شرق أوسطيا فان اللعب على وتر الاقليات والحدود كان القنبلة التي زرعتها اليد الاستعمارية البريطانية ـ الفرنسية لاعادة التوازن مع ظهور اي قوة يمكن ان تزعزع الهيمنة الغربية على المنطقة، او تهدد الغدة السرطانية التي زرعوها في قلب الشرق الاوسط (اسرائيل).. لذلك يكفي ان تنظر الى بلداننا اليوم لتجدها جميعا ملغومة بالاقليات القومية والدينية والمذهبية.
وبالطبع فان ازالة هذه الالغام لا تكون بالتجزئة والانفصال، بل في خلق شعور حقيقي بالمواطنة والانتماء للوطن، وتقليل الحدود النفسية داخل تعريف المواطنة التي تحكم علاقة الفرد بالنظام السياسي وداخل الاطار الجغرافي الذي يعيش فيه.
مشروع سايكس بيكو (الدولة القومية) كان مقررا ان يستمر وفق رؤية مصمميه، وان تكون منطقتنا ضرعا حلوبا فيه، يدر على الغرب البترول والمواد الخام ويهيمن الغرب من خلاله على العالم وتهيمن اميركا وبريطانيا بواسطته على الغرب.. وان تدار المنطقة بواسطة اقمار الغرب وبزعامة “المتروبول” الاقليمي، اسرائيل، فجاءت الخطة الاميركية بتخريب البيت على رؤوس ساكنية او كما قال ابن العاص: “اقتلوني ومالكاً!”، فوضى خلاقة وربيع عربي وسلفية متطرفة وتجزئة عرقية.
للامانة لم يكن الكرد السباقين نحو هذه السياسة الاميركية، فقد سبقهم الى ذلك القوقازيون واهل اسيا الوسطى والاتراك القبرصيون واهل البلقان وجماعة تيمور الشرقية وجنوب السودان، لكنهم وبالنظر لتجربتهم التاريخية مع السوفيت سنة 1946، اي السنة التي ولد فيها السيد مسعود بارزاني في مهاباد، لم يستبعدوها من خياراتهم، بالعكس طبخوها على نار هادئة نفسياً واعلامياً على مدى اكثر من عقدين، فأظهروا خطابين قومي شوفيني في الداخل ووطني ليبرالي فيدرالي في خارج مؤسسات الاقليم.
ومن الخطأ هنا ان نتحدث فقط عن ضعف موقف الاغلبية الشيعية وتبعية الاقلية السنية للدول المعادية للعراق ـ رغم وجود وحقيقة ذلك ـ لكن الكرد يتحركون في الحقيقة بأتجاه المشروع الاميركي الغربي للمنطقة، فيبدو تحركهم اكثر منطقية وسلاسة من مشاريع الآخرين الوحدوية (الطوباوية) التي تحاول التوفيق بين المشروعين الوطني الوحدودي والغربي التجزيئي.. وهذا أصل الخلل.
“كردستان” و”سني ستان” في شمال وغرب العراق.. وهذا ما يفسر التباني (الاميركي ـ العروبي ـ الكردي) في ادخال داعش وتسهيل مهمتها في العراق.. لولا ان فتوى الجهاد الكفائي والفصائل المقاومة وامتداداتها الاقليمية والهبة العراقية البطولية أفسدت المشروع ثانية.
للأسف الموقف الشيعي لم يكن منطقياً، فقد راهنوا على موقف اربيل لتسوية حسابات بين زعاماتهم ولاتزال اربيل تراهن على هذه الفوضى بعد تحرير الموصل وقبيل الانتخابات القادمة لأخذ المزيد من الامتيازات المادية والانفصالية دون ان يعلن الكرد انفصالهم الذي لن يكتب له الحياة في الوقت الراهن لاسباب اقليمية، ولأن ايران وتركيا تعارضان ببساطة ذلك حتى لوجاء الدعم من أميركا واسرائيل والسعودية والاردن والامارات.
وهنا احب ان اتوقف عند زيارة الدكتور ابراهيم الجعفري وزير الخارجية الى أربيل، واتناول تصريحاته هناك حيث أكد، على ضرورة إتباع آليات حضارية لتداول وجهات النظر المُختلف عليها بشكل طبيعي، مشيرا الى أن الدستور لا ينص على الانفصال، لكنه في الوقت نفسه متحرك وليس جامداً .
لكن.. ماذا يزور وزير الخارجية أربيل ويتباحث معها حول الانفصال والاستفتاء او البقاء؟!، هل هي مهمة وزير خارجية؟! هل نحن امام دولة مستقلة (اقليم كردستان) لنرسل اليها وزير الخارجية او شخصية دبلوماسية؟!، هل مهمة الخارجية حلّ النزاعات الداخلية؟!.
ألا يعتبر ذلك تعزيزاً للنزعة والفكرة والادعاء الانفصالي لدى الكرد الذين طالما يتحدثون عن الشعب العراقي والشعب الكردي والعلم الكردي والعلم العراقي والجيش العراقي والبيشمركة ونفط كردستان ونفط العراق و… الخ؟!
صحيح ان الدستور ليس وحياً منزلاً ـ كما يقول الدكتور ابراهيم الجعفري ـ لكنه العقد الذي اجتمع عليه جميع العراقيين من زاخو الى الفاو، وليس ملعبة يحركها كل يوم طرف وشخص وحزب لا تعجبه هذه الفقرة او تلك المادة.. كنا نرجو موقفنا اكثر وضوحا من الدكتور الجعفري، رغم ان بعض المحللين قد قرأوا تصريحات السيد الجعفري في الموازنة بين عدم وجود الانفصال في الدستور ولكنه ايضا ليس نصا مقدسا، ” بأنه “وعد انتخابي من الجعفري للسيد مسعود بارزاني مقابل دعمه لرئاسة الوزراء، او البقاء في الخارجية”؟!.
تصريحات السيد الجعفري التوافقية بين قيمومة نصوص الدستور ، وإمكانية تغييرها لاحقا وفقا للظروف والمتغيرات الداخلية والخارجية، لم تكن موفقة حسب آراء الكثير من النخبة السياسية التي تناولت تلك التصريحات بالبحث والتحليل ، بعد عدم معرفة اسرار الزيارة واسبابها وتوقيتها ولماذا اقتصرت عليه بالتحديد دون بقية قيادات التحالف الوطني؟.
ختاماً.. مشروع الانفصال الكردي جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير او الجديد.. واذا ما وجد الآن قبولا لدى بعض الدول المهمة اقليما او دوليا فهذا نابع عن تزايد نسبة الصراعات في المنطقة، لكن في المستقبل قد تتغير الامور بطريقة مختلفة.
بقلم: علاء الرضائي
المصدر/ المدار للسياسة