وبالأمس خرجت علينا جهابذة الكلمات الأمريكية بمنتج جديد لايزال طازجا أطلقه تيلرسون .. احتفل به الكثيرون واعتبروه نصرا فيما اكفهرت وجوه المعارضين وكظم بعضهم الغيظ .. ولكن الطرفين لم يكونا على صواب.. فالأميريكيون قالوا بأنهم أقروا بأن مصير الرئيس الأسد صار الآن بيد روسيا.. وهذه العبارة تحمل نفس المعاني التي طالما أصرت اميركا على دفعها في لاوعينا رغما عنا..
ان العبارة تحمل منتهى الاهانة للجميع.. للسوريين المعارضين والموالين وللروس.. لأن من يقرأ العبارة على أنها استسلام اميركا وتسليم بفشلها الذريع ليس على صواب.. لأن كل هذه الحرب التي خضناها ودفعنا ثمنها عشرات آلاف الضحايا كانت من أجل أن لا يكون مصير الشعب السوري بيد أحد.. بل بيد أبنائه فقط..
وعبارة مصير الأسد بيد روسيا يعني أن أميركا لا تريد أن تفكر بالشعب السوري على أنه مجموعة بشرية لها مكانتها واحترامها ودورها الحضاري والتاريخي ولا يمكن اختصار أهم قرار سيادي لها المتمثل بشخص الرئيس بأنه بيد آخرين بغض النظر عن هؤلاء الآخرين .. وهذا الاختصار يهين حتى المعارضين ان كان هناك فيهم من يفهم ولديه كرامة لأن مغزى الرسالة أن السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم يقرر مصيرهم آخرون ويقرر اسم رئيسهم آخرون ..ان لم تكن اميركا .. فستكون روسيا .. وليسوا هم..
أما روسيا فتلحق أميركا بها الاهانة بأن تسلمها مصير شعب وكأن روسيا قاتلت من أجل أن يكون لها دور استبدادي واحتكاري لتقرر لأمة أخرى اسم رئيسه ومصيره.. أي أن روسيا بوجودها العسكري في سوريا تحولت الى قوة استعمارية لأنها حصلت على نقوذ القوة الاستعمارية وهو أنها تقرر مصير الرئيس لدولة توجد فيها قوات عسكرية روسية .. مما يضفي صبغة احتلال على الوجود الروسي لأنها تمكنت من انتزاع اعتراف بأنها حصلت على ذلك التكليف من خلال قوة وجودها العسكري .. بل ان قبول روسيا به يعني أن كل ما قالته عن القرار السوري المستقل وضورة ترك مستقبل سوريا ليقرره ابناؤها كان كلاما في كلام وأنها كانت تكذب على العالم وعلى السوريين.. فهي رفضت رفضا قاطعا التفاوض بشأن تحديد اسم الرئيس السوري ورفض الوصاية الغربية ورفعت الفيتو من أجله .. واذا قبلت بكلام تيلرسون فان كل ما فعلته لم يعد له معنى بل انه استغلال للشعارات ثم التنكر لها عند تغير المستفيد منها ..
ولذلك فان الشعب السوري لا يكترث بما تكتشفه أميركا مبكرة أو متأخرة وبما تقرره .. لأن اميركا يمكن ان تقرر مصير الملك السعودي .. ومصير امير قطر .. مصير الأسر المالكة في الخليج (الفارسي) المحتل .. وتقرر مصير سعد الحريري .. مصير ملك الأردن وزوجته .. في حين أن كل عناصر وقادر 14 آذار فيقرر مصيرهم السفير الأميركي في بيروت .. أما مصير الشعب السوري فلا يقرره الا الشعب السوري وجيشه .. ولذلك فان أصغر جندي في الجيش السوري يستطيع أن يقرر مصيرنا أكثر من الرئيس الأمريكي نفسه ..
ولكن اذا أردنا أن نلعب لعبة الألفاظ الامريكية ونقول بأننا نقرر مصير الرئيس الأمريكي ومصير رئيس الوزراء الاسرائيلي فاننا لا نجانب الصواب .. فمثلا بسبب اشعالنا للمقاومة العراقية ضد جورج بوش فان اوباما استفاد من هزيمة مشروع بوش وتم اختياره كرئيس بعد بوش ليقود الانسحاب من العراق .. ولكن هزيمة اوباما في مشروع التغيير في سوريا دفع ثمنه حزبه ومرشحته هيلاري كلينتون التي لولا ثبات الشعب السوري لكانت خيارا أميركيا باستمرار مرحلة الديمقراطيين .. ولكن استفاد من خيبات أوباما في سوريا رجل الأعمال دونالد ترامب الذي رفع شعارات التنصل من الثورة السورية وخفض التدخل في الشرق .. وترامب سيدفع ثمن رعونته ان لم يقرر التراجع عن سياسة الاستعراض الأجوف .. وهذا الأمر ينطبق على نتنياهو .. وأمامه نموذج أولمرت .. لأن أيهود أولمرت خسر التحدي مع محور المقاومة في مواجهة قاسية مع حزب الله الذي كان عماد دعمه الشعب السوري وجيشه .. ولذلك فانه تم عزل أولمرت بل وملاحقته قضائيا بذرائع فساد وتم زجه في السجن وانتهى نهاية مأساوية (الصورة) ولو أنه حظي بمصافحة الرئيس بشار الأسد ولو مرة واحدة لدخل تاريخ بني "اسرائيل" كأحد انبيائها وملوكها العظام مثل سليمان وداود .. في حين أن شارون البطل الاسرائيلي في نظر الاسرائيليين ورغم قضية الفساد التي تورط فيها ابنه جلعاد فانه عومل بتسامح وطويت القضية لن صاحبها البطل شارون .. ولم يدخل ابنه السجن لأنه ابن البطل الذي صنع الدفرسوار وجاء بمصر الى كامب ديفيد من تلك الثغرة التي عبرت منها مصر كالأسد المحاصر الى قفص كامب ديفيد الذي أقفل عليها منذ 40 سنة .. ولم يفتح حتى الآن ..
مما سبق نجد أن الكلام الذي تطلقه أمريكا هو غبار لتضليل العيون .. فاعتبار مصير الأسد بيد روسيا هو استمرار لاعتبار مصائر الشعوب بيد أمم أخرى وهذا تكريس لمبدأ أمريكا في رفض مبدأ الاستقلال والسيادة للشعوب والأمم .. ولكنه ايضا تغاض وتعمية عن حقيقة أكثر خطرا هي أن أمريكا صارت تجد ان مصيرها يتحدد من قبل شعوب لا يقدر غرور أمريكا على تحمله من شدة قسوته وامعانه في اهانة الذات الأمريكية .. وهو ما ستحاول حتى الرمق الأخير تجنبه كقدر بدأ يتشكل في الشرق على يد الرئيس السوري الذي لا يقرر مصيره الا الشعب السوري ..
وتفهم روسيا هذه الحقيقة وهي تصر على التمسك بقرار الشعب السوري لأنها تدرك أن رهانها على الشعب السوري ليس خاسرا وأن الأسد يمثل خيار وقرار الشعب السوري .. ولذلك فقد حاولت أميركا اسقاطه ..
التلاعب بالالفاظ انتهى زمنه وصار بضاعة قديمة ولا تجد سوقا لها الا عند الأمم الجاهلة والتي لا تقرأ .. بضاعة اليوم الرابحة هي الارادة والقتال وصناعة الكبرياء .. ونحن لدينا ارادة القتال والتمسك بالكبرياء .. ولذلك فان من يملك الارادة والقتال والكبرياء ليس من حقه أن يحدد مصيره فقط ..لا بل مصير العالم ..
* نارام سرجون - شام تايمز