لا شكّ أنّ الصبر إنّما يتحقّق إذا فرضنا أنّ هناك ابتلاءً أو امتحاناً يمرّ به الإنسان فيصبر عليه، ومن ثمّة ينبثق السؤال الآتي: ما هو الابتلاء الذي مرّ به يوسف عليه السلام وعلى ماذا صبر؟
يظهر للمتدبّر في قصّته التي عرضها القرآن أنّ هناك مجموعة من الابتلاءات مرّ بها هذا النبي الصدّيق، ويمكن تلخيصها بما يلي:
إنّ يوسف عليه السلام كما تحدّثنا السورة عن مقاطع حياته كان ذلك الطفل الصغير الذي حوّلته أيدي المقادير وسلكته في سبل الابتلاءات. فمن كيد إخوته إلى رميه في غيابة الجبّ إلى بيعه بثمن بخس إلى أن وصل إلى بيت العزيز. ومن هنا أيضاً تبدأ مرحلة أُخرى من الابتلاء أشدّ وأصعب ممّا مرّ به سابقاً.
إلاّ أنّه في خضم هذه المحن والبلايا التي تواترت عليه كان مليء القلب بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر دائم ممّا بثّه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد ومعنى العبودية ثمّ ما بشّر به من الرؤيا أنّ الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولم يكن لينسى ما فعله به إخوته ثمّ ما وعده به ربّه في غيابة الجبّ حين ما انقطع عن الأسباب كافّة، من أنّه تحت الولاية الإلهية والتربية الربوبية وسينبئ إخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.
وهذا هو الذي هوّن عليه ما نزل به من النوائب والبلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة، وفي كلّ هذه الأحوال لم نره شكّ أو أظهر شيئاً من الجزع بل كان محبوراً بصنائع ربّه الجميلة لا يرى إلاّ خيراً ولا يواجه إلاّ جميلاً. وهذا ما حكته لنا آيات متعدّدة من السورة كقوله: (مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) وقوله: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْء) وقوله: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ) وقوله: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) . فلم يكن يرى إلاّ ربّه ومالك أمره وهو الذي يسدّده كيف يشاء.
ولعلّ الاختبار الأصعب الذي مرّ به هو ما جرى من حكايته مع امرأة العزيز، فإنّ هذه القصّة تقرّر أنّ جميع الإمكانات الفردية وظروف الزمان والمكان التي تؤدّي إلى الانحراف قد توفّرت بيد يوسف عليه السلام على أحسن وجه ممكن.
فكان مع هذه المرأة في خلوة ـ كما تتصوّر هي ـ وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور، وكانا في أمن من ظهور الأمر وانهتاك الستر لأنّها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر والتعمية. ولم يكن مع يوسف ما يدفع به عن نفسه وينتصر به على هذه الأسباب القوية إلاّ أصل التوحيد وهو الإيمان بالله، وبعبارة أُخرى ليس له إلاّ أن يتترّس في خندق المحبّة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع إصبع.
يقرّر العلاّمة الطباطبائي هذه الحال التي مرّ بها يوسف بهذا التعبير الرائع:
(فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجّهت إلى جبل لهدّته أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها) . إلاّ أنّ كلّ شيء يضمحل ويتفتّت أمام المحبّة الإلهية التي يمتلكها أولياء الله المخلصون.
هذا على المستوى الفردي، أمّا على المستوى الاجتماعي فقد ابتلاه الله عزّ وجلّ بذلك المنصب الذي وصل إليه في دولة مصر آنذاك، وهو أن يكون أميناً على خزائن الدولة، ولا يخفى أنّ هذا المنصب المالي الكبير قد انزلق فيه كثير من الخلق وهلكت فيه أسماء كبيرة عندما وجدت نفسها على محكّ الاختبار المباشر المتمثّل بالسيطرة على الأموال الضخمة العائدة إلى خزائن الدول. إلاّ أنّ حال يوسف عليه السلام لم يكن كذلك، وهل ثمّة مكان للمال في قلبه الشريف لكي يميل إليه أو يطمع فيه؟! كلاّ.. بالتأكيد، بل وجدناه هو الذي جمع أرزاق الناس وادّخرها للسنين السبع الشداد التي ستستقبل الناس وتنزل عليهم جدبها ومجاعتها ويقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بينهم وإعطاء كلّ منهم ما يستحقّه من غير حيف أو ظلم. قال تعالى حكاية عنه عليه السلام: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) انظر كيف خصّ بالذكر صفتي (حفيظ) و (عليم) فإنّهما الصفتان اللازم وجودهما فيمن يتصدّى لهذا المقام الخطير.