الأخوة الإسلامية ودورها في بناء الحضارة

السبت 19 أغسطس 2017 - 09:46 بتوقيت مكة
الأخوة الإسلامية ودورها في بناء الحضارة

أفكار ورؤى - الكوثر

الإسلام عقيدة وشريعة جاء لإسعاد الإنسان في أقطار الأرض ومعالجة مشاكله ومعضلاته دون أن يختص خطابه بطائفة دون طائفة أو بعنصر دون عنصر أو بقوم دون قوم، ولا تجد في عقيدته وشريعته أثراً من آثار القوميّة ولا ملمحاً من ملامحها.

كما انّه بنى القيم الأخلاقية على أسس رصينة تستمد مقوماتها من الفضائل الروحية والكمالات النفسية، لا من عنصر خاص أو طائفة خاصة، حتى العربية التي هي لسان كتابه وشريعته لم يتخذها ملاكاً للفخر والاعتزاز.

لقد تفشّت ظاهرة القومية بين العرب في العصر الجاهلي وكأنّ رحى الفخر قد دار حولها وكأنّ جميع القيم والخصائل الإنسانية قد حُصِرت فيها، وفي تلك الأجواء المشحونة بالعنصرية والطائفية والقومية ظهر الإسلام شاطباً بقلم عريض على تلك النزعات المقيتة، وقال: (يا أَيُّها النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ) (1)

والعجب انّ هذه الآية إلى جانب اعترافها بجميع القوميات حيث تقول: (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ). تعود وتفسر فلسفة هذه القوميات بقولها (لتعارفوا) أي خلقناكم أقواماً وطوائف مختلفة للتعارف لا للتفاخر، للأُلفة لا للتناحر، للتعاون لا للتفرق، للخير لا للشر، وحصرت ملاك الفخر في التقوى وقالت: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ).

هذه الآية المباركة وإن تكلّم فيها المفسرون قديماً وحديثاً ولكنّهم لم يركِّزوا على تلك النكتة التي صرحت بها، وهي انّ الإسلام لا ينكر القومية بل يعترف بها ويراها من شؤون الخلقة التي تعلقت بها يد الجعل والقدرة وقال: (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقبائِلَ) ولكنّه يتخذ القومية المعترفة ذريعة للفضائل، وهي التعارف والتجاذب والتعاون، لا ذريعة للتفاخر والتنازع.

إنّ نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقتصر على هذه الآية بل أعقبها بكلامه الطيب وحدّد موقفه من القومية وانّها ليست ملاكاً للافتخار وقال في بعض خطبه التاريخية: أيّها النّاس، إنّ ربّكم واحدٌ، وإنّ أباكم واحدٌ، كلّكم لآدم وآدم من تراب (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ) وليس لعربيّ على أعجميّ فضل إلّا بالتّقوى(2)

وقال في خطبة حجة الوداع: أيّها الناسُ انّ ربكُم واحد، وأباكُم واحد، ليسَ لعربيّ على أعجمي، ولا لأعجمي على عربيّ، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر ، فضل إلّا بالتقوى(3)

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ العربية ليست بأب والد ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه".(4)

هذه نماذج من أقواله (صلى الله عليه وآله وسلم) استعرضناها على حضراتكم حول نبذ القومية والتركيز على القيم الأخلاقية.

وأمّا مواقفه العملية على هذا الصعيد فقد تلخصت في اهتمامه بالقيم الأخلاقية والانسانية دون أن يعير أهمية للقومية المقيتة.

نرى انّه (صلى الله عليه وآله وسلم) طرد عمه أبا لهب مع صلته الوثيقة به من حيث الدم واللسان والتراب، وفي الوقت نفسه قرّب سلمان الفارسي على الرغم من اختلافه معه في اللسان والدم والتراب. وما هذا إلّا لأنّ أبا لهب كان على شفير جرف هار من المساوئ الأخلاقية وسلمان كان في أوج القيم والفضائل الإنسانية.

هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة فآخى بين العبيد والسادة، فهذا هو "بلال الحبشي" كان عبداً أسود قد آخى رسول الله بينه وبين «خالد الخثعمي» من أكابر الصحابة، كما آخى بين «زيد» الرق مع عمّه «حمزة»، وبين «عمّار» و«حذيفة»، كلّ ذلك لأجل صهر الفوارق الطبقية الناشئة من القومية .

وقد أثّرت التعاليم الإسلامية أثرها في القلوب إلى حدّ ارتقى كثير من الموالي إلى مناصب عالية وما كان لهم ذلك لو لا الإسلام، فصار الموالي العجم يسيرون جنباً إلى جنب مع العرب في نشر الإسلام وإسعاد البشرية ونجاتها من براثن الوثنية.

وفي ضوء تلك التعاليم صارت المرأة المسلمة كفؤاً للرجل المسلم دون نظر إلى قوميته وطائفته ولسانه. وقد جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك المساواة بفعله حيث زوّج بنت عمته زينب حفيدة عبد المطلب زعيم قريش، بعبد أسود يدعى زيد بن حارثة وكان لعمله هذا صدى واسع على نطاق الجزيرة العربية، وبذلك أزاح الجدار المزعوم بين العبيد والأشراف، حتى انّ أخا زينب قدم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ مندفعاً من خلفيات عنصرية وطائفية ـ واعترض قائلاً: أو ليس هذا عاراً حيث زوجتَ بنت بيت الشرف بعبد أسود؟!

فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: إنّ زوج زينب رجل مؤمن فهو كفؤ لزينب، و لما طلّق زيد زوجته زينب وانفصم عقدهما، قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتدارك ما فات، فزوج زينب لنفسه ليثبت انّ زواجها بزيد لم ينقص منها شيئاً، فها هي اليوم زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الخليقة على الأرض.

وها نحن نذكر هنا حادثة طريفة وقعت في عصر الرسول ، ينقلها الإمام محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) وهي تعكس الفكرة الرائجة عند المسلمين.

قال: كان سلمان جالساً مع نفر من قريش في المسجد فأقبلوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم حتّى بلغوا سلمان، فقال له بعض الحاضرين: أخبرني من أنت ومن أبوك وما أصلك؟ فقال: أنا سلمان بن عبد الله كنت ضالاًّ فهداني الله عزّوجلّ بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا نسبي وهذا حسبي، قال: فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلمان رضي الله عنه يكلّمهم، فقال له سلمان: يا رسول الله ما لقيت من هؤلاء جلست معهم فأخذوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم حتّى إذا بلغوا إليَّ قال بعضهم: من أنت وما أصلك وما حسبك؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : فما قلتَ له يا سلمان؟ قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد الله، كنت ضالاًّ فهداني الله عزّ ذكره بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكنت عائلاً فأغناني الله عزّ ذكره بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكنت مملوكاً فأعتقني الله عزّ ذكره بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، هذا نسبي وهذا حسبي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا معشر قريش إنّ حسب الرَّجل دينه ومروءته خلقه، وأصله عقله، وقال الله عزّ وجلّ : (إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ) ثمّ قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضلٌ إلّا بتقوى الله عزّوجلّ، و إن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل.

انّ الشريعة التي تحمل هموم الإنسانية وتحاول نجاتها من مخالب الوثنية والمفاسد الأخلاقية لا محيص لها إلّا أن تنظر إلى العالم من منظار واسع وتنظر إلى الإنسان مجرداً عن كلّ لون وعنصر، فلذلك عاد الإسلام يخاطب جميع الناس بقوله: (يا أَيُّها النّاس) مكان «يا أيّها العرب» أو «يا أيّها العجم» ويؤسس «دار الإسلام» مكان «دار العروبة»، فصار هذا وذاك سبباً في أن ترى جميع الشعوب في الإسلام ديناً لها لا ديناً لطائفة خاصة أعارته هذه.

وفي ضوء ذلك اتحدت الشعوب غير المتجانسة تحت راية الإسلام ونشروا ثقافة إسلامية إنسانية في جميع الأقطار، وصارت تلك الوحدة نواة للحضارة الإسلامية التي لم ير تاريخ البشر مثيلاً لها.

فالحضارة الإسلامية هي حصيلة جهود الشعوب الإسلامية المختلفة، ولكل فيها سهم وافر.

 

الدعوة القومية ومضاعفاتها

الدعوة القومية فكرة مستوردة من الغرب، والغرض من ورائها هو تشتيت صفوف المسلمين وتمزيق وحدتهم وجعلهم أُمماً متناحرة فيما بينها.

ومن تصفّح التاريخ يجد انّ لهذه الدعوة جذوراً تمتد إلى زمن الأمويين، الذين شرعوا في الخطوات اللازمة لتوطيد القومية من خلال توزيع المناصب الحكومية على العرب خاصة، وتحقير غير العرب من سائر القوميات وقد انتهى الأمر إلى استياء عام واندلاع حركات تمرّد وعصيان في كافة أرجاء الأمصار الإسلامية، فأخذ الجهاز الأموي الحاكم يتهاوى أمامها، إلى أن تمّ القضاء عليه.

ولما زالت دولة الأمويين وقامت دولة العباسيين اتخذوا سياسة مناقضة للأمويين حيث قدموا العنصر غير العربي على العنصر العربي ووزعوا المناصب عليهم.

انّ السياسة التي سلكتها كلتا الدولتين كانت على طرف النقيض من الإسلام ولم تُنتج إلاّ إيقاف عجلة تقدم الحضارة الإسلامية.

فلو كانت الخلافة العباسية متجاوبة مع روح الإسلام لما آلت إلى الضعف و الزوال ولازداد الإسلام قوة ومنعة.

 

الاستعمار وعناصر القومية

بثّ الإسلام روح التسامح والتصالح بين القوميات المختلفة، متخذاً الإنسانَ محوراً لدعوته وإرشاده، وجعل التفاخر بالتقوى والأخلاق الفاضلة، مما حدا إلى اجتماع القوميات المختلفة تحت رايته وخيمته دون أن ينتابهم شعور بالعنصرية والقومية، لانّ الإيمان جعلهم كالاخوة فيما بينهم.

ولما استيقظ الغرب من سباته في القرن التاسع عشر، ورأى المسلمين كتلة وحدة يحكمون أصقاعاً شاسعة ذات ثروات عظيمة، ورأى أنّ الإسلام سدّ منيع أمام تحقق أطماعه، حاول تمزيقهم إلى دويلات صغيرة بُغية القضاء على شوكتهم وعظمتهم من خلال إحياء القوميات في كل صقع، فزرع القومية التركية في تركيا، والفارسية في إيران، والعربية في البلاد العربية إلى غير ذلك من القوميات. كما سعى إلى بث روح القومية بين شعوب تلك المناطق. والعجب أنّ دعاة القومية في البلاد الإسلامية لم يكونوا مسلمين، بل تربوا في أحضان الاستعمار(5) وأخذوا بإثارة النعرات الطائفية. وفي ظل هذه الدعوة البغيضة انفصمت عرى الخلافة الإسلامية وتمزقت أوصالها، وعادت بشكل دويلات صغيرة، وأضحت لقمة سائغة للاستعمار قابعة تحت نيره.

 

موقف الإسلام حيال القومية

إنّ الإسلام يحترم كافة القوميات دون أن يرجّح قومية على أُخرى، بل ينظر إلى الجميع بعين الأخوة، ويقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة) ويقول أيضاً: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).

ويقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.(6)

فهذه هي الوصفة التي كتبها الإسلام لإسعاد البشرية كافة، ومع ذلك لم يلغ القومية وايجابياتها بل احترمها.

روى المفسّرون أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما هاجر عن مكّة المكرّمة ووصل في طريقه إلى «جحفة» تذكر موطنه وحنّ إليه فامتلأت عيناه بالدمع، فنزل عليه أمين الوحي يسليه بالآية المباركة: (إِنّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعاد).(7)

وقد حقق سبحانه وعده، ففتح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة بعد ثمانية أعوام ودخلها من ناحية «أذاخر» وهي أعلى نقطة في مكة، ولما وقع نظره على الكعبة وبيوتات مكّة هاج به الحزن، وقال مخاطباً ربوعها بأنّي أُحبك ولولا أنّي هُجّرتُ لما تركتك. لا شكّ أنّ الإنسان إذا نشأ في ربع من الربوع وترعرع فيه منذ نعومة أظفاره وحتى بلوغه وهرمه، يجد في نفسه حبّاً ورغبة ووُدّاً حياله، فذلك أمر جبلي قد فطر عليه الإنسان ولم تكافحه الشريعة التي هي دين الفطرة بل احترمته، لذا تجد أنّه يحاول بكافة السبل الحفاظ على لغته الأُمّ وثقافته، وبذل كافة الجهود في سبيل ازدهار وطنه ورفاه قومه.

فالمترقب من كلّ مسلم إعمار بلده واستثمار ثرواته في سبيل خدمة قومه وثقافته القومية إذا كانت متجاوبة مع القيم والمُثل الإسلامية وهذا أمر مرغوب إليه من قبل الإسلام، ولكن المحظور هو جعل القومية ملاكاً للتفاخر والتفوّق.

وأختم بهذين البيتين:

انّا لتجمَعنا العقيدة أُمّة *** ويضمنا دينُ الهدى أتباعا

ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا *** مهما ذهبنا في الهوى أشياعا

 

اللّهمّ ارزق المسلمين توحيد الكلمة كما رزقتهم كلمة التوحيد.

 

*الشيخ جعفر السبحاني

------------------------------

المصادر:

[1] . الحجرات: 13.
[2] . تحف العقول: 34.
[3] . سيرة ابن هشام: 2/ 412.
[4] . الكافي: 8/246 برقم 342.
[5] . انظر المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام.
[6] . مسند أحمد: 4/ 270.
[7] . القصص: 85.

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 19 أغسطس 2017 - 09:46 بتوقيت مكة