وانتشر مؤخراً الكثير من أشرطة الفيديو والصور التي تتضمن فظاعات وحشية تتعرض لها هذه الأقلية المستهدفة من قبل الجيش البورمي الذي يحكم سيطرته على هذا البلد ذي الأغلبية البوذية، في ظل صمت دولي وصل إلى حد التواطؤ المفتعل وشارك فيه دول عربية وإسلامية.
وتعود سياسة الاضطهاد المنظّمة بحق أقلية الروهينغيا المسلمة إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، وهم عانوا منذ استقرارهم في بورما في القرن الخامس عشر من استهدافات عرقية بأشكال متعدّدة وذرائع مختلفة، وعلى الرغم من القرارات العديدة التي اصدرتها الأمم المتحدة والتقارير التي أعدّتها منظمات حقوق الإنسان حول الجرائم التي تستهدف هؤلاء، إلا أن الواقع لم يتغيّر بل طوّرت حكومة بورما من أساليب استهدافها للمسلمين، فنزعت عنهم جنسيتهم ليصبحوا بلا هوية، ولم تبذل أي دولة إسلامية أو عربية جهداً باتجاه احتضان قضيتهم سوى عبر البيانات والمواقف التي لا طعم لها ولا لون أو رائحة، وهو ما شجّع حكومة بورما على المضي في ارتكاباتها اللاإنسانية.
تشويه مقصود لتبرير الجريمة
ولئن تبيّن أن بعض ما تم نشره من فيديوهات وصور لم يكن صحيحاً ولا علاقة له بالواقع الراهن في بورما ولكن هذا الأمر لا ينفي وجود مثل هذه الجرائم التي يرتكبها النظام الحاكم هناك في ظل سياسة إبادة عرقية ممنهجة تتجدد من فترة إلى أخرى، فضلاً عن ظروف قاسية تجسّد سياسة الفصل العنصري وقيود صارمة على التنقل والعمل، والهدف الأساسي ترهيب نحو مليون شخص من أقلية الروهينغيا المسلمة يقطنون في ولاية أراكان بالشمال الشرقي لبورما، وتشريدهم وترحيلهم بذريعة أن هؤلاء من أصول بنغالية وجاؤوا مهاجرين بشكل غير شرعي إلى بورما، وبالتالي فإن بنغلادش المجاورة هي مستقرهم ويجب أن يعودوا إليها.
وتوقفت مصادر عند التزوير والتشويه الذي حصل بنتيجة نشر فيديوهات وصور غير واقعية ولا تمتّ بصلة للواقع في بورما، وحذّرت من أن هذا الأمر مقصود، وانجرّ إليه المتحمّسون من الذين يناصرون المسلمين في بورما بقصد تشكيل رأي عام إعلامي - دعائي ضاغط على بورما لوقف مجازرها، ولكن تبيان عدم صحة هذه المواد الإعلامية من شأنه أن يعطي مفعولاً معاكساً ويعطي الذريعة للسلطة في بورما للتبرؤ من جرائمها بداعي تزوير الوقائع، أو بالحد الأدنى التخفيف من فظاعة ما يجري فعلاً بحق المسلمين هناك.
صمت عربي ودولي مريب
وما يدفع أكثر إلى الشعور بالألم - وليس فقط رؤية الضحايا من الأطفال والنساء والرجال والعجز والتعذيب الذي يلحق بهم - هو أن هذه الدول العربية والإسلامية تصرف مئات المليارات من الدولارات على التسليح والتذخير وبناء المنظومات العسكرية، وتهدر مثلها من المبالغ على الملاهي والملذات والسياحة، وتمويل المشاريع التجارية والاقتصادية وبناء ناطحات السحاب، في حين أن أقلية الروهينغيا المسلمة تعيش في البراري وفي المناطق المعزولة على حدود بنغلادش وتعاني الجوع والتشرّد وفقدان مقومات الحياة الطبيعية والعناية الطبية، مما يزيد من معاناتها الإنسانية، فقد قالت "كريس ليوا" المعنية بمراقبة أوضاع الروهينغيا: "رويداً رويداً يجري إحراق قرية تلو الأخرى.. كانت توجد 11 قرية للمسلمين في "راثيدونج" وخلال يومين تعرض جميعها للدمار".
وعلى الرغم من أن منظمة "هيومن رايتس ووتش" اتّهمت مراراً النظام البورمي وعدداً من الرهبان البوذيين بالمشاركة في "جريمة ضد الإنسانية" أو الترويج لها، فضلاً عن تدمير المساجد وحملات الاعتقال العنيفة والتضييق على حياتهم اليومية في المجالات المختلفة، إلا أن ما يدفع إلى التأمل مليّاً في هذه القضية هو الصمت المريب لبعض الدول العربية والإسلامية، ولا سيما تلك التي ترفع شعار الإهتمام بالمسلمين، وتلك التي تضع نفسها في موقع الرعاية الأبوية والمرجعية الدينية، بدءاً من السعودية وصولاً إلى المغرب ومصر مروراً بالجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها.
والمضحك المبكي أن العديد من وكالات الأنباء الغربية تتعمّد تشويه الحقائق إلى درجة تحميل المسؤولية للروهينغيا، فيما تشيح العواصم الكبرى بنظرها عن هذه المأساة، فقط لأن الضحايا هم من المسلمين، وليس غريباً أن يتم تبرير هذه المجازر باستخدام الذريعة نفسها التي يعتمدها الغرب في التغطية على جرائمهم بالادّعاء أن من يتم إبادتهم هم إرهابيون، وأن الحرب التي تشنّها حكومة بورما تندرج في إطار سياسة مكافحة الإرهاب، وهذا ما أعلنته فعلاً زعيمة بورما أونغ سان سو تشي قبل أيام بأن "عمليات محاربة الإرهاب في المناطق الحدودية مع بنغلادش سوف تستمر".
تجارة بالدم
في موازاة ذلك، اندفع البعض من أقلية الروهينغيا إلى تشكيل مجموعات دفاع تحت مسمّى "جيش إنقاذ الروهينغا في أراكان" المعروف محلياً باسم "حركة اليقين"، وما يملكونه من مقوّمات من السكاكين والعصي والأحجار، لا يقاس أمام ما يملكه الجيش البورمي المجهّز بأحدث أنواع الأسلحة والقادر على الفتك بالناس بدون رادع أو وازع، ولكن المفجع في الأمر ما تسرّب من إشارات إلى دعم عربي وسعودي لهذه المجموعات ودفعهم لشن هجمات منظّمة في المكان والزمان على القوات البورمية، ليس من أجل الدفاع عن المسلمين أو استرجاع حقوقهم، بل استغلال هذه الهجمات لتوفير ذرائع إضافية في شن حملات التصفية والإبادة وإفراغ المناطق التي يلجأ إليها الروهينغيا كمقدّمة لإقامة مشاريع اقتصادية وتجارية في الأماكن التي يقطنون فيها، دون أقامة أدنى اعتبار للأرواح التي تُزهق في سياسة اقل ما يقال فيها أنها تجارة بالدم.