أرخت الأزمة الخليجية، والحصار على قطر، بظلالها على الجزيرة. الامبراطورية الإعلامية القطرية أحد أبرز الأهداف الخليجية، ولا يمكن فك الحصار دون إغلاقها وفق البنود التي قدّمتها الدول المُحاصِرة للدولة المُحاصَرة عبر الوسيط الكويتي.
بدا لافتاً الرد القطري الباهت عبر قناة الجزيرة على ادعاءات الإعلام المقابل خلال الأيام الاولى، حيث التزمت القناة بنوع من الرصانة السياسية التي حاول الجانب القطري إظهاره للعالم خلال أزمة الحصار، وبالفعل نجح في ذلك.
إلا أن المتتبع للقناة، ليس فقط في ملف الحصار، يعي جيّداً وجود تحوّل نوعي في تغطيتها للأحداث، وتحديداً فيما يتعلّق بالعدوان السعودي على اليمن، أو الحرب القائمة في العراق ضدّ تنظيم داعش الإرهابي.
الملف العراقي
بعد أن كانت التغطية الإعلامية فيما يتعلّق بمعركة الموصل ترتكز في أغلبها على مزاعم انتهاكات بحق المدنيين من قبل "ميليشيا الحشد الشعبي"، بدت التغطية الإعلامية في مرحلة ما بعد الأزمة الخليجية أكثر اتزاناً حيث ركّزت على سير المعارك الجارية ضدّ التنظيم الإرهابي.
وفي التغطيّة، بدا التحوّل واضحاً في دعم القوات العراقيّة، ورغم احتفاظها بتعبير مليشيا، فيما يخصّ قوات الحشد الشعبي، إلا أن القناة القطرية بدا موقفها واضحاً في مواجهة وعدم تبرير أي فعل من أفعال التنظيم الإرهابي. هناك خشية قطرية اليوم من استغلال أي موقف إعلامي لها لاتهامها بدعم الإرهاب، لذلك عمدت القناة القطرية على الوقوف بجانب القوى الشعبية بغية الحؤول دون أي ذريعة يستخدمها خصومها في إطار المواجهة القائمة.
هناك محاولات جادّة من قبل القناة القطرية للعودة إلى ما قبل حرب تموز عام 2006، وكما حصل في الفترات الأولى من ما يسمى بالربيع العربي، حين كانت تقدّم القناة نفسها كداعم أساسي لخيارات الشعوب في مواجهة الإرهاب.
التغطية اليمنية
في الملف اليمني، بدا التحوّل القطري أكثر وضوحاً، ربّما بسبب مشاركة الجيش القطري بالعدوان السعودي ومعرفته بتفاصيل الميدان، أو بهدف تصفية الحسابات مع الامارات والسعودي، أو الاثنان معا.
ورغم أن الامبراطورية الإعلامية حافظت على مفرداتها "مليشيا الحوثي" و "الرئيس المخلوع صالح"، بما يتماهى مع السياسة الخارجية القطرية القائمة حالياً ، والمتمثّلة بنوع من ضبط النفس وعدم قطع "شعرة معاوية" مع الجانب السعودي تحديداً، إلا أنها لم تتوان عن استهداف الإمارات والسعودية، الأولى بشكل أكبر، في تغطياتها الإعلامية.
فقد أكّدت الاتهامات بدعم الإمارات لقوّات ترتكب انتهاكات جسيمة كالترحيل وغيره، كما حمّلت الإمارات مسؤولية التعذيب في السجون التي يتمّ التحقيق فيها تحت إشراف أمريكي.
الانتهاكات الإماراتية ليست بالأمر الجديد، هذا ما تتحدّث عنه التقارير الغربية مراراً وتكرارً، إلا أنّ التغيّر الحاصل يختص بالجانب القطري، لا الإماراتي والسعودي القاتل، ولا اليمني المقتول. قناة الجزيرة التي تقدّم نفسها تحت شعار الرأي والرأي الآخر، لطالما كانت في السابق تنقل أحد الآراء دون الأخرى، إلا أنّها اليوم عدّلت في بوصلتها بعض الشي الأمر الذي دفعها لمواجهة الإمارات ونقل أخبار عن دعم الأخيرة لعودة علي عبدالله صالح إلى السلطة، إضافةً إلى رصدها للتقارير الدولية ضد أبو ظبي بدءاً من حادثة السجن الاماراتي، وليس انتهاءً بما نشره موقع ديلي بيست الأمريكي متسائلاً عما إذا كانت دولة الإمارات العربية المتحدة الحليفة للولايات المتحدة وراء حالات تعذيب واختفاء قسري في اليمن.
وبين هذا وذاك، يبدو أن الخلاف الخليجي والمطالبة بإغلاق الجزيرة، دفع بالقيّمين عليها لإجراء جردة حسابات، خلصت إلى ضرورة اتخاذ القناة لمنحى وسطي بخلاف السنوات السابقة التي كانت تنحاز فيها لطرف دون آخر.
نوافق الجزيرة بأن مطالب إغلاقها يعدّ اعتداء على حرية التعبير، التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة التاسعة عشرة منه، ونطالبها بالتزام نوعاً من الحياد إزاء الأزمات الإقليمية، واعتماد الخيارات الشعبية، وما نتلمس من محاولاتها الإعلامية اليوم في الملفين اليمني والعراقي. نأمل أن تسري هذه الخطوة على الملف السوري عبر اعطاءها أهمية متوازية للشارع الشعبي الواسع الذي يدعم الرئيس بشار الأسد.
ما نتوقّعه اليوم أن تحذو الجزيرة حذو النظام القطري، ولا نستبعد رفع وتيرة تهجّمها على النظامين السعودي والإماراتي، مع دفع أكبر للقوات الشعبية في العراق واليمن، في حين أن الساحة السورية قد تبقى معلّقة بعض الشيئ لأسباب تتعلّق بالموقف التركي الذي يبدو ملتبساً لناحية ارتمائه في المحور الروسي الإيراني السوري أو التقارب مع أمريكا على حساب الأكراد، او يلتفت يميناً ويساراً كما حاله اليوم.
في الخلاصة، ورغم أنّه لا يمكن الإقرار بانتقال القناة من محور إلى آخر، إلا أن هناك إذعان لدى فئة واسعة عن وجود تحوّل نوعي في سياسية الامبراطورية الإعلاميّة القطريّة، نأمل أن يدوم طويلاً بما يصب في صالح شعوب المنطقة.
المصدر: الوقت