بعد الحرب العالمية الثانية حدث اول اغتيال سياسي كبير بمدلول سياسي يتجاوز حدود البلد الذي وقع فيه. ففي العام 1948 اغتيل الزعيم الهندي المناضل، المهاتما غاندي في ذروة الصراع الطائفي بين الهندوس والمسلمين. حدثت الجريمة احتجاجا على سياسته الداعية لاحترام حقوق الاقلية المسلمة في الهند.. جاء رد المتطرفين الهندوس باغتيال الزعيم التاريخي على يدي احد المتعصبين اطلق ثلاث رصاصات اردت غاندي صريعا.
أدى ذلك الاغتيال لازمة سياسية في الهند التي كانت حديثة الاستقلال عن بريطانيا. وقد كان ذلك الاستقلال ضربة موجعة للامبراطورية البريطانية التي كانت الهند تمثل تاجها. وسادت العالم حالة من الحزن والاستنكار لخسارة ذلك الرمز التاريخي المتميز. وقد القي القبض على القاتل الذي عرفت على الفور دوافعه ودور التعصب الهندوسي في تلك الجريمة. ثم جاءت جريمة اغتيال سياسي اخرى لم يتم تفكيك لغزها حتى اليوم.
ففي 18 سبتمبر (ايلول) 1961 كان داغ همرشولد، الامين العام للامم المتحدة، متوجهاً إلى روديسيا الشمالية التي تعرف حالياً بزامبيا عندما سقطت الطائرة التي كانت تقله في غابة على بعد تسعة أميال من مطار ندولا. ذهب همرشولد للتفاوض مع مويس تشومبي، قائد مقاطعة كاتانغا الانفصالية في جمهورية الكونغو الحديثة الاستقلال. وقد عارض همرشولد فكرة انفصال كاتانغا عن الكونغو، إلى حد أن قوات الأمم المتحدة قاتلت المرتزقة الذين كانوا يقاتلون في كاتانغا على بعد 100 ميل من المطار الذي كان ينوي الأمين العام أن يحطّ فيه. وبعد مرور اكثر من نصف قرن ما زال الغموض يلف تلك الجريمة التي هزت العالم. وما يزال الباحثون والمؤرخون يقلبون الوثائق التاريخية لعلهم يجدون فيها ما يشير إلى الفاعلين وهويتهم او انتمائهم. وهذا يعني ان التدبير قامت به جهة دولية تمتلك تقنيات متطورة حالت دون الكشف عن هويتها. مرة اخرى يؤدي الاغتيال لحالة من التوتر غير مسبوقة وتنذر باحتقان دولي يعيد إلى الاذهان اجواء الحرب العالمية المدمرة.
بعد ذلك بعامين حدث اغتيال ثالث ذو اهمية سياسية كبرى. ففي 22 نوفمبر/تشرين الثاني 19633 أغتيل الرئيس جون كنيدي، الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة بمدينة دالاس، تكساس. فبينما كان موكب الرئيس يتحرك بسرعة منخفضة في وسط المدينة تم استهداف الرئيس بطلقات نارية قاتلة. وجون كنيدي هو رابع رئيس للولايات المتحدة يكون ضحية لجريمة قتل. وبعد مرور اكثر من نصف قرن ما يزال لغز الاغتيال غامضا. وما زاد الجريمة غموضا ان الشخص المتهم بالقتل، لي هارفي اوزوالد، قتل بعد يومين من عملية الاغتيال، وبذلك انقطعت خيوط التحقيق للتعرف على مخططي العملية واهدافها. وما تزال النظريات تطرح حتى اليوم حول ذلك الاغتيال الذي حدث في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي.
وقد جاء اغتيال كنيدي بعد عامين من الازمة التي كادت تتحول إلى حرب عالمية.. فقد نصب الاتحاد السوفياتي صواريخ نووية على الاراضي الكوبية، الامر الذي كاد يفجر اول حرب نووية مدمرة. ذلك الاغتيال لم يؤثر على السياسة الخارجية الامريكية التي بقيت مشغولة بقضايا الحرب الباردة والاستقطاب الذي هيمن على العالم قرابة نصف قرن.
وشهدت حقبة الستينات عددا من عمليات الاغتيال في الولايات المتحدة من اهمها قتل مارتن لوثر كنغ، الذي كان مناهضا للعنصرية ضد السود في امريكا. وبعده اغتيل مالكوم اكس المفكر المسلم الذي كان ناشطا في مجال الصراع ضد العنصرية.
صعدت «اسرائيل» في السبعينات اغتيال معارضيها من الفلسطينيين بعد ان بدأ انتشار وعي شعبي بالقضية الفلسطينية في الاوساط الغربية. ومن هؤلاء غسان كنفاني (بيروت 1972)، وائل زعيتر (اكتوبر 1972، روما)، محمد همشري (8 ديسمبر 1972، باريس)، حسين البشير (24 يناير 1973)، باسل الكبيسي (6 ابريل 1973، باريس).. وفي 9 ابريل 1973 قام عملاؤها بانزال سري في بيروت واغتالوا كلا من محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر. واستمر الاسرائيليون في جرائم الاغتيال في العقود اللاحقة. وفي 1978 اغتالت المخابرات الاسرائيلية المناضل والمفكر الفلسطيني، سعيد حمامي، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لندن. كان يومها جالسا بمكتبه فانهالت عليه رصاصات عملاء «اسرائيل».
وفي1989 قام فريق من الموساد بانزال في تونس واغتالت الزعيم الفلسطيني خليل الوزير (ابو جهاد)، وفي 1991 اغتال الصهاينة صلاح خلف (ابو أياد). ويتردد الآن انها وراء قتل ياسر عرفات بالسم في 2004. واغتال الاسرائيليون فتحي الشقاقي في مالطا في 1995، وفي 1996 اغتالوا يحيى عياش في غزة. وفي 2004 اغتالوا عبد العزيز الرنتيسي في غزة، ومحمود المبحوح في يناير 2010، واحمد الجعبري في 2012. واخيرا اغتالوا محمد الزواري في تونس في 15 ديسمبر. اما «اسرائيل» فقد ردت على محاولة اغتيال سفيرها في لندن، شلومو ارجوف، في يونيو 1982 باجتياح لبنان وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. واستهدفت «اسرائيل» رموز المقاومة الإسلامية اللبنانية، فاغتالت الشيخ راغب حرب في فبراير 1984 والسيد عباس الموسوي، الامين العام لحزب الله في فبراير 1992.
ولم تقتصر عمليات الاغتيال في الشرق الاوسط على الجرائم المذكورة. ففي 25 مارس 1975 قام الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود بإطلاق النار على عمه فيصل بن عبد العزيز وهو يستقبل وزير النفط الكويتي عبدالمطلب الكاظمي في مكتبة بالديوان الملكي وأرداه قتيلًا، وقد اخترقت إحدى الرصاصات الوريد فكانت السبب الرئيسي لوفاته. وقد أعدم القاتل لاحقا. فما مغزى ذلك الاغتيال؟ لقد تميز عهد الملك فيصل بعدد من الامور: اولها تصاعد الانتاج النفطي السعودي ومدخولاته، الامر الذي وفر له القدرة على بدء مشاريع تعنى بالبنية التحتية للبلاد وتمكينها عسكريا. وفي عهده بنيت قاعدة خميس مشيط في جنوب غربي البلاد، وهي واحدة من اكبر القواعد السعودية. الثاني: ان عهده تميز بالتنكيل الشنيع بالمعارضين، وتردد ان اجهزة امنه قامت برمي المعارضين الشيوعيين من الطائرات في الربع الخالي. الثالث: انه اول من هدد باستخدام النفط سلاحا ضد الغرب بسبب دعمه لـ «اسرائيل»، وذلك بعد حرب اكتوبر 1973. وفي عهده بدأت السعودية تمارس دورا قياديا على الصعيد العربي، بعد غياب جمال عبد الناصر في 1970 خصوصا بعد ان توفر لها مدخولات مالية كبيرة من تصدير النفط. ولكن مقتله فتح الباب امام مسلسل الاغتيال السياسي المرتبط بالاوضاع السياسية العربية. كما ان علاقات السعودية مع اليمن تحسنت طفيفا بعد حربهما الدموية المدمرة في 1962 بعد ان كان الصراع مع مصر في ذروته.
هذا المسلسل من الاغتيالات في العالم، وبعضها في العالم العربي، يشير إلى استخدام القتل خارج اطار القانون سلاحا في الصراع السياسي بين الفرقاء.. ويعبر كذلك عن بلوغ التوتر درجات قصوى تدفع الاطراف لاستخدام اسلحة غير تقليلدية لتصفية الحسابات.
واغتيال السفير الروسي يجسد عمق الصراعات المتعددة الاطراف نتيجة الازمة السورية التي ارهقت الامتين العربية والإسلامية. ومع انه ليس من المتوقع ان تؤثر سلبا على العلاقات المتنامية بين تركيا وروسيا، ولكنها ستدفع موسكو لمزيد من الحضور في شؤون المنطقة بعد اكثر من ربع قرن من الغياب. الامر المؤكد ان الاغتيال يكشف حدود تأثير القوة العسكرية لدى الدول والمجموعات، ويكشف قدرته على عرقلة السياسات ولكنه لا يستطيع تغييرها جوهريا ولا يلغي خطط الدول والمجموعات او اهدافها او سياساتها.
٭سياسي وكاتب من البحرين