بلغت الحملة الصليبية وحشيتها أن أكل الجنود الصليبيون لحوم البشر وقاموا بشي الأطفال على النار، ليأتي بعدها صراع الأتراك السلاجقة على حلب ودمشق عبر معارك رضوان ودقاق السلجوقيين وما خلفه صراعهما من دمار وخراب وتهجير للبلاد والعباد استمر حتى عام 1113م، ثم تتالي الحملات الصليبية وحصارها لحلب عدة مرات وتدمير ونهب أريافها، وصولا لاجتياح هولاكو قائد المغول عام 1260م لحلب وتدميره لها بعدما اجتاح أريافها ودمر وقتل وخرب كل ما فيها.
هذه الحالة من الموت والدمار وفقدان الأملاك أدت الى ظهور فرقة جديدة من الزهاد والمتصوفة، تجلت أفكار معتنقيها بامتناعهم عن اقتناء أية املاك أو متاع، ومناداتهم بإسلوب للعيش يدبرون به أمورهم يوماً بيوم دون التفكير بمستقبل أيامهم، فامتنعوا عن الاستحمام نهائياً وحرصوا على عدم اعتنائهم إطلاقاً بهيئتهم وهندامهم فارتدوا لباساً خاصاً عبارة عن عباءة من خرق مخيطة مختلفة الألوان مصنوعة من أقمشة خشنة (من الخيش أو الجوخ أو الكتان أو جلد الخروف) وتسمى “جالق”، أو يرتدون ما يشبه الجلباب المصنوع من قماش خشن ويسمى “دلق” لا يرتدون شيئا تحته ويسهل ظهور عوراتهم إن دلقوه، وساروا حفايا متكئين على عصا خشبية من شجر اللوز عادة تسمى “بلاتكين”.
وحلقوا شعر رؤوسهم ولحاهم وشواربهم حتى أنهم حلقوا الحواجب في إشارة لعدم اكتراثهم التام بشكلهم الخارجي واعتزالهم الوقوع في فخ الخطيئة مع النساء، اعتزلوا النساء تماماً وأعلنوا امتناعهم عن الزواج وتكوين الأسرة وإنجاب الأطفال مادامت هذه الأسر وأطفالها مهددة دوماً بالموت والفقدان.
وامتنعوا عن الإقامة بالبيوت، بل حرصوا على التنقل على الطرقات والنوم على قارعة الطريق للكناية عن إمكانية فقدان بيوتهم ومقتنياتها في أي لحظة وعن إمكانية نزوحهم وهجرتهم عن بلادهم فلم يرتبطوا بأرض أو وطن.
وشربوا الخمر وتعاطوا الحشيش وحرصوا على إبراز سيئاتهم للعموم قائلين أنهم بذلك يقضون على رياء نفوسهم، وأعلنوا أن ديانتهم توافق جميع الأديان والمعتقدات مهما كان نوعها وتقبل بها ولا تعارض أياً منها، في إسلوب اتبعوه لتجنيبهم الصدام عقائدياً مع أي ديانة أخرى.
وكانوا ممتنعين عن القيام بأي عمل لكسب قوت العيش، وكانوا يحملون وعاءً خشبياً معلقاً في رقبتهم يسمى ” الكشكول “، ويقوم الناس دون سؤال بوضع ما يتيسر لهم فيه من الأرزاق لتأمين معيشة القلندري دون أن يتسول القلندري ذلك ، فكان هذا ” الكشكول ” يحوي أشكالاً مختلفة وغير متجانسة من الهبات، ومن هنا جاءت كلمة ” الكشكول ” المتناقلة حالياً التي تدل على وعاء فيه خليط من الأشياء.
وعندما ظهر القائد المملوكي بيبرس في نهاية فترة الحروب الصليبية قرّب منه أتباع هذه الطريقة لغاية سياسية دينية في نفسه، فانتشرت ديانتهم ودخلت ضمن سياق الطرق الصوفية الغريبة رغم ابتعاد طقوسهم عن أي طقس ديني معتاد، بُنيت لهم التكايا والزوايا في بلاد الشام ومصر ووصلت طريقتهم إلى العراق.
وأصبح لأتباعها زاوية في حلب هي تكية وزاوية “ بابا بيرم“ التي أنشئت قرب دوار أغيور حالياً، وفي دمشق كانت زاويتهم بمقبرة الباب الصغير قرب موضع القبة وهي الزاوية التي عُرفت باسم الزاوية القلندرية الدركرينية.
باللهجة العامية المحلية تبدل لفظ ” قلندرية ” إلى قرندلية بعد إبدال الأحرف وهي عادة اللهجة العامية.
ويُشار لمتبع هذه الطريقة بلقب قرندلي، ومازالت إحدى الأسر في الريف الحلبي في بلدة تل رفعت تحمل كنية قرندل.
أما في مصر فتخفف القاف الى ألف ليكون اللقب ”أرندلي” وحتى الأن يشار إلى الأرندلي هناك بالفقير الزاهد، ويُذكر أن هناك مسلسل مصري بطله الفنان يحيى الفخراني عنوانه ” إبن الأرندلي “، في فلسطين تسمى بالعامية كرندش.
يشار إلى أنه في أولى طبعات كتاب ألف ليلة وليلة الصادرة عام 1839 م (طبعة مكناتن وقد طبعت في الهند) سميت حكاية الليلة الحادية عشرة (حكاية القرندلية الثلاثة) ثم تغيرت التسمية في الطبعات التالية إلى حكاية (الصعاليك الثلاثة).
وفي الادب العربي وردت صورة تلمّح لما كانوا يفعلونه، قال سراج الدين الوراق (توفي عام 1292م) في مديح قلندري:
عشقت من ريقه قرقف
وماله اذ ذاك من شارب
قلندرياً حلقوا حاجباً منه
كنون الخط من كاتب
ومع بداية العصر المملوكي المستقر وزوال أخطار الحروب بدأت ديانتهم بالزوال، فقام السلطان المملوكي الملك الناصر محمد بن قلاوون (الذي توفي عام 1341م) بمنعهم من اتخاذ هذه الهيئة الغريبة عن البلاد الإسلامية وأجبرهم على التوقف عن حلق لحاهم وشواربهم وحواجبهم.
تدريجياً وبمرور الزمن فقدت هذه الديانة ألقها، وانضم اليها الشذاذ وانحدر مستوى اتباعها.
نبذهم المجتمع بعدما عُرف عنهم التسول للعيش وتعاطي الحشيش وشرب المسكرات واشتغلوا بالتنجيم والعرافة والسحر وصناعة معاجين العشق وأشربة المحبة والتعاويذ.
ولم تعط هذه الفرقة حقها من البحث والتمحيص بعد، والتي يمكن اعتبارها ظاهرة مجتمعية متوقعة ومن مفرزات الحرب الطويلة والموت والدمار.
المصدر: شام تايمز