لا يمر شيء دون عبرة، ولا يتحقق دون أسس وغايات تتحرك كأمواج البحر في تناسقها من أجل إيجاده . البعض يأنس بها والآخر يشمئز منها وآخر يحاكيها وتحاكيه، كأنها له خلقت ولأجل فكره وإنارته وجدت.
فعندما نلاحظ أنّ بيعة الغدير لأمير المؤمنين أنها جاءت في السنة العاشرة للهجرة بعد أداء مناسك حجة الوداع، وكانت قريبة من رحيل الرسول صلى الله عليه وآله عن الدنيا.
فهل لهذا الحدث ووقوعه بذلك الـتأريخ وفي ذلك المكان أسباب وغايات يمكن الوقوف عليها، وإستخراج الثمرات من ذلك القول والفعل لكي نستفاد منها، في الحياة الدنيا، ومن ثم إختيار المواقف المناسبة لتغيرات المواقف والأشخاص؟
والحقيقة يمكن لنا أن نخرج بعدة استنتاجات يمكن أن نذكر منها ما يلي :
أولاً :
لم تكن بيعة الغدير في بداية الإسلام، ولا في بداية الهجرة، ولا حتى أثناء المعارك، وإنّما أُجِلّت بعد أن إكتملت صورة علي بن أبي طالب عليه السلام لدى الأمّة الإسلامية، وبانت خصائصه وطبائعه، بحيث لم توجد خصلة من الخصال الحميدة إلّا وبرزت بموقف إنساني عام أو عائلي خاص أو اثناء معركة أو بُعد عبادي مكثف أو بطاعة لشخص الرسالة أو موقف فكري يفلسف الحياة بحكمة وواقعية، والى غيرها من المواقف التي يصعب على المتتبع إحصاءها .
وذلك ليتمكن الرسول صلى الله عليه وآله من إتمام الحجة على المسلمين، وقطع الطريق أمام المنافقين والوصوليين، لأن ما بيّنه الرسول صلى الله عليه وآله في خطبة الغدير لا ينطبق إلّا على من حمل المواصفات والمؤهلات العالية التي لم ولن يوجد من يحملها دون علي عليه السلام، وقد أثبت التأريخ ذلك الشيء بكل وضوح.
وحينئذ لا يمكن لأي فرد أن يمتلك حجة الإعتراض على ما صدر من الرسول صلى الله عليه وآله، علماً إنّ جميع المسلمين يعرفون مدى فعالية هذا الإستحقاق الذي مُنِحَ لأمير المؤمنين، بحيث لم ينبس أحد ببنت شفة يلمح من خلالها إعتراضه على هذا الأمر .
هذا طبعاً على العكس مما لو أن هناك خصائص وسمات لعلي عليه السلام تناسب ذلك المستوى من فهم المجتمع، لم تظهر بعد، فعندها سيتمكن البعض من إثارة عدّة إشكالات، تبدو للناظر إليها نظرة بدوية، أنها ناهضة، كصغر سن الإمام مثلاً وعدم قدرته على القيادة أو الخروج من الأزمات، ولكن جميع التجارب والاختبارات التي خاضها الامير عليه السلام قد إجتازها بنجاح، بحيث لم يبقَ لأي أحد حجة يلقيها أمام الرسول صلى الله عليه وآله تقلل من شأن علي عليه السلام، أو تؤخر أي إستحقاق إلهي له .
ثانياً :
في السنة العاشرة للهجرة اعلن الرسول صلى الله عليه وآله بشكل رسمي النفير العام للحج ولم يكن في السابق قد عمل مثل هذا الأمر وأراد من جميع المسلمين الحضور من استطاع الى ذلك سبيلاً، وكانت المسافة بين المدينة ومكة حوالي ٤٠٠ كم قطعها في ثمانية أيام ، وكان الرسول صلى الله عليه وآله مُجِداً في سيره حتى شكا إليه الراجلون التعب، وعند رجوعه بعد انتهاء مناسك الحج، رجع الناس مع موكب الرسول، حتى وصل الى موضع يسمى غدير خم وهو يبعد عن مكة بـ١٨٥ كم، فتوقف حتى لحق به الناس ورجع من تقدم وخطب بهم خطبة الغدير الخاصة بإثبات الولاية لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وكان عدد الحاضرين يقارب المئة ألف.
وقد كان هذا المكان غير مُعد للنزول، وهو مفترق طرق يتفرق منه الناس الى أوطانهم، فعلى هذا يكون المسلمون قد انهكهم التعب والإرهاق، مضافاً الى حرارة شمس الصحراء اللاهبة.
إذن على هذا الحال لابد أن يكون الأمر عظيماً حتى يأمر الرسول صلى الله عليه وآله المسلمين بالتوقف والتجمع لسماع خطبته، ولو كان أمراً عرضياً لكان من الممكن أن يختار موقفاً ومكاناً آخر غير هذا الموقف المحرج ليبلغهم فيه ولا يحتاج الى هذا التوقيت بالذات.
ولكن لأهمية هذا الأمر، ولا بدّية التبليغ الذي لا يتحمل التأخير، كان ذلك الموقف في تلك البقعة من الارض، وحينئذ سيتساءل المسلمون عن الداعي لهذا التوقف الطارئ والمفاجئ، ليكون أكثر وقعاً في النفوس وحتى يلتفتوا بشكل جدّي الى أهميته والإلتزام به.
ثالثاً:
إنّ بيعة الغدير حدثت في السنة العاشرة للهجرة، فهي إذاً قريبة من الوقت الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا الأمر بطبعه سيجعل المسلمين يعيشون احداث بيعة الإمام عليه السلام وكأنها حاضرة وقائمة بينهم، ولا يمكن لهم أن يتناسوها ويتجاهلوها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وينكروا فضل علي عليه السلام وإستحقاقه.
وهذا على العكس مما لو حصلت البيعة في السنين الأولى لبداية الدعوة الإسلامية أو في السنة الأولى للهجرة، إذ من الممكن أن يدّعي أشخاص معينون بأنهم قد نسوا ذلك وينكرون آثار الموقف الذي حدثت به أركان البيعة، أو يقولون بأن هناك أمور استجدت وظروف تبدلت، ووضع إجتماعي قد تغير، ولذلك كان إختيار الرسول صلى الله عليه وآله لهذا المكان وفي ذلك الزمان أثراً مباشراً وحجة على المسلمين، متى ما خالفوها سيُلامون ولا يستحقون إلّا العقاب .
رابعاً :
إنّ أمر التبليغ بولاية علي عليه السلام على المسلمين، جاء بعد أن إنتشر الإسلام، ولم يبق أي مشرك في مكة والمدينة ولو ظاهراً، واصبح الإسلام قوّة لا يستهان بها، وأخذت الأمم الأخرى من أصحاب الديانات الأخرى تتهيب منه وتحسب له ألف حساب، ولذلك فإن في هذا الأمر بعدان :
الأول : سيكون هناك إنتشار لأمر هذه البيعة، وبمجرد أن تعرف الأمم المجاورة للإسلام به، فسيصيبها اليأس من التخلص من هذا الدين الجديد، كون قد سُلَّم لشخص علي عليه السلام، وهو الأمين المؤتمن، الشجاع الصلب، الحكيم العالم، الذي ملأ صيته الخافقين، ولذلك سيكون خير حامي لهذا الدين، ولا يمكن أن تنقض أركانه بوجوده .
الثاني : أصبح أمر البيعة لعلي عليه السلام بالولاية ساري المفعول على جميع المسلمين، الذين إمتلأت بهم جزيرة العرب، وهذا بخلاف مالو تمت البيعة في بداية الدعوة الإسلامية أو في منتصفها، لأنّه حينها لم يكن المسلمون بهذه الكثرة وهذا العدد، وحينئذ يمكن للكثير ممن لم يكن قد أسلم في حينها أن يتنكر لأمر البيعة ويستطيع أن يقول بأنّه قد أسلم بعدها، فهو في حِلٍّ من هذه البيعة.
ولكن بوجود جميع المسلمين سواء من كان حاضراً في مكان البيعة أو في مكان آخر، فقد سرى أمرها عليهم وأُلزموا بها. وبذلك قد أنجز الرسول صلى الله عليه واله أمر التبليغ بأتم إنجاز وأفضل الظروف. ولا يمكن أن ينكر ذلك إلّا منافق ملعون أو حاسد مشؤوم أو عدو هالك.
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
وعجل فرجهم والعن عدوهم
*علي الزيدي