الأسبوع الحالي كان أسبوع المؤتمرات بالنسبة الى الفلسطينيين، فبينما استضافت طهران مؤتمرا لدعم الانتفاضة الفلسطينية، شاركت فيه وفود برلمانية من سبعين دولة، وممثلين عن جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، علمانية كانت او إسلامية، فتحت اسطنبول أبوابها لعقد مؤتمر للشتات الفلسطيني أشرفت حركة “حماس″ على تنظيمه، بمشاركة فلسطينيين من مختلف الوان الطيف السياسي.
السلطة الفلسطينية في رام الله شاركت في حضور المؤتمر الاول، وصبت جام غضبها على المؤتمر الثاني، واصدر حزب السلطة “فتح” بيانا هاجم المؤتمر، وشكك في نوايا منظميه، واعتبره خروجا على منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ومحاولة لتأسيس مجلس وطني بديل، ومشروع انشقاق، وقالت ان عقد هذا المؤتمر في هذا التوقيت، وهذه الكيفية، خدمة لحكومة اليمين المتطرف الاسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو وكل أولئك الساعين الى تصفية القضية الفلسطينية.
***
حركة “فتح” باتت مهمتها في السنوات الأخيرة اصدار بيانات الإدانة والتنديد بكل فلسطيني يريد التحرك لخدمة قضيته، اما ان تتحرك هي، واكثر من 150 الف موظف على قوائم معاشات سلطتها، و90 سفارة منتشرة في مختلف عواصم العالم، تحولت الى “تكايا” لجيش من أبناء وبنات المسؤولين الكبار، ولا يفعلون الحد الأدنى من الواجب الوطني لخدمة قضية بلادهم، غير المناكفات والصراعات وكتابة التقارير الكيدية.
لماذا لا تعقد حركة فتح مؤتمرا للشتات الفلسطيني يشارك فيه ممثلون من مختلف دول المهجر على سبيل المثال، وبعيدا عن المقاطعة في رام الله، ودون المرور عبر البوابات الإسرائيلية؟ ويكون سقف الحرية مرتفعا بحيث يتاح للجميع التعبير عن وجهات نظرهم بكل حرية، والحركة تملك الكثير من الأموال اللازمة لتغطية التكاليف، تماما مثلما تفعل لتغطية مؤتمر الحركة الأخير، ومجلسها الثوري، والمجلس المركزي الفلسطيني، وتنفق ببذخ سفاراتها وسفرائها؟ ثم لماذا لا تنفتح على مختلف مكونات الشعب الفلسطيني، مثلما تفعل الحركات الأخرى، وتتخلى عن الغرور والغطرسة، كما لو ان قيادتها في الفاكهاني وليس في رام الله تحت الاحتلال.
نسأل مرة أخرى، وبكل الحرقة والمرارة: لماذا لا تعقد القيادة في رام الله جلسة طارئة وعاجلة للمجلس الوطني الفلسطيني في الأردن، او الجزائر، او حتى الصومال، للتداول حول كيفية اخراج القضية الفلسطينية من حالة الانهيار التي تعيشها حاليا وتبني مشروع وطني انقاذي شامل، بدلا من وضع العصى في دواليب الآخرين، وتكون هي الرائدة والمبادرة لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني من الحالة المزرية التي يمر بها حاليا وبقيادتها؟
مكانة القضية الفلسطينية باتت في حضيض الحضيض، فلا مقاومة، ولا مفاوضات، ولا حل الدولة، او حل الدولتين، وتغول للاستيطان، واعدامات ميدانية للشبان الغاضبين المحبطين، ومع ذلك تبيعنا السلطة اوهام واكاذيب حول سحب الاعتراف بإسرائيل، او الغاء اتفاق اسلو في الوقت الذي تكافأ فيه حكومة اليمين بأعلى درجات التنسيق الأمني على الصعد كافة.
الرئيس محمود عباس “جمد” ولا نقول “قتل” حركة “فتح”، وان كان التوصيف الأخير هو الادق، فمن كان يتصور ان القيادي في الحركة اللواء جبريل الرجوب، امين سر لجنتها المركزية، يتعرض لاهانة في مطار القاهرة، ويعاد على اول طائرة، وكأنه مجرم، فلو حافظت الحركة على هيبتها ومكانتها من خلال مواقف وطنية، ورفع راية المقاومة لما تجرأ أحدا على الاقدام على هذه الخطوة المهينة، الموجهة الى الحركة والشعب الفلسطيني كله، في شخص امين سر لجنتها المركزية.
فعندما ينشغل الرئيس عباس باستقبال نجوم “اراب ايدول”، ويهتم بالمصالحة بينهم، اكثر من اهتمامه بالمصالحة الفلسطينية، فمن الطبيعي ان تنحدر هذه القضية الى هاوية الإهمال والتهميش عربيا وعالميا.
***
نعارض بقوة أي خروج عن المؤسسات الفلسطينية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واي محاولة لخلق مؤسسات بديلة، او موازية، وخاصة المجلس الوطني الفلسطيني الذي نحمل عضويته، ولكننا في القوت نفسه نرفض تجميد هذه المؤسسات، او حتى تدميرها، بالاهمال، او عبر هياكل لسلطة فاسدة عاجزة، باتت منبوذة من الغالبية الساحقة للشعب الفلسطيني.
مؤتمر الشتات الفلسطيني في إسطنبول اتفقنا معه او اختلفنا، هو جرس انذار لحركة “فتح” والسلطة، والفصائل الفلسطينية الأخرى، يعكس حالة من الغضب والتململ من الوضع الراهن، وطفحان كيل الشعب الفلسطيني بتوجهاته كافة، ويجب اخذه ودلالاته بالجدية كلها من حركة “فتح” للعودة الى ينابيعها الوطنية المشرفة، وحفاظا على تراثها المقاوم والريادي.
وهذا الوضع المأساوي الذي تعيشه القضية الفلسطينية لا يجب ان يستمر، فهذه هي المرة الاولى، وربما الوحيدة، الذي تتعاون فيه حركة تحرير مع محتليها، وتسهر على حماية امن مستوطنيهم، وتعفي الاحتلال من كل مسؤولياته، بل وتبيض صورته الدموية.
نناشد رجال حركة “فتح” الشرفاء، وهم الأغلبية الساحقة، الثورة على هذا الوضع، والمبادرة لقيادة تحرك جدي لتغييره، وقيادة المشروع الفلسطيني على أرضية وطنية، وهم الذين يملكون وحركتهم ارثا ضخما في المقاومة والقيادة والريادة، وتقديم آلاف الشهداء، والانفتاح على الآخر، بعيدا عن الادانات والتجريح والاتهامات.
عبد الباري عطوان