تقطن العديد من الكائنات الدقيقة غير المرئية في أعماق المحيطات المظلمة، حيث يكون الأكسجين شحيحًا جدًا.
الأوكسجين مهمٌ جدًا للحياة على كوكب الأرض، ويُنتَج بنحو أساسي بوساطة النباتات والطحالب والبكتيريا الزرقاء، من طريق عملية البناء الضوئي. وتُنتِج قليل من الكائنات الدقيقة الأكسجين بمفردها دون ضوء الشمس (العامل الأساسي في عملية البناء الضوئي)، لكن حتى الآن اكتُشِفت بكميات ضئيلة جدًا، وفي بيئات محدودة جدًا.
وَجد العلماء أن كائنًا دقيقًا، يُسمى Nitrosopumilus maritimus، والعديد من أبناء عمومته، ويُطلق عليهم العتائق المؤكسدة للأمونيا (AOA)، تستطيع البقاء في الظلام، حيث يكون الأكسجين شحيحًا، وذلك بإنتاج الأكسجين من تلقاء نفسها، بوساطة عملية حيوية لم تُكتَشَف من قبل. ثبت سابقًا أن هذه الكائنات الدقيقة تستطيع الحياة في بيئات يكون فيها الأكسجين نادرًا، لكن لم يكن واضحًا ما تقوم به، وكيف يمكنهم البقاء على قيد الحياة طوال فترة وجودهم، وهذا كان الإلهام وراء هذا البحث.
قاد هذه الدراسة بيات كرافت، ودونالد إي كانفليد، من جامعة جنوب الدنمارك، وشارك معهما باحثون آخرون، ونشرت في دورية ساينس.
بيات كرافت هي أستاذة مُساعِدة في قسم الأحياء، ويَنصَّب تركيزها على علم وظائف الأعضاء الميكروبية، والكيمياء الحيوية، ويدعم بحثها منحة Villum Young Investigator.
ودونالد إي كانفليد هو أستاذ علم البيئة في قسم الأحياء في جامعة جنوب الدنمارك، والمعهد الدنماركي للدراسات المتقدمة في علم الأحياء.
تحدثت بيات كرافت، عالمة الكائنات الدقيقة بجامعة جنوب الدنمارك، قائلةً: «هذه الميكروبات موجودة بِوَفرة في المحيطات، وتلعب دورًا مُهمًا في دورة النيتروجين؛ لذلك فإنها بحاجة إلى الأكسجين، ولطالما كان لغزًا سبب توافرها في المياة التي لا يوجد فيها أكسجين. واعتقدنا، هل هم فقط يتسكعون هناك دون أية وظيفة؟ک هل هم نوعٌ من الخلايا الشبحية؟».
وأضاف دون كانفليد، قائلًا: «هذه الميكروبات شائعة جدًا، إذ إن كل خلية خامسة في دلوٍ من مياه البحر، هي واحدةٌ منهم».
وقد أثار هذا فضول الباحثين، فقررت العالمة كرافت اختبارهم في المختبر؛ إذ أراد الفريق إلقاء نظرة دقيقة على ما سيحدث عندما يُستهلَك كل الأكسجين المُتاح، ولا يوجد ضوء شمس يُستخدَم لإنتاج الأكسجين. ويحدث السيناريو نفسه عندما تتحرك N. maritimus من المياة الغنية بالأكسجين، إلى المياه شحيحة الأكسجين.
وما توَصَّل إليه الباحثون كان غير مُتوقَع، فقد أنتجت الكائنات الدقيقة الأكسجين لتُكوِّن النيتريت، مع غاز النيتروجين ناتجًا ثانويًا، وقال دون كانفليد: «لقد رأينا كيف استهلكت الكائنات الدقيقة كل الأكسجين الموجود في المياه، وما أدهَشنا هو ارتفاع مستويات الأكسجين مرة أخرى بمرور دقائق من الوقت. وهذا كان مثيرًا جدًا».
تَبيَّن أن Nitrosopumilus maritimus تستطيع إنتاج الأكسجين بمفردها في الظلام دون الحاجة إلى ضوء الشمس، لكن ليس بنسبة كبيرة لدرجة أنه قد يؤثر في مستويات الأكسجين في الأرض؛ بل ما يكفي لتُبقِي نفسها على قيد الحياة. وأَوضَحت بيات كرافت، قائلةً: «لو أنها تُنتِج الأكسجين بكميةٍ أكثر مما تحتاج إليه لنفسها، سوف يُستَهلَك بسرعةٍ كبيرة مِن قِبَل الكائنات الأخرى المُجاوِرة، ولن يُغادر الأكسجين المُحيط أبدًا».
حاليًا، لا يزال الباحثون غير متأكدين من كيفية قيام الميكروبات بهذه الحيلة، وكمية الأكسجين المُنتَج صغيرة نسبيًا، إذ تكفي فقط لبقائها على قيد الحياة. لكنها تبدو مختلفة عن بعض العمليات المُتعارف عليها لإنتاج الأكسجين دون ضوء الشمس.
يعلم الباحثون بالفعل أن العتائق المؤكسدة للأمونيا هي كائنات دقيقة تُحافظ على استمرارية دورة النيتروجين العالمية، لكنهم لم يكونوا على دراية بالمدى الكامل لقدراتهم. وفي المسار المُكتشَف حديثًا، تَدمِج Nitrosopumilus maritimus إنتاج الأكسجين مع إنتاج غاز النيتروجين، وبطريقة ما، تُحوَّل الأمونيا (NH3) إلى نيتريت (-NO2)، وهي عملية تُستخدَم في استقلاب الطاقة في البيئات شحيحة الأكسجين.
وهذا بدورِه يتطلَّب منهم إنتاج الأكسجين مع كميات بسيطة من غاز النيتروجين ناتجًا ثانويًا. ونتيجة لذلك، يُزَال النيتروجين المُتوَفر حيويًا من البيئة. وهذا يعد تجعُدًا جديدًا في دورة النيتروجين، التي تدعم جميع النظم البيئية. وقد يكون لهذه النتيجة عواقب بعيدة المدى، ما يتطلب المزيد من البحث.
وأضافت كرافت قائلةً: «إذا كان نمط الحياة هذا مُنتشرًا في المحيطات، فإنه بالتأكيد يُجبرنا على إعادة التفكير في فهمنا الحالي لدورة النيتروجين البحرية. وخُطوتي القادمة هي التحقق من الظاهرة التي رأيناها في مزارعنا المخبرية، في المياة شحيحة الأكسجين، في داخل الكثير من البقاع المختلفة من المحيطات حول العالم».