اتجنب دائما الكتابة في المناسبات السياسية او الاحداث العسكرية المصيرية، لان القارئ لا يستسيغها في معظم الأحيان، ويرى فيها اجترارا لبعض الجمل الانشائية بهدف ملء مساحة، ونتيجة افلاس، وربما الاستسهال أيضا، ولكن هناك مناسبات يصعب تطبيق هذه القاعدة عليها، وعلى رأسها دخول الحرب في اليمن التي تدخل عامها الثالث اليوم، لما لها من تداعيات اقليمية ودولية يمكن ان تلعب، دورا رئيسيا في تغيير شكل المنطقة ودولها.
قبل عامين عندما انطلقت “عاصفة الحزم” بأكثر من مئتي طائرة من طراز “اف 16″ الامريكية الصنع، بقيادة المملكة العربية السعودية، تمثل الدول الاكثر ثراء في قصف لواحدة من افقر دول العالم ماديا، ولكنها واحدة من اغناها حضارة، وثقافة، وابداعا، وكرامة، وعزة نفس، وإرادة عالية في الصمود والدفاع عن النفس.
“عاصفة الحزم، التي لم تحسم أيا من القضايا التي انطلقت من اجلها، تحولت الى حرب “إعادة الامل”، ولكن هذا الامل لم يعد سواء لاصحابها بالنصر، او لليمنيين المستهدفين من قصف طائراتها، تغير الاسم، ولم تتغير أدوات الموت والدمار، كما لم يتغير العميد احمد العسيري، الناطق باسم التحالف، وان كان قد رقي الى درجة لواء لبلائه الإعلامي، وليس العسكري، وتزويره للكثير من الحقائق في اطار الحرب النفسية التي لعب دورا كبيرا فيها، وهذا امر مألوف في معظم الحروب، ان لم يكن كلها، ويكفي الرجل ما لديه من مصائب واخفاقات.
أتذكر بشكل اقرب الى الدقة، ونحمد الله ان الذاكرة ما زالت قوية، تفاصيل المشهد في بداية انطلاق العاصفة وصواريخ طائراتها، بجوانبه السياسية والعسكرية والإعلامية، وكيف انعكست حالة الثقة بالنصر (على من؟) على شكل مقالات صحافية وبرامج تلفزيونية، مرفوقة بتهديدات و”توعدات”، اعتقد الكثيرون ان طائرات العاصفة ستتوجه شرقا الى طهران، عاصمة الفرس المجوس عبدة النار، لتدميرها، وسبي نسائها الجميلات.
اذهلنا حديث البعض في تلك المرحلة التي كانت حافلة بـ”الامل”، عن “عقيدة سلمان” التي انهت عهد الطيبة والسكينة، وتبنت الرد والتعاطي “العسكري الحازم” مع كل الجيران (باستثناء إسرائيل)، والإيرانيين منهم على وجه الخصوص، الذين تسللوا الى اليمن وسورية واحتلوا خمس عواصم عربية على رأسها بغداد تليها دمشق وصنعاء وبيروت، ونسينا الخامسة، فاعذرونا.
الهدف من انطلاق “عاصفة الحزم” كان إعادة الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي الى مدينة صنعاء بعد استعادتها من المتمردين الانقلابيين المتمثلين في التحالف “الحوثي الصالحي”، ولكن الرئيس هادي عاد فعلا، ولكن الى الرياض بعد إقامة قصيرة في عدن، حيث تعرضت طائرته من المنع من الهبوط في مطار الثانية، وحاول اصلاح الامر بزيارة خاطفة الى ابو ظبي لم تستغرق الا ساعات معدودة، والتقى بقيادتها وقوفا في احد الكوريدورات، وسمع كلاما قاسيا، فالتقط الرسالة وعاد من حيث اتى، وهناك تفاصيل عديدة لم يحن بعد موعد سردها.
الرئيس هادي قال في حديث لصحيفة “الرياض” بهذه المناسبة ان “الحل في اليمن سيكون عسكريا للوصول الى حل سياسي”، وهذا الكلام الذي استوقفني امر متوقع منه كرجل عسكري قاد الحرب لاجهاض حركة الانفصال عام 1994 وللمصادفة تحت قيادة الرئيس صالح، ولكننا على قناعة ان الحل العسكري وبعد سنتين من انطلاق “العاصفة” يزداد صعوبة، كما ان العملية التفاوضية انهارت وماتت بالتالي، وذابت عظامها او كادت، وربما تكون معاناة اليمنيين الاهون من جيرانهم المعتدين عليهم، لانهم لم يتعودوا عليها، وعاشوا سنوات في نعيم الاستقرار وتجنب الحروب والتقشف.
التحالف “الحوثي الصالحي” لا يريد الحل العسكري لانه لا يستطيعه في ظل امكانياته العسكرية البدائية بالمقارنة مع قدرات خصمه السعودي، ويعمل على تخريب أي حل سياسي لا يحقق له اعترافا بسلطته، ومعلوماتنا تؤكد ان العسكريين الصقور في هذا التحالف يناسبهم الوضع الحالي اكثر ويخططون الى إطالة امده، أي جر السعودية وحلفائها الى حرب استنزاف مالي وعسكري تؤدي الى افلاسها ماليا، وتفكك التحالف نتيجة التكاليف الباهظة بشريا، واتساع شقوق الانقسامات والخلافات، وفعلا بدأت هذه الاستراتيجية تعطي ثمارها، وهي مرشحة لمسار اكبر في ظل دخول سلاح الصواريخ الباليستية الى الميدان، الى جانب مفاجآت أخرى متوقعة.
الرئيس صالح الذي يوصف بأنه مثل القطط بسبعة أرواح، واعذرونا على التشبيه، خرج اليوم الاحد في ميدان السبعين الاثير الى قلبه، محتفلا بـ”الصمود” طوال العامين الماضيين، وسط حشود شعبية قدرها البعض بأكثر من مليون ونصف المليون، بينما قالت وكالة الانباء الفرنسية انها تقدر بمئات الآلاف، قال السيد عبد الملك الحوثي في خطاب القاه “العدو يعيش الوهم ويقول انه سيحسم المعركة في هذا الأسبوع، او هذا الشهر، ولكننا مستمرون في التصدي طالما هناك عدوان”، اما الرئيس السابق صالح فقال “ان اليمنيين الاحرار سيستمرون في التمسك بخيار المقاومة والدفاع طالما استمر العدوان بقيادة السعودية في غيه وغطرسته وعدوانه على بلادنا ومتمسكا بخيار الحرب”.
اليمنيون الذين راهنوا على حل سعودي عسكري سريع بدأوا يغيرون مواقفهم، او معظمهم، وينضمون الى صفوف مقاومة العدوان، فهم يمنيون في نهاية المطاف، و”الشرعية” وداعموها لم تحقق لهم الحد الأدنى من طموحاتهم.
لا اعرف الى متى تستمر السعودية وحلفاؤها في خيار الحرب في اليمن، وهي تتورط في حرب في سورية، وأخرى قانونية وشيكة في أمريكا بسبب قانون “جيستا”، والقضايا المرفوعة من قبل المتضررين من هجمات سبتمبر، ومن بينهم أهالي 3500 شخص، وتقدرها أوساط محايدة بحوالي 4 تريليون دولار، علاوة على طابور طويل من الحكومات العربية التي تحمل “صحن التسول” لمساعداتها المالية.
اليمن يشهد الآن اكبر ازمة إنسانية في العالم، حيث يواجه سبعة ملايين يمني الجوع حرفيا بسبب الحصار الخانق، علاوة على ثلاثة ملايين طفل يواجهون السيئين، أي الامية والموت جوعا، لتدمير او اغلاق مدارسهم، وملايين الموظفين لم تدفع “عاصفة الحزم” او شقيقتها “إعادة الامل” رواتبهم منذ اشهر، ولا ننسى عشرة آلاف شهيد وأربعين الف جريح.
السيد احمد بن دغر رئيس الوزراء اعلن امس ان “عاصفة الحزم” استعادت 85 بالمئة من الأراضي التي استولى عليها الحوثيون وحليفهم صالح، يا سيدي هذا كلام جميل، اعيدوا الرواتب للموظفين ووفروا الطعام لسبعة ملايين جائع يمني فقط، وشكر الله سعيكم.
كثيرون لم يتوقعوا ان تستمر حرب “عاصفة الحزم” لعامين، ولكن لم تكن مطلقا من بينهم، فمن يعرف اليمن واليمنيين لا يستغرب هذا الصمود في وجه العدوان، ويحبط معظم مخططاته، وينقل الحرب الى أراضي أصحابه في الشمال.
لن نطيل في سرد مفارقات هذه الذكرى، ففي الجعبة الكثير الذي يمكن قوله، ولكننا نفضل تركه لمناسبة مرور الذكرى الثالثة، ودخول الحرب عامها الرابع، واعذرونا مرة ثالثة اذا كنا متشائمين.
الاستسلام ليس من بين مفردات قاموس الانسان اليمني، وهو مثل الجمل يصبر ويصبر، ولكن ان ثار فان ثورته لن تتوقف حتى ينتقم من اعدائه.. والأيام بيننا.