في الماضي والحاضر والمستقبل، سيبقى التوقيت المناسب في الحياة كما في السياسة، كل شيء. وبمقدار ما إن طرفًا فاعلًا يجيد اختيار التوقيت الملائم لقراره، فإن النجاح سيكون حليفه بالتأكيد. ينطبق هذا على بحر السياسة الواسع، كما يرتبط بالقدر ذاته بكل فعل إنساني حتى الاعتيادي منه.
ولعل عظمة اختيار توقيت الانقلاب على الحصار بعيد المدى، الذي اتخذه ونفذه سيد المقاومة وسيدنا الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، بكسر دائرة حصار لبنان وسوريا للأبد، وبالتالي رمي كل خطط الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لعزل البلدين في مزبلة التاريخ، كان توقيتًا ربانيًا، جاء في واحد من تجليات لقاء السماء بالأرض، ذكرى عاشوراء وتضحياتها ومنهجها، ذكرى المثُل والبطولة المتفردة عبر التاريخ.
وتوّج السيد أهم حدث مفصلي خلال العقد الأخير، بخطابه التاريخي المدوي عن وصول ناقلات النفط القادمة من الجمهورية الإسلامية إلى لبنان عبر الشقيقة سوريا، قرب ذكرى هي الأخرى تحمل من المعانى النبيلة الكثير، لارتقاء الشهيد البطل السيد هادي، في رسالة مزدوجة للصديق والقريب والعدو، كلٌّ في ما يخصه.
الحقيقة الأولى، والأعلى صوتًا، في قوافل كسر الحصار على لبنان، أنها جاءت من اليد التي قادت تحرير الأرض، لتعيد الكرّة لكن هذه المرة بتحرير المواطن العادي من نير الحاجة والعوز والأزمات، ومنحت كل عربي إشارة للطريق الوحيد للحل. لم يلجأ حزب الله لصندوق النقد، ولم يقترض من الغرب، بل جاء بأدوات إنتاج وتحريك من الشرق، هذه واحدة.
أما الأخرى، فقد حققتها المعطيات والتضحيات الطويلة للجمهورية الإسلامية وسوريا وحزب الله معًا، في وسط منطقة واقعة بالفعل في أزمة. وأخيرًا تجد المثال على الإنجاز والنجاح، ومن خارج الوصفة الأميركية تمامًا، بما يفتح الباب للمزيد من كسر التبعية وفك الطوق الأميركي الحاكم على رقاب الجميع في المنطقة العربية.
كانت المعادلة الأميركية التي قدمت لحكام الدول العربية، والقائمة منذ منتصف السبعينيات، هي: وقع اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني، وستضمن لك الاستثمارات الأميركية الرخاء والنمو، ويقدم لك الدعم الأميركي غير المحدود كل ما تطمح له من أدوار قيادية. هذا أول ما قيل للسادات مثلًا عن اللبن والعسل اللذين ينتظران فقط التوقيع على كامب ديفيد، وحين انتهت اللعبة، أخذ السادات ورقة، ومنح بلده كلها للأميركيين والصهاينة مقابلها، ووصل قبل مقتله مباشرة على يد البطل خالد الإسلامبولي إلى قناعة أنه شرب الخدعة في صحراء قاحلة، وكل ما كان يتمناه كان سرابًا ظنته العيون ماءً.
الآن فقط، جاء الحل من الخارج، وبأسلوب تعاوني كامل، يعزز من قيمة العملات المحلية للدول الثلاث، وينزع من العملاق الأميركي قدرته المطلقة على الفعل والمعاقبة والحركة، ويكسر بالتالي من هيبة الكيان الصهيوني بالدرجة ذاتها التي يخصم فيها من القوة الأميركية المرتعشة.
وفي الأخير، قدم الحل الإيراني ما هو أعظم من مشهد قوافل المازوت والبنزين، وأبهى من تلبية حاجات بلد كاد يختنق بالفعل، وبالمنهج الذي اختاره حزب الله في ممارسته العمل الجهادي منذ يومه الأول المجيد على صفحة الأرض العربية.
استعاد السيد، بكل إيمان، عاشوراء إلى واقعنا اليومي، فصارت نهجًا لا مرثية، وانتصارًا متجددًا على العدو، ودماء لا تذهب هدرًا أبدًا، وتصميمًا يقينيًا على شعار "لن تسبى زينب مرتين"، ليعاين من أراد انتقال شعارات الحزب من ساحة جهاد العدو إلى جهاد البناء والخدمة وقطع سلسلة المعاناة المستمرة والطويلة بحق مواطني لبنان.
ولعل إحدى أهم نقاط حديث السيد عن هدوء التغطية الإعلامية فيما يخص وصول البواخر الإيرانية إلى سوريا، لوضع قاعدة جديدة مفادها أن إحراز أكبر قدر ممكن من النجاح يرتبط بالإقدام على أقل قدر ممكن من الكلام. الأحاديث المتعددة تكشف وتفضح المواقع والأهداف، وبالتالي فإن الكلمات المندفعة تضيق بدورها من إمكانية الحركة والفعل وحرية التصرف، والأهم: المرونة المطلوبة في منطقة ساخنة بأحداثها، وفوارة بقدر آمال الفاعلين أو الطامعين بها.
لم تكن كلمة السيد، وهي تاريخية فعلًا لا وصفًا، تكريسًا للاحتفاء أو الفرح بإنجاز عز مثيله على الأمة العربية كلها، بل وعدًا جديدًا باستمرار النهج المخاصم للمسيرة العربية الخانعة خلال العقود الطويلة الماضية، وطي صفحة السياسات القديمة البليدة، والعاجزة. وصبغ السيد حديثه ببسمة الواثق المنتصر، بعد نجاحه في تقديم الحل الجديد متكاملًا بعيدًا عن الخيال الفقير الذي يحرك كل حكامنا البؤساء.
المصدر: العهد