قائد الميادين وسيّد الساحات، هو نفسه حبيب الأيتام وعوائل الشهداء، الحاضر بينهم، والمهتم بتفاصيل حياتهم. قاسم سليماني، الرجل الأسطورة، كان، يومًا، جليس بتول عباس الموسوي، يحادثها، يسأل عن أحوالها، وكيفية تمضيتها للوقت، ويهديها مسبحته الخاصة، ثم يطلب منها: "أريد استعادتها عند شهادتي لتكون في قبري". في السطور التالية، تروي بتول الموسوي ذكريات وتفاصيل لقاءاتها بالحاج قاسم سليماني.
في مكتب سليماني
سمعت أن والدة الحاج قاسم توفيت، وحزنت لأنني سريعًا قلت في نفسي لا بد أن قلب الحاج الآن محزون، لكن لم يخطر ببالي أن يكون هناك لقاء بيننا، لأنه ما من معرفة شخصية معه، حتى أنه لم يكن يعرف الوالد الشهيد. طلبت مني صديقتي أن لا أرتبط بشيء في اليوم التالي دون أن توضح الأسباب، وفعلًا، جاءت اليّ واصطحبتني وخالتي الى مكتب، وهناك قالت لي: "نحن عند الحاج قاسم سليماني". في تلك اللحظة شعرت بأنني ملكت الكون بما فيه. لقد ذهبنا لتعزيته بوفاة والدته من دون أن أعرف، شربنا الشاي في الطابق السفلي ثم طلبوا منا الصعود الى الطابق الأعلى. عند الباب كان الحاج باستقبالنا.
استقبلنا الحاج شخصيًا، وكنت في اللحظات الأولى أشعر برهبة اللقاء، لكن سرعان ما شعرت بالطمأنينة، وأيضًا بحنان أب عطوف وحنون، وكأنني أعرفه منذ زمن. تقدمنا اليه بالعزاء، ثم بدأ الحاج بطرح الأسئلة. سألني عن كل التفاصيل، كم طفلًا لديّ؟ ما هو عمل زوجي؟ من أي قرية؟ ماذا أعمل؟ وكيف أقضي وقتي عادة؟ كانت أسئلته دليلًا على اهتمامه بعوائل الشهداء، وأن لهم خصوصية كبيرة ومكانة خاصة جدًا لديه. أنا أيضًا سألته عن أحواله وعائلته، فبدأ يحدثني عن عائلته، وسألني "هل تعرفين ابنتي زينب؟" وكأنه كان يحاول أن يقول لي أريدك أن تتعرفي عليها.
كان الحاج قاسم يحمل في يده مسبحة. أخبرته أنني في السابق كنت قد حصلت على مسبحة من سماحة الامام الخامنئي لكنني أضعتها. فجأة أعطاني إياها وقال لي "هذه المسبحة عزيزة جدًا على قلبي وهي من أحد العرفاء. دائمًا تضيع ثم أجدها مجددًا. سأعطيكِ إياها بشرط أن تصلي ألف مرّة على محمد وآل محمد يوميًا". ثم قال لي: "عندما أستشهد، هذه المسبحة يجب أن تدفن معي". وهنا خفت أكثر لأنني لست مؤتمنة فقط على أداء الصلوات بل أيضًا مؤتمنة على المسبحة. منذ اللقاء الأول شعرت بشوقه للشهادة، وأخبرني بعض القصص عن الإمام الحجة(ع) وأهل البيت(ع) وعشقه لسماحة الامام الخامنئي.
أصبح لدي انطباع عن الشخص الذي عرفته من بعيد، وفي هذا اللقاء المختصر، أدركت أنه حنون وعطوف، متواضع وقريب الى القلب ومريح. أصرّ على أن يعطينا الهدايا: لوحات كبيرة عليها ذكر الله. شعرت بالخجل لأنني لم أحضر معي أي هدايا، فأنا لم أعرف أننا سنأتي لزيارته. لكن كان معي مسبحة صغيرة اشتريتها من مشهد، فأهديته إياها بعفوية، وكان سعيدًا للغاية بها، علمًا بأنها لا تضاهي المسبحة التي أعطاني إياها من حيث قيمتها المعنوية.
عندما ودّعنا، رافقنا الى الباب بتواضع لافت. قال لي في آخر اللقاء "إن شاء الله سنزوركم"، لكنني لم أظن لكثرة مشاغله ومسؤولياته أنه بالفعل سيقوم بهذه الزيارة. بعد عدة أشهر، تلقيت اتصالًا من أخي السيد ياسر في الصباح وطلب مني أن أحضر اليه. سألته ما الأمر؟ فقال لدينا زائرون، لكنه لم يشرح أكثر. لقد كان الحاج سليماني هو الضيف، جاء محمّلاً بالهدايا.. وهكذا كان حال الزيارات اللاحقة. كنا فعلًا نشعر بالخجل منه ومن كرمه. سلّم علينا، وبدأ يتعرف على الحاضرين من عائلة الشهيد السيد عباس الموسوي الذين استطاعوا المجيء الى اللقاء. سأل عن أحوالنا واحدًا واحدًا. لم يكن الحاج قاسم فقط متواضعًا بل كان قربيًا جدًا، كان أقرب من الأب والجد، ويبعث حضوره راحة لا توصف.
كان كلما تعرف على اسم أحد الأولاد يلاطفه. مثلًا سأل ابنة أخي ياسر "ما اسمك يا صغيرة"؟ فقالت له "نور"، فأجابها "أنت نور البيت"، وكان يضحك ويتبسم كل الوقت.
خلال اللقاء سألني الحاج عن المسبحة، فقلت له إنني لم أحضرها لأنني لم أكن أعلم أنه الضيف. ثم قال "إن شاء الله الزيارة القادمة الى منزل السيدة بتول". فرحت كثيرًا ولم أكن أتوقع أن الحاج قاسم بما له من شأن عسكري وسياسي مهم وحساس، وهو من يتحمل مسؤوليات كبيرة جدًا سيجد الوقت ليزورني في منزلي. وقبل أن يهم بالذهاب نهض ليوزع الهدايا التي أحضرها معه،.
يتصرف الحاج قاسم بعفوية مطلقة ويشعر الجميع براحة لا مثيل لها بحضوره. في اللقاء الأخير بيننا عرض علينا أن نأخذ صورة جماعية.
بعد فترة كان لي نصيب بأن يزورني الحاج قاسم فعلًا كما وعدني المرة السابقة. كان يناديني بـ "عمو" عندما يتكلم معي: "كيف حالك عمو؟" و"ما الأخبار عمو؟". أتى الحاج قاسم ومعه باقة من الورد بمناسبة عيد الغدير، وتم تسليمها لي باليد كوني أنا المقصودة من هذه الزيارة. أحضر معه الهدايا أيضًا، وكان اخوتي حاضرين. قمنا بواجب الضيافة، وجلسنا نكمل الحديث.
قبل أيام من زيارته لنا، كنت قد ذهبت لزيارة الإمام الرضا عليه السلام وأضعت المسبحة التي أهداني إياها الحاج قاسم. حاولت جاهدةً العثور عليها ولكن دون جدوى، وكان الأمر ثقيلًا على روحي لأنها أمانة الحاج لدي. وبدأت أفكر: ماذا ستكون ردة فعله إن علم بأنني أضعتها؟
خلال زيارته بدأت أفكر بينما هو يتحدث مع الجميع. كيف سأقول له إنني أضعت المسبحة؟
كان يهتم بالشباب ويلتفت الى ثقافتهم وأسئلتهم واهتمامهم بمواضيع مهمة. والملفت في الموضوع هو أن الحاج قاسم كان إنسانيًا للغاية، كان كلما ذُكِرت مأساة حرب "داعش" في سوريا ومعاناة أهلها كقصة حصار نبل والزهراء كانت تتغير ملامحه ويبدو عليه الحزن والتعاطف مع هؤلاء الأبرياء. كان الجانب الانساني في شخصية الحاج بارزًا جدًا.
أيضًا كان يقص علينا القصص والعبر، وفي حديثه لنا حول السياسة والأوضاع في المنطقة أذكر قوله "على الانسان أحيانًا أن يتحمل ويعض على الجرح".
بعد قليل اقتربت منه وقلت له: "حاج أريد أن أكلمك بأمر ما". فسألني: "ما الأمر"؟. قلت له: "أتذكر المسبحة التي أعطيتني إياها"؟ فقال: "أها نعم". وكأنه كان ينتظر مني أن أخبره. كنت خجلة جدًا، وقلت له: "أريدك أن تسامحني لأنك أمنتني على هذه المسبحة وأنا أضعتها في حرم الامام الرضا عليه السلام". تنهد، لم يقم بأي ردة فعل، وبكل بساطة أعطاني المسبحة التي كانت في يده.
افي اللقاء الأخير كان الجو هادئًا، لم يحضر الأولاد والأحفاد بل كنت فقط أنا وإخوتي وزوجاتهم. كان هدوء الحاج والطمأنينة التي نراها في وجهه ملفتة كالعادة، وكان كثير التبسم. في هذه المرة لم أرغب في الحديث كثيرًا، كنت أكتفي بسماع حديث الحاج والنظر الى ابتسامته، وكأنني كنت أودعه.
كان الحاج قاسم يشعر بحالنا حتى عن بعد. في أحد الأيام كنت متضايقة جدًا وأشعر بثقل في صدري. فجأة يرن الهاتف ويقول لي شخص "لك اتصال"، وإذا به الحاج قاسم. اتصل من الجبهة ليسأل عن حالي. قال لي: "عمو كيف حالكم؟ عمو أنتم بخير"؟. وكأنه كان يشعر بضيق صدري كما كان الأمر مع الكثير من عوائل الشهداء. لكنني لم أعرفه في بداية الحديث فقلت له: "عفوًا لم أعرفكم لكن صوتكم مألوف جدًا". كان الصوت بعيدًا. ثم قال لي: "من ضاعت مسبحته في مشهد"، وضحك، فعرفته. ثم كرر مرة أخرى: "عمو أنتم بخير"؟ وكأنه كان يعلم بحالي.
المصدر: موقع العهد