وبعد أن أشرنا ﺇلى الصعوبات التي تواجه الباحثين في تعريف النكتة، لا بأس أن نقف مليا عند وظيفة عملية التنكيت ومكونات هذه العملية والشروط السوسيوثقافية لنجاحها، والأقسام الكبرى للنكتة، انطلاقا من كتابات سكموند فرويد.
1- وظيفة التنكيت:
النكتة ظاهرة اجتماعية تقوم بوظائف متعددة، فباﻹظافة ﺇلى التسلية فهي تخفف من حدة التوتر والحقد والعداء، وتسعى ﺇلى نشر الفضيلة وتقويم اﻹعوجاج، وفضح الانحراف كما تعتبر وسيلة فعالة للتواصل الاجتماعي، ﺇنها استعمال براغماتي للغة، فعبرها يمكن للناس أن يُبلغوا مواقفهم ومعتقداتهم ورغباتهم وميولاتهم بشكل ملتو بعيد عن أعين الرقابة. الشيء الذي لن يتأتى لهم بوسيلة أخرى، فعن طريقها يمكن التعامل مع المواضيع المحظورة بسهولة ويسر، إنها بفضل مظهرها الخادع وشكلها المُحكم الصنع، تخفي أنها تحمل أي رسالة وبالأحرى موضوعا مُحرما. وكمثال على ذلك النكت الجنسية التي تستعمل وسيلة لتبليغ الرغبة بطريقة غامضة لكنها مفهومة، في هذا الشأن يقول فاين (fine: إن التحول من علاقة لا شخصية ﺇلى علاقة شخصية يمكن تسهيله من خلال الفكاهة؛ فبالتواصل من خلال النكتة الجنسية يمكن للرجل أن يقيس رغبة المرأة في اتصال إضافي دون أن يرفض طلبه المباشر. هذا يبين أن الرجال يؤثرون مراودة النساء عن أنفسهن من خلال النكت الجنسية؛ أي بطريقة ملتوية أو مقنعة، مفضلين ذلك على الاقتراح المباشر؛ فالنكتة بهذا المعنى، توفر لهم ﺇمكانية التملص ﺇذا ما قُوبل اقتراحهم بالرفض أو التوبيخ، كما تمكنهم آنئذ من التظاهر بالخفة وعدم الجدية، أو بعبارة أخرى سيتظاهرون بأنهم يمزحون فقط. بالإضافة ﺇلى التسلية والتعبير عن الأفكار المحظورة أو المحرمة تؤدي النكتة وظيفة أخرى. خصوصا النكتة المبنية على اللغة أو اللعب بالألفاظ. إذ تسهم هذه النكتة في ترسيخ روابط الألفة بين الأفراد خصوصا منها الفئة الشعبية، كما تساعد على تقوية روابط الصداقة والأخوة فيما بينهم، وتزيد من جاذبية المنكِّت لدى جمهور المستمعين.
1-2 مكونات التنكيت وشروطه
المقصود بمكونات فعل التنكيت الأطراف المشاركة في هذا الفعل، ﺇذ بانعدامها أو انعدام أحدها يفشل هذا الفعل. ويمكن إجمال هذه المكونات والشروط التي يلزم أن تتوافر فيه فيما يلي:
1-2-1 الإطار
وهو مجمل الشروط الاجتماعية المرتبطة بالبيئة والمحيط والزمن الذي تلقى فيه النكتة، فلكي يفلح الفعل الفكاهي يجب أن يكون الزمكان المخصص لفعل التنكيت موافقا للظروف الاجتماعية التي يحدث فيه؛ الأمر الذي يؤكد أهمية عنصر الإطار في تحديد ﺇذا كانت النكتة ستحدث صدى مقبولا أم لا.
فالتنكيت ليس دائما ممكنا وفي جميع المناسبات، ففي المجتمع الإسلامي لا يمكن التنكيت في الأماكن المقدسة كالمساجد أو وقت الصلاة أو أثناء تشييع الجنازة؛ لكن هناك مناسبات أخرى يُستحب فيها التنكيت شأن مجالس الأصدقاء، غير أن عنصر البيئة يختلف من ثقافة لأخرى، ففي بعض المجتمعات يسمح بالتنكيت أثناء الجنازة بغية أن تتحول هذه المناسبة الحزينة ﺇلى مناسبة سارة. وبالتالي فما على المشارك في فعل التنكيت ﺇلا أن يكون واعيا بالقواعد والشروط التي تحكم زمن ومكان التنكيت، فكما يقول العرب" فلكل مقام مقال ".
1-2-2 المشاركون
كما لا يستطيع المنكّت التنكيت متى أراد وأنى أراد، بمعنى أنه لا يستطيع فعل ذلك مع أي كان، فالتنكيت يسمح به أثناء التفاعل اﻹجتماعي بين الزملاء في العمل وبين الأصدقاء والمعارف الذين تجمع بينهم مودة.
ولعل من بين شروط نجاح فعل التنكيت بين المشاركين أن يكونوا من نفس السن والجنس والمستوى الاجتماعي، مع تفاوت هذه المعايير من مجتمع ﺇلى آخر. غير أن هذه المودة والعلاقة بين المشاركين لا تكفي وحدها لنجاح هذا الفعل، ﺇذ لابد من توافر شروط أخرى لها علاقة بالتواصل.
1-2-3 القواعد اللغوية
لكي تنجح النكتة يلزم أن تتوفر لدى المتكلم والسامع ملكة لغوية تمكن الأول من الإفصاح والتبليغ، وتساعد الثاني على فك رموز النكتة وتبين مواطن المفارقة؛ خصوصا في النكت المبنية على التلاعب باللغو والألفاظ. ومن تم تعد مسألة فهم نكتة واستعابها مرهون بتملك ناصية اللغة، كما أن الفشل في حل رموزها يبين أن المتعلم يحتاج لمزيد من الممارسة وأنه بعيد عن امتلاك اللغة. وبما أن النكت اللغوية تنبني على مستويات مختلفة منها ما هو معجمي ودلالي، وما هو فونولوجي تركيبي، فإن البعض يرى فيها أفضل وسيلة لتعلم اللغة واكتساب قواعدها.
1-2-4 الخلفيات الثقافية
لا يعني أن امتلاك اللغة شرط كافي لفهم النكتة، بل لابد ﺇضافة ﺇلى ذلك من توفر شرط الاشتراك في الخلفية الثقافية ، ذلك أن هذه الخلفية المتقاسمة بين المشاركين في الفعل الفكاهي وثيقة الصلة بفهم النكت. خصوصا منها تلك المعتمدة منها على الثقافة ويقول "nash" في هذا الصدد: نتقاسم الفكاهة مع هؤلاء الذين يقاسموننا تاريخنا، ويفهمون طريقة تفسيرنا للتجارب هناك ذخيرة والذكريات المشتركة تعتمد عليها النكت مع تأثير لحظي. لهذا نرى أن النكت تتضمن جملة من اﻹشارات الثقافية والحضارية التي يصعب فهمها خارج سياقها السوسيوثقافي والسوسيوتاريخي.
2- أقسام النكتة حسب فرويد
يقسم فرويد النكتة حسب مقصديتها ﺇلى نكتة مغرضة "mot d’esprit tendacieux" ونكتة بريئة "mot d’esprit innocent" فالنكتة المغرضة هي التي ترمي ﺇلى ﺇشباع الميول والنزعات الجنسية والعدوانية، تلك الميول الأساسية المرتبطة بالحياة النفسية للإنسان ومن نماذج هذا النوع النكت الماجنة أو الخليعة التي تشبع رغبات منعها الكبت أو كبحتها الأعراف الاجتماعية وحالت دونها. ويذهب فرويد بعيدا في تحليله لهذه النكت حين يقول بأنها تتجاوز حدود ﺇشباع الرغبة ﺇلى اﻹثارة والتحريض؛ فهي موجهة في الغالب حسب رأيه ﺇلى امرأة بهدف تعريتها وتجريدها من ملابسها، بل ﺇن من يضحك من فُحش كأنما يضحك من مشاهدته لاعتداء جنسي.
أما النكتة البريئة أو المجرّدة كما يسميها "esprit abstrait" فتعتمد على اللغة واللعب بالألفاظ، ولا تحمل أية شحنة عدوانية ويرجع فرويد النكتة في جميع الحالات ﺇلى اقتصاد الجهد النفسي. وبعد أن تطرقنا ﺇلى أقسام النكتة لا بأس أن نُدرج بعض التقنيات التي تشتغل عليها النكتة. وقد قسمها فرويد ﺇلى ثلاثة أقسام، هي: التكثيف والنقل والترميز أو التمثيل غير المباشر.
2-1 التكثيف
يحصل التكثيف في النكتة بالتركيب بين كلمتين تركيبا مزجيا أو بإحداث تعديل بسيط على الكلمة نفسها، أو بخلق لفظة جديدة أو باستعمال نفس الكلمة أو الاسم مرة كاملة ومرة أخرى مجزأة، بمعنى مغاير يثير الضحك. والتكثيف عموما، مظهر من مظاهر الإيجاز والاختصار، الذي يعكس بدوره الاقتصاد في الجهد النفسي الذي تنهض به النكتة.
من أمثلة الرد بالمِثل الذي يعتبر مظهرا من مظاهر تكثيف النكتة الآتية:" هذا واحد مراكشي كاليه واحد السيد ﺇلى مامشيتي فحالك غادي نضربك حتى تدور، جاوبوا هذاك المراكشي: أنا حتى كاع تدور أونضربك" والملاحظ هنا أن المخَاطب (بالفتح) رد تقريبا بنفس العبارة، فنحن أمام عبارة " حتى تدور" استعملت استعمالين مختلفين تمام الاختلاف، إذ أن من مظاهر التكثيف أيضا التأويل، الذي تعطيه الفئات الشعبية لبعض الحروف، فالجيم الحمراء (ج) في سيارات البلديات والجماعات المحلية تعني" جابها الله" ، وليس جماعة محلية، وهذه النكتة تقر بذكاء عن تصورات ذلك الإنسان العامي البسيط لجملة من الدلالات.
2-2 النقل
تعتمد مجموعة أخرى من النكت على استراتيجية النقل والتحويل وهو تحويل في مجرى الأفكار الناتج عن التباس وسوء تفاهم أو تفسير عكسي، وهذا ما تقف عليه في النكت التي تنبني على الحوار سواء أكان بين الأشخاص، أم كان مفترضا بين الكاتب والقارئ، فقد يركز أحد المتحاورين على عنصر من عناصر الخطاب، بينما ينصرف ذهن الآخر ﺇلى عنصر مغاير. وكمثال على النقل والتحويل نذكر النكتة الآتية:
جاء على لسان أحد الساخرين المغاربة من أن " أكبر سد في المغرب هو سد فمك " فهذا مثال على التكثيف، حيث تكررت كلمة "سد" باستعمالين مختلفين، ومثال النقل أيضا؛ ﺇذ ينتقل ذهن السامع بصفة مفاجئة من كلمة سد "Barrage" الأولى التي توحي له بعالم السدود المائية والزراعة، حيث يتوقع أن الخطاب جاد وأن يكون الجواب هو سد " الوحدة" أو سد آخر، غير أن بقية النكتة تحوله أو تنقله ﺇلى معنى آخر ذي إيحاءات سياسية هو ضرورة سد الفم ولجمه، لأنه قد يكلفه حريته.
2-3 الترميز
نجده في النكت التي تعتمد على التلميح والإشارة أو المقارنة التي تستند على اﻹضمار أو الحذف وأغلب النكت السياسية والجنسية تعتمد على تقنية السياسة بأسمائهم. حتى أن مجرد ذكر أسمائهم، يعتبر أفق انتظار يفتح شهية السامع ويثير ابتسامته ومن هؤلاء من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
خلاصة:
حاصل القول، يتضح بأن فعل التنكيت قد اعتمد على جملة من الميكانيزمات لتحقيق المطلوب منه داخل محيطه السوسيوثقافي والسوسيوتاريخي. وبالتالي يصبح آلية من آليات التخاطب اليومية المحملة بشحنات دلالية ورمزية وثقافية طافحة بالمعنى الوجودي للمنكّت والمنكّت له.
الكاتب: أكثيري بوجمعة
كلية الآداب والعلوم الإنسانية - القنيطرة
المصدر: صحيفة المثقف