إن من المحطات الملفتة في حياة نبي الله يوسف -صلوات الله وسلامه عليه- هي ملاحظة أن اليد الإلهية هي التي تسوق الأنبياء، فمثلا: إبراهيم (ع) وإخراجه من النار.. وموسى (ع) وإخراجه من النيل.. و يونس (ع) وإخراجه من بطن الحوت.. فهذه اليد أيضا تعاملت مع يوسف (ع) بنفس المعادلة، فلو أن السيارة أو القافلة، قد تأخرت يوما أو بعض يوم، لمات جوعا، وهو في أعماق ذلك البئر.. ولكن تأتي السيارة في الوقت المناسب، فيدلي دلوه، ويرون هذا الغلام.. وبالتالي، يأتي رب العالمين بالمدد الغيبي، ليستخرج وليه من أعماق البئر.. إن هذه اليد عولوا عليها.
إن الإنسان المۆمن لا يحسب حساباته، فهناك ورد ما مضمونه: (يا عبدي ادعني ولا تعلمني).. أي أنت اطلب مني الهدف، أما ما هي الوسيلة؟.. وما هي المراحل؟.. فاترك الأمر إليَّ!.. فيوسف -عليه السلام- وهو في أعماق البئر، من المۆكد أنه كان يدعو إما بلسان حاله، أو بلسان مقاله.. ولم يكن يتوقع أن تكون النجاة بهذه الطريقة، والنجاة من أين؟.. وإلى أين؟.. من أعماق البئر، إلى ذلك المكان الفرعوني، إلى بيت العزيز، حيث الترف، وحيث الراحة!.. وإذا به وخلال فترة قصيرة، ينتقل من العالم الضيق، إلى ذلك العالم المترف.
ثم انظروا إلى تصرفات الله عز وجل في قلب الملوك!.. إن البعض يظن أن الله عز وجل يتصرف في قلوب الصالحين فقط.. فعندما يبتلى الإنسان ببلية، ويكون علاج هذه البلية بيد ظالم، فعليه أن لا ييأس من روح الله عز وجل.. فالذي قلّب قلب فرعون، الذي يقتل الأولاد الصغار، والرضع، لئلا يلد فيهم مثل موسى.. وإذا بهذا القلب يتحوّل، ويحتضن القاتل، وهو موسى.
وانظروا إلى هذا العزيز!.. {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}.. ومن المعروف بأن عاطفة الأبوة والبنوة، تحتاج إلى جذور فطرية.. فالإنسان يحنُّ إلى ولده الذي من صلبه، وهذا ولدٌ استُخرج من البئر، لا يعرف حسبه ولا نسبه.. وإذا بهذه العاطفة التي تأتي من خلال سنوات، من البنوة والأبوة، توجد في قلب هذا الرجل، وفي قلب زوجته.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ}.. إذا أراد الله عز وجل أن يهيأ الأسباب هكذا يهيئ.. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين}.. {بَلَغَ أَشُدَّهُ}.. أي مرحلة النضج والشباب، فالشاب الذي له وعي والتفات، حتى لو كان دون العشرين، يمكن أن يعبّر عنه بأنه بلغ أشده.. فإذن، إن سن الأربعين هي سن ما بعد بلوغ الأشد.
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}.. إن العلم الذي يعطيه رب العالمين، هذا العلم لا يتخلف عن الواقع.. فنحن نجد في أنفسنا علما، أي ينكشف لنا الواقع من خلال صورة ذهنية.. ولكن لم نصل إلى الواقع، وإنما صورنا الواقع في أنفسنا تصويرا، وقد يطابق الواقع، وقد لا يطابقه.. وعلماء الفلك هذه الأيام، يدّعون العلم بالمجرّة الكذائية، بالأوصاف الكذائية، وذلك من خلال المعادلات والتحاليل، يصلون إلى مرحلة العلم المبدعة، بينما الواقع محجوب عنهم.. ولكن العلم الذي يأتي من قبل الله عز وجل، فهذا العلم يكشف الواقع.. وعليه، فنحن علماء، ولكن بجهل مركب: أي نحن جاهلون، ولكن لا نعلم أننا من الجاهلين.
فإذن، إذا أراد الله عز وجل، أن يمنّ على عبدٍ فتح له باب الانكشاف الباطني، وفتح له كما فتح للقمان باب الحكمة، فيرى الأمور بحقائقها.. فبالنسبة للأنبياء إن دائرة هذا العلم واسعة، ويعرفون كثيرا من الأشياء: تأويل الرۆى، وما وراء الغيب، وما وراء الجدر إلى آخره.. والمۆمن يسأل الله عز وجل، أن يعطيه انكشافا بمقدار ما يحتاج إليه.. صحيح أن العلم لا يأتيه بكل أبعاده، ولكن يعطيه من العلم ما يرى به طريقه اليوم، مثلا: كيف يتعامل مع زوجته؟.. وكيف يربي ابنه؟.. وكيف يصل أرحامه؟.. وأين يسافر؟.. وأين يلقي عصا الاستقرار؟.. واختيار مواطن المعيشة؟.. ومواطن الهجرة؟.. وأسباب الرزق؟.. فإن كل ذلك من الأمور الخافية علينا.. فأين رضا الله؟.. وأين المصلحة؟.. فنحن لا نعلم، لذا على الإنسان أن يسأل الله تعالى أن يفتح له هذه الأبواب.
والجميل في الآية أنها تقول: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، فهذا العلم يُعطى، ولكن ليس جزافيا، وإنمل يحتاج إلى أرضية: الإحسان، والعلم، والجهاد الدائب.. فإذا كنت على هذا المستوى من الالتزام في الشريعة -ظاهرا وباطنا- فقد رشحت نفسك لهذا العلم الإلهي.
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ}.. إن هذه الأساليب الثلاثة، هي التي تستعملها النساء اللواتي، يردن إيقاع الفريسة في فخوخهن:
أولا: {وَرَاوَدَتْهُ}.. راودته، أي كان الكلام بلين، وبرفق.. فالمرأة التى تريد أن تصطاد فريستها من الشباب، من الطبيعي أن تلجأ إلى الكلام المعسول، وإلى رقة القول.. فالله عز وجل خلق المرأة، وجعل فيها هذه القابلية.. ويمكن تمييز صوت الرجل من المرأة، من خلال حروف، ومن وراء الهاتف –مثلا- فالرقة سمة كلام المرأة.. وهذه المرأة استعملت هذه الرقة، للإقاع بيوسف.
ثانيا: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ}.. أيضا من مكائد النساء: الخلوة، وعدم وجود الرقابة الاجتماعية، وعدم الخوف من الفضيحة، والابتعاد عن الأضواء، والذهاب إلى الظلمات، حيث لا يمكن أن تراقب.
ثالثا: {وَقَالَتْ هَيْتَ}.. أي ما بقي إلا أن تقدم، فهي تأمر أمراً بإصرار وبإلحاح، بعد المقدمتين السابقتين: المراودة برفق، واللينة في القول.. وتخلية الأجواء، بطرد الرقباء.. ثم تقول: الآن ما بقي إلا أن تقدم على ذلك الأمر.
إن ليوسف (ع) عبارات جميلة وبليغة، فقد قال هذه العبارات في تلك الخلوة، ومن وراء الأبواب المغلقة.. وإذا بعد آلاف السنين رب العالمين يكشف ما قاله يوسف في تلك الغرف المغلقة.. نعم، هكذا إذا أراد أن يظهر فضيلة يظهرها!.. وإذا أراد أن يكشف عن فضيحة كشفها أيضا.. {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.. إن أول جواب قاله يوسف: {مَعَاذَ اللّهِ}.. فلم يقل: هذا حرام، وهذا لا يجوز، وهذا يدخل نار جهنم.. لم يذكر ذلك أبدا، إنما {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ}.. الاستعاذة بالله عز وجل، وكأن يوسف (ع) بهذه العبارة تبرأ من حوله وقوته، أي يا رب!.. أنت الذي أستعيذ بك، وأنت الذي ألتجأ إليك.
{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}.. أي يا زليخة!.. هذا جواب نعم الله عز وجل!.. وقد أخرجني من الجب!.. وأكرمني في أحضان أبي يعقوب!.. وجعل محبتي في القلوب!.. وجعل هذا الرجل يتخذني ولدا!.. وأعطاني هذا الجمال!.. وبعد ذلك، ولأجل لحظات من الشهوة، أنكر هذا الجميل من رب العالمين!..
فإذن، هذا درس للشاب عندما يتعرض لهذا الموقف، فليتذكر الكم الكبير من النعم الإلهية المتوجهة إليه، وليحذر هذه الصفقة الخاسرة، وأن تسلب منه هذه النعم بدقائق معدودة: هذا العلم المعطى، وهذه الحكم، وهذا الامتياز، وهذا القرب.. هل يبيعه الإنسان في هذا الموقف؟.. أبدا!.. {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.. هو الفلاح بيده، والفوز بيده.. والذي ظلم نفسه، فإن رب العالمين لا يمكن أن يفتح له أبواب التوفيق.