة. لماذا؟!؛ لأنه يدعو للإسلام ولشريعة جده رسول الله. وهو ما يجعل الايديولوجيتين الوهابية والبعثية في حالة استنفار عميق واستفزاز عصابي موجع.
وكان ظهور التفسيرات البراغماتية الإنتقائية في تقسيم الفرس الى سنة مسلمين وشيعة مجوس؛ هي نتيجةً لفشل الماكنتين السعودية والبعثية في إيجاد أي دليل على فارسية المذهب الشيعي؛ ماضياً وحاضراً؛ على الرغم من محاولاتهما المستميتة والمتواصلة والترقيعية في هذا المجال، وصرف مليارات الدولارات، واستئجار آلاف الأبواق والأقلام؛ وصولاً الى إحداث بعض الإختراقات في الجسد الشيعي؛ كما حصل في عهد صدام في العراق في الثمانينات، وكما لايزال يحدث من جانب السعودية. وسبب هذا الفشل يعود الى حقيقة ثابتة لا لبس فيها، تتلخص في أن أئمة المسلمين الشيعة هم سادة العرب، وتيجان الأمم؛ بدءاً بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وانتهاء بأمير المؤمنين محمد بن الحسن المهدي المنتظر، و أن الأفكار والمعتقدات الشيعية مثبتة في كتبهم التي ترجع أصولها إلى أئمتهم الإثني عشر، وترجع فروعها الى كبار متكلمي الشيعة ومحديثهم وفقهائهم من تلامذة الأئمة؛ منذ القرن الأول الهجري، وليس بين هؤلاء فارسي واحد. كما أن الطبقات الأولى والثانية والثالثة من الشيعة كانوا عرباً في الأعم الأغلب، ولم يكن بين الطبقة الأولى فارسي؛ سوى واحد فقط هو سلمان الفارسي.
بل أن الأسرة الصفوية التي روجت للمذهب الشيعي في بلاد فارس؛ مستعينة بفقهاء ومبلغين عرب قدموا من العراق ولبنان والبحرين، وجعلته مذهباً رسمياً للدولة؛ هي أسرة عربية علوية تعود بنسبها الى الإمام موسى الكاظم حفيد رسول الله. وهذا الواقع التاريخي هو أهم دليل على أن ((علماء الفرس هم الذين سنّنوا العرب, وأن علماء العرب هم الذين شيّعوا الفرس)) . وهو موضوع مقالنا القادم.
نذكر هذه الحقائق بلغة البحث التاريخي العلمي؛ بعيداً عن تسييس الموضوع والحرب الدعائية ولغة المهاترات والجدل الساذج الذين تصر عليه ماكنة التشويه الطائفية الشوفينية التي يقودها اليوم الوهابيون والبعثيون وبعض أنصاف المتعلمين. بل أن من سوء حظ هذه الماكنة أن زعماء الشيعة الحاليين؛ سواء في العراق أو إيران أو لبنان أو البحرين أو السعودية أو باكستان أو الهند؛ هم من السادة الأشراف.. ذرية رسول الله (ص)؛ أي من العرب الأقحاح. وإذا أخذنا كبار مراجع الطائفة الشيعية منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الآن؛ سنجد أنهم من السادة الأشراف أيضاً؛ بدءاً بالسيد محمد حسن الشيرازي (من ذرية الإمام الحسين بن علي) والسيد عبد الله البهبهاني الغريفي (من ذرية الإمام موسى الكاظم) والسيد كاظم الطباطبائي اليزدي (من ذرية الإمام الحسن بن علي)، ثم السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني (من ذرية الإمام موسى الكاظم)، ثم السيد حسين الطباطبائي البروجردي (من ذرية الإمام الحسن بن علي)، ثم السيد محسن الطباطبائي الحكيم (من ذرية الإمام الحسن بن علي)، ثم السيد محمود الحسيني الشاهرودي (من ذرية الإمام الحسين بن علي)، والسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي والإمام روح الله الموسوي الخميني والسيد محمد باقر الصدر الموسوي والسيد محمد الصدر الموسوي والسيد محمد رضا الموسوي الكلبايكاني (جميعهم من ذرية الإمام موسى الكاظم)؛ وصولاً الى معظم المراجع الأحياء؛ يتقدمهم السيد علي الحسيني الخامنئي والسيد علي الحسيني السيستاني، وكلاهما من ذرية الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب؛ أي أنهما ليسا من العرب الأقحاح وحسب؛ بل سيدا العرب والعجم.
ولابد من التأكيد هنا الى أن الإنتساب للعرب أو إلى أية قومية أخرى ليس ميزةً في معيار الإسلام، و لا مدعاة للفخر أو التمييز العرقي أو علو الشأن والقيمة؛ إذ ((لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى)). وبالتالي؛ لايحط مطلقاً من قيمة المذاهب الإسلامية السنية أن يكون معظم أئمتها ومحدثيها وفقهائها من العجم: الفرس والأوزبك والتركمان؛ لأنهم مسلمون قبل كل شيء. ومن جلب هذه النعرة المنتنة؛ أي نعرة العرب والعجم والموالي والفرس والشعوبيين؛ هم بنو أمية، ومن تبعهم من وهابيين وبعثيين.
* د. علي المؤمن