الدافع المصلحي لا يمكن إنكاره، وهذا أمر طبيعي في المجتمع الدولي، فهو يقوم على أساس التنافس، وسعي كل دولة لمصالحها الخاصة، وحين تكون القوة عالمية وتسعى لفرض سيطرتها المطلقة والتحكم بالنظام الدولي، فانها ستكون أكثر شراسة وأشد قسوة في التعامل مع المجتمعات والدول.
لكن الجانب الآخر المتعلق بالفكر، فهو يقف على السطح في فهم السياسة الأميركية وطريقة صنع القرار فيها. حيث ان النظرة الدقيقة، تكشف لنا أن الولايات المتحدة تستند الى منظومتها الفكرية الثابتة، وهي تصمم سياستها الخارجية وعلاقاتها ومواقفها على هذا الأساس، فكل اتجاه فكري يتعارض أو لا يتوافق مع الليبرالية الرأسمالية، فيجب أن تقف منه موقف العداء. وحين نعود الى الحرب الباردة، فاننا سنجد أن الولايات المتحدة هي التي بدأتها في مواجهة الاتحاد السوفيتي وليس العكس، وكان سببها فكرياً عقدياً بحتاً.
في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة، قد اعتمدت نمطاَ جديداً من حربها الباردة ضد السوفيت، حيث لجأت الى تشجيع الجماعات المناهضة للفكر الشيوعي داخل الدول الشيوعية، وقد وفرت لهم الدعم بطرق مختلفة، ليكونوا فيما بعد موضع اهتمامها في التأثير داخل تلك المجتمعات. وقد وجدت أن هذا الجانب كان أسرع بكثير في نتائجه من الأساليب التي اعتمدها على مستوى السياسة الخارجية.
وعندما تحركت الجموع في ثورة غاضبة لتحطيم جدار برلين، تأكد لها أن توظيف الأفكار وتشكيل جماعات الترويج الفكري، هو الخيار الأفضل من كل الأساليب السابقة، وأدركت لحظتها أن نهاية المعسكر الشيوعي قد بدأت ولا يمكن منع انهياره أبداً. وهو ما كان بالفعل بعد عدة أشهر.
خرجت واشنطن بنتيجة مقنعة، مفادها أن ما عجزت عنه استراتيجياتها المتعددة من الحصر والاحتواء الى سياسية الأحلاف العسكرية الى التدخل السريع، في موجهة المعسكر الشيوعي، حققته الإجراءات القائمة على أساس الفكر والعقيدة، فقد انتجت مجاميع العداء للفكر الشيوعي داخل الدول الشرقية، تشكل تيار اجتماعي يكره الشيوعية ويسارع الى تأييد أي تحرك مناهض للسلطات الحاكمة في المعسكر الشرقي.
كما أن توظيف العقيدة الجهادية المستندة تحديداً الى الفكر الوهابي، تمكنت من تشكيل مجاميع تستقطب الشباب من مختلف دول العالم الإسلامي لتحارب السوفيت الكفار وطردهم من أفغانستان.
وهذا ما يفسر التنامي السريع للفكر الوهابي، فمنذ بداية الثمانينات وعلى مدى عقدين متتالين، كان الفكر الوهابي يعيش أفضل ظروفه وحالاته على مستوى العالم الإسلامي، وكان الولايات المتحدة تشجع على انتشاره في باكستان وفي شرق آسيا، وفي جمهوريات الاتحاد السوفيتي الجنوبية، وفي غرب الصين. لقد وجدت في هذا الفكر التخريبي أداة فتاكة يمكن توظيفها ضد أعدائها، وفي أي منطقة تريد أثارتها وتأزيمها.
كان الفضل الأكبر يعود الى مؤسس نظرية الحرب العقائدية (بريجنسكي) مستشار الأمن القومي الأسبق. والذي دعم بقوة تأسيس تنظيم القاعدة. وقد تطورت هذه النظرية فيما بعد لتتحول الى ما عرف بـ (حرب الأفكار).
بعد ان وقعت اعتداءات ١١ سبتمبر، سألوا بريجنسكي فيما اذا كان يشعر بالندم، أجاب بثقة عالية:
ـ أي ندم تتحدثون عنه؟ لقد حققنا مكاسب لا تقدر بثمن، واخرجنا الاتحاد السوفيتي من أفغانستان من دون مشاركة جندي أميركي واحد. عن أي ندم تتحدثون؟
...
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط المنظومة الشيوعية، لم يكن أمام الولايات المتحدة قوة منافسة لها بمستوى عالمي، وكما ذكرت في المقال السابق، فأن جهودها انصبت على التأسيس لصناعة تاريخ جديد، هو تاريخ أميركا لوحدها، التاريخ الذي تضع أسسه وملامحه، وتتحكم به بقراراتها، فيما يسير العالم فيه مجبراً أو مختاراً. وكان محور ذلك يقوم على أساس حرب الأفكار بالدرجة الأكبر.
سليم الحسني