الكوثر - مقالات
إدريس هاني
نتائج هذا الإنسحاب الذي لا زالت تحوم حوله التساؤلات من سائر الأطراف ستكون وخيمة على المنطقة، حتى تركيا التي كان لها الدور الكبير في إعادة تأهيل الفصائل المسلحة، ستكتوي بنارها كما ستكتوي بقسد. اما الأمن القومي العربي لا سيما الدول المحيطة بسوريا، فهو معرض لمخاطر وتهديدات قيام جماعات مسلحة تشبه طالبان في تغيير خطابها، لكنها لن تسلم سلاحها لأي طرف، وهو ما يعني اقتتال دامي بين الفصائل، أليس هذا تماما ما حدث في أفغانستان، ثم سرعان ما امتد إلى الحادي عشر من سبتمبر؟ ما هو مصير الأردن، مصر، لبنان، العراق، بل حتى آسيا الوسطى بعد عودة الفصائل الأزبكية والطاجيكية والشيشانية و..و..لن تنتهي الأمور إلى هنا، فلقد كان التفسير الأقرب للإقناع هو أن الانسحاب الغريب جاء على إثر تفاهمات كبرى وعلى حافة مخطط كان يسعى إلى حمام دم كبير وتدمير لسوريا. فالاحتلال بدأ يتهيأ للاستفراد بسوريا، وهو يعلم أن مشروع شرق أوسط جديد بشروطه الإمبريالية يتوقف على إغراق سوريا بمزيد من الدم والخراب، لم يكن أمام سوريا سوى تقبل جرعة التنحي، تفاديا لما هو أسوأ على الشعب السوري، وذلك بعد أن استغل خصوم سوريا تداعيات الوضع في المنطقة، لإكمال المؤامرة.
إقرأ أيضاً:
في منطق الحرب، وواحدة من قواعد سان تزو، لا تحارب حين تكون على يقين من عدم ربح الحرب. ولقد أدرك النظام السوري هذه الحقيقة مع إخلاء الحلفاء لمواقعهم، حيث باتت سوريا محاصرة بالاحتلال التركي والأمريكي في الشمال الشرقي والغربي، والاحتلال الإ..سر..ائيلي بالحنوب، والفصائل المسلحة المحمية، وفي ظل تراجع دراماتيكي للاقتصاد واستنزاف كبير للجيش.
اليوم تبدو فرحة العبيد عالية، حيث تم استغلال محور أنهكته المعركة الكبرى مع الاحتلال، وبينما كنا نتساءل: أين صوت تلك الجماعات في هذا المفصل الخطير من معركة الأمة؟ تبين أنها في الوقت الذي كانت قوى الإسناد منهمكة في مواجهة الاحتلال، وقدمت للمقا..و..مة كل ما لديها من امكانات، بل حتى قياداتها ارتقت شهيدة في هذه المعركة، كانت الجماعات المسلحة بإسناد من تركيا واستنزاف من الاحتلال ومباركة دولية وتفاهمات تتجاوز القوة السورية المنهكة، كانت تستعيد دورها للهجوم بعد أن انتهك أسيادها كل الاتفاقات بما فيها مخرجات استانة.
رفض الأسد الاستجابة لإملاءات اوردوغان، لأنه تربى على سوريا متحررة من الهيمنة، ولم يغادر سوريا في أخطر الأوقات، لم يتخل عن دوره حتى تخلى العالم عن مسؤوليته تجاه شعب محاصر سياسيا واقتصاديا. سوريا جزء من محور مستهدف إمبرياليا.
إن من يتحدث عن انتصار بالمعنى الثوري للعبارة، يسعى لصباغة النكسة بالمفاهيم الكبرى، فالمطلوب من الثورات التحررية والمتحررة أولا وقبل كل شيء أن تتحرر من شروط المخطط الامبريالي للمنطقة. فلقد استهتر العبيد بهذا المخطط، وحتما سيدركون مآلاته في القادم من الزمن الموضوعي للهزيمة الناعمة التي أخذت في ذهن العبيد صورة انتصار.
لقد ثأرت الرجعية والمحاور الوظيفية وبقرار إمبريالي كبير من القلعة السورية الصامدة، والمرشحة اليوم بقيادة سليل القاعدة أن تصبح لقمة سائغة للتطرفات، وما كان للعبيد أن يفرحوا بهذه الخيانة وهم أدوات تتكامل موضوعيا وذاتيا مع الاحتلال وتتحرك في سياق انجازاته.
يبقى أن ننظر إلى المستقبل، هل هناك قرار بحماية الشعب السوري لانتقال سياسي ترعاه القوى التي ترعى هذا الانقلاب الدولي والاقليمي، أم هل سيتركون سوريا بين براثين حرب أخرى على النفوذ؟ بالنسبة لرئيس دولة صمد في وجه تحدي يتجاوز سوريا ويستهدف المنطقة برمتها بالتقسيم، فقد أدى قسمه الدستوري وأكمل مهمته دون أن يخون، حمل معه لاءاته التاريخية في وقت صعب، لم يقبل بأن يفرض عليه اوردوغان الجلوس مع الجولاني في لعبة تفاوض قذرة، ولا استجاب للاحتلال في محاولة تغيير موقفه لفرض سلام رعديد، فلقد ظل حتى آخر لحظة سندا للمقاومة، وستدرك المقاومة هذا الفراغ أكثر في الأيام القادمة؛ لم يوقع ولم يخن سيادة بلده. لقد صمد حتى لحظة العدوان الثلاثي، فما الذي تغير، ولم الانسحاب خلال يوم واحد؟
ليس الأسد من انهزم، بل هذه هزيمة أمة ستكون لها عواقب كبيرة ومنها:
لقد دخلت الفصائل وأول ما غيرته هو العلم السوري، العلم الذي رفرف في حرب تشرين، ليضعوا مكانه علم صاغه الانتداب الفرنسي. إنها صورة أخرى عن الوطنية، ضرب هوية وطن كشرط للدخول في شرق أوسط جديد يعرف الجميع شروطه ومآلاته. تنحى الأسد ولسان حاله: انتهى الكلام، تحملوا مصيركم ومسؤوليتكم فيما اخترتم السير عليه من اختيارات، مبارك لكم حلفاؤكم الجدد، مبارك لكم شرقكم الأوسط الجديد، مبارك لكم صفقاتكم وخياناتكم، لكم أن ترقصوا رقصة المطر، فما ينتظركم وينتظر المنطقة مهول، ولقد خُيِّر بين أن يُوَقِّع أو يتنحّى، ففضل التّنحي. ولكنه تنحى شامخا بمواقفه.
قد تنتصر الامبريالية في جولات كثيرة، هذا حقا مؤلم للأحرار، مفرح للعبيد، ومنها هذه المعركة، ولكن مكر التاريخ سيقول في هذا أكثر من كلمة، لأن تنفيذ مخطط إمبريالي بلغة تحرر الشعوب، هي أكبر خدعة ساهمت فيها الامبريالية والجماعات الإرهابية المسلحة. بل ننتظر كيف ستساهم هذه الجماعات وحلفاؤها الرجعيون وفي محيط مكتنز بالاستبداد، في صناعة الأسطورة الديمقراطية في الشام. هذه جولة من جولات الحرب المناهضة للامبريالية، ولكنها ليست آخر المعارك. المعركة مستمرة على أكثر من جبهة، وهي سجال، يوم لك ويوم عليك، ويبقى الموقف والمبدأ هما القيمة الخالدة في معادلة صراع السادة والعبيد.
اليوم ما هو المطلوب؟
لقد سلم الأسد الخيار للشعب، وحده من سيتحمل مسؤولية تقرير مصيره، وإن اقتضى الحال إحباط المؤامرة ولعبة الأمم. سننتظر إن كانت المجموعات السياسية والمسلحة المحمية ستمنح فرصة للشعب في أن يعبر عن إرادته الحرة، وسننتظر من القادمين أن يحموا الوحدة الترابية السورية، وأن يحافظوا على استقلالية القرار السياسي، وأن يحموا السيادة، وأن يحرروا الجولان، وأن يحققوا التنمية والعدالة والمساواة، وأن يصنعوا الرفاهية للشعب السوري، ويحافظوا على التغطية الصحية، والتعليم المجاني والدعم الكامل للمواد الأساسية ولا يقحموا سوريا في نسق الليبرالية المتوحشة، ولا يرهنوا سياستها للأجنبي، وأن يبعدوا عنها الفصائل الإرهابية المسلحة ويعززوا العيش المشترك… لقد كان ذلك هو شرط تنحي الأسد، وهذه هي رغبته. كنا نتمنى أن يتحقق مجد سوريا بعنوان قيادته الشامخة، ولكن رغبته في النهاية اقتضت التنحي. فالتاريخ يتطور بمكر خفي. إن الذين اعتبروا منذ الديباجة الأولى للسردية التآمرية بأن المشكلة هي الأسد، سنرى إن كان الآتي مخمليا، وحينئذ فقط سندرك بأنه بالفعل كان مشكلة بسبب تشبثه بالسيادة القومية حتى النفس الأخير. لقد خرج من السلطة ولكنه دخل التاريخ؛ تاريخ يصعب استيعاب الكثير من فصوله المهمة..
هل تحسب محاور الحرب على سوريا أنها ستحصل على كعكة داخل سوريا؟ ثمة ما ينتظرها إذن في تداعيات استراتيجيا الأواني المستطرقة.
هل تحسب تلك المحاور أنها ضمنت مصيرها، وأنها ستظل بمنأى عن الخضوع لشروط الامبريالية في التحكم والتقسيم؟
هل ثمة ضامن أن لا تسقط سوريا في حرب أهلية وأنها ستحافظ على سيادتها، أم أنها ستعيش زمن الوصاية العثمانية الجديدة، والزمن الصه..يو..ني في سوريا الجديدة؟
لا شك بأن ما بعد الأسد في سوريا هو التخلي عن السيادة، لأن حلفاءه السابقين كانوا جزء من تحالف استراتيجي ساهم في حماية سوريا، ولم يكن كما صورته الجماعات المسلحة خاضعا لها. لكن اليوم ستكون كلفة الانقلاب الجديد هي قطع الامداد عن المقاومة، أقصد أن أثر ذلك سيصل إلى غ..ز..ة نفسها، هذا يعني أن سوريا هي ضحية مخطط انفجاري كبير استهدف محورا بكامله كان هو آخر القلاع ضد زحف الاحتلال. انفجار بدأ في غ..ز..ة ولبنان وهو زاحف في كل اتجاه، هل نسوا مقولة: اكلت يوم اكل الثور الأبيض!
بئس ثورة يفرح بها العبيد وإخوان العبيد، كعادتهم سيفرحون قبل اندلاع الحروب الأهلية، لأن الذي يحركهم هو الحقد والعمالة والهزيمة وليس المبدأ. الاختبار الأعظم اليوم ليس شهر عسل دخول دمشق على دبابة عصمللية، بل الاختبار هو هل ستسمح فصائل القاعدة والإخوان للشعب بالتعبير عن إرادته الحرة وعن السلم المجتمعي، فاما السلطة فقد تنازل عنها الأسد، فهل سيزهدون فيها ؟
ستبقى صورة سوريا التي صمدت صمودا اسطوريا طيلة ازيد من عقد من الزمن، لكن الذين سقطوا هم الذين سقطوا في خياراتهم، هم من وضعوا أنفسهم قوى وجماعات وظيفية في إقليم يتعرض لحرب وجودية. هي اذن مفخرة العبيد لا مفخرة الأحرار. سيتركهم الأسد بالفعل لمزبلة التاريخ التي تنتظرهم كجماعات ستفتح شهيتها على السلطة حتى السكر، لتنشب فوضى الاقتتال بينها، مهما حاولوا ضخها بمارشال رجعي مشروط، سيرتاح الاسد من هذا الغم، لأنه اختاره حقنا للدماء والخراب الآتيين، وذلك كما ارتاح من ارتقوا شهداء كي لا يروا قيام شرق أوسط جديد، معالمه باتت واضحة: الشعوب بمثابة عبيد الحقل، والعملاء بمثابة عبيد المنزل. الهجوم الكبير على المنطقة اقتضى تضحيات كبيرة من داخل المقا..و..مة ، وها هي سوريا تدفع ضريبة الموقف والتضحية.
كانت سوريا صامدة وهي في وضعية حصار دولي اهلك الحرث والنسل. لم يبع الأسد سوريا، ولكنهم باعوها، وها هي ضحكة العبيد الذين أشعارهم الأسياد بأنهم دخلوا تحديا بينما دخولها من دون قتال، لأن قرار ابتلاع سوريا بات أكبر من أن تقاومه سوريا وحدها. ستتجه المنطقة إلى مزيد من الاستنزاف، إلى شرق أوسط جديد، سيفرح به العبيد كثيرا، هذا بينما لن يكون الأسد شاهد زور على مجريات شرق أوسط جديد، فلو دخل في صفقة مع المحيط لكان الوضع مختلفا، لقد شمخ بلاءاته، وفضل الصمود على الخضوع. ولمن زعموا أنه حارب من أجل السلطة، ها هو زهد فيها وتشبث حتى آخر رمق بالسيادة والاستقلال، لكنه لن يتحمل مهمة تاريخية ذات حمولة كونية.
لم يسقط المسلحون الأسد، بل تنحى ليستريح من مؤامرة دولية وإقليمية بقي وحده صامدا أمام الإعصار. فلقد كان دائما ينظر لهؤلاء المسلحين كأدوات صغير في يد مخطط دولي كبير، هو تنحى ليفتح الطريق لما هو أقل ضررا، بعد أن أصبحت الحرب على سوريا تدخل في عهد جديد. فإسر..ا..ئيل تزحف نحو القنيطرة وهي الآن تحتل مواقع داخل سوريا، والاحتلال التركي والأمريكي في الشمال يواصل تموضعه، فإلى أين تسير سوريا؟ القادم من الأيام سيظهر حجم التحدي، سيترحم الجميع يوما على فترة الأسد، الذي أراد أن يجمع بين الإصلاح والسيادة، فهل الزاحفون نحو السلطة اليوم سيحافظون عليهما؟ هل ستسمح الترتيبات الإقليمية والدولية بأن يعبر الشعب السوري الحقيقي عن إرادته الحرة؟
لقد أعطيت أوامر للجيش بالانسحاب، لأن القرار اتخذ، ولأن القيادة نفسها قررت التنحي لتترك للشعب تقرير مصيره وتحمل مسؤوليته. كما طالبت تركيا المسلحين بالتوجه إلى المحافظات لأنها اخليت عسكريا. وستكون إهانة لسوريا وتاريخها المجيد أن تقع بيد الجولاني. إنها سخرية القدر.
وحتى تتوضح الصورة بالكامل، فسيضعنا التاريخ أمام صورة أخرى، صورة تهمنا في مقاربة المواقف المزيفة، لأولئك الذين بدأوا من اليوم يغيرون جلودهم، وينتحلون خطابا مختلفا، استعدادا لركوب أمواج جديدة. سنجد ظواهر جديدة تمنحنا قدرة إضافية على مقاربة انقلاب الصور والوجوه والخطاب. فهذا الذي يحدث هو انتصار للأسد الذي تنحى دون أن يدخل في مشروع شرق أوسط جديد، ودون أن ينخرط في صفقات إقليمية، ودون أن يبيع القضية الفل..سط.. ينية التي كانت في أولويات السياسة السورية، وبسببها تعرضت سوريا لأكبر مؤامرة في التاريخ الحديث، فأولى البشارات التي رافقت تدفق المسلحين نحو دمشق هو قصف إ..سر..ائيل لمخازن السلاح في المزة ومواقع أخرى، إ..سر..ائيل أيضا تشارك الفصائل فرحتها العارمة.