الشعب الايراني انتصر على النظام الشاهنشاهي الذي كان مدعوما بقوة من الولايات المتحدة الأمريكية ومن الكيان الصهيوني, وأمتلاكه آنذاك لأقوى الأجهزة الأمنية وأقوى وأكبر الجيوش وترسانات الأسلحة في منطقة الخليج الفارسي وغرب آسيا... بعد أشهر من المظاهرات السلمية التي التي بدأت صغيرة ومحدودة في بعض مناطق أيران ثم أمتدّت الى باقي المناطق لتشمل كل البلاد .. وأزدادت أعداد المشتركين فيها حتى بلغت الملايين , وتمكّنت من بناء نظام سياسي جديد كان و لازال محورا لأغلب أحداث المنطقة منذ أكثر من اربعون عاما ولحد الآن..
ويختلف المحلّلين والمهتمين في كل مايتعلّق بالثورة الشعبية الأسلامية والنظام الذي صنعته، الاّ فـي نقطة واحدة لايختلف عليها أحد، وهي أن تلك الثورة أسقطت أحد أهم ركائز النفوذ الأمريكي في المنطقة، وأوجدت نظاما سياسيا مستقلا لا تتحكّم القوى الكبرى ولا أية قوى خارجية أخرى بقراراته وأتجاهاته ، اما مدى نجاحها في تحقيق مطالب الشعب الأيراني، فنترك تقديره للشعب الإيراني الشريف .
كان حدث استشهاد الأبن الأكبر للسيد الخميني السيد مصطفى (قدس سرهما) (وكان آنذاك المعارض الأبرز للنظام الشاهنشاهي في أيران) في ظروف غامضة عام 1978م في النجف لأشرف في العراق (وهو المنفى الأجباري الذي عاش فيه حوالي خمسة عشرعاما), كان ذلك الحدث الشرارة (التي أحرقت السهل كله) كما يقول المثل الصيني , حيث أقتنعت الكثير من الأوساط الشعبية الأيرانية آنذاك (ولأسبابها الخاصة) بأن الساواك (جهاز أمن شاه أيران) هو الذي قتل ابن السيد الخميني السيد مصطفى (قدس سرهما) بواسطة السم لشلّ قدرة والده على الحركة حيث كان يعتمد عليه كثيرا...مما أدى ألى خروج مظاهرات فــي مدينة قم ذات الثقل الديني والتي تصدّت لها أجهزة الأمن الأيرانية وبوحشية مما أدى الى سقوط عشرات الشهداء والجرحى وأعتقال المئات... وكرد على ذلك خرجت مظاهرات شعبية في مدن أيرانية أخرى وتكرّر سقوط الشهداء والجرحى وبدأت الجماهير تحتفي في أربعينية كل شهيد وتكررت الصدامات حتى أنتشرت التظاهرات في كل المدن الأيرانية وأصبحت أعداد المشاركين بمئات الآلاف ثم بالملايين, وهنا شعر النظام الحاكم ومن قبله الأدارة الأمريكية آنذاك بخطورة الوضع, خاصة بعد أن شلّت الأضرابات صناعة النفط وتصديره (كان هناك ما يزيد على خمس وأربعين ألف خبير ومستشار أمريكي في أيران يتحكّمون من وراء الستار بالجيش والأمن والنفط والأقتصاد والتجسس على الأتحاد السوفيتي), فتم عزل (أمير عباس هويدا) الذي بقي رئيسا لوزراء أيران لفترة لاتقل عن خمسة عشر عاما، وتم أعلان الحكم العسكري في السادس من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1978م وأصبح (غلام رضا أزهاري) رئيس الأركان رئيسا لمجلس عسكري حاكم, وفي فترة الحكم العسكري أرتكبت قوات الأمن والجيش مجازر وحشية ضد المتظاهرين والمحتجين وأرتكبت جرائم بشعة لتشويه صورة المعارضة (مثل حرق سينما في عبادان وموت أربعمائة متفرج داخلها حرقا, للأيحاء بقيام الأسلاميين بذلك) وكانت تأثيرات كل ذلك عكسية, لأنكسار حاجز الخوف ولثقة الشعب بقيادة الثورة الشعبية... ولذلك سقطت الحكومة العسكرية وتم أختيار شخصية مدنية تم الترويج لها بوصفها مقرّبة من رجال الدين وكانت في الواقع من شخصيات النظام القديمة المقبولة أمريكيا, ولم تدم هذه الحكومة طويلا.. وأستمرّت سياســـة تغيير الوجوه والوزارات حتى وصلت القوى الغربية الكبرى وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا الى قرار أرغام الشاه على مغادرة أيران والمجيء بشخصية تمتلك شيء من تاريخ المعارضة للنظام ولكنها متعاونة معهم وكان شاهبور بختيار هو المرشح لذلك الدور , حيث كان تاريخه البعيد فيه شيء من رائحة المعارضة للشاه في خمسينيات القرن الماضي لأنضمامه الى الجبهة الوطنية ... ومن الطريف الذي يستحق الذكر, هو أن شاه أيران وعند أشتداد التظاهرات والأحتجاجات تحدث في الأعلام، وقال أنه أستلم رسالة الشعب وفهمهما...بعد أن كان الشاه يصف المتظاهرين بمجموعة عملاء للتحالف الأسود الأحمر ويقصد بهم تحالف علماء الدين مع الشيوعيين.
لنراجع وبشيء من التفصيل أستراتيجية وسياسات قيادة الثورة الشعبية التي أعتمدتها ونجحت بواسطتها في أسقاط النظام الشاهنشاهي المتجبّر والمدعوم أمريكيا .. وفي المقابل أستراتيجية وسياسات النظام والتي تم أستبدالها فيما بعد نتيجة فشلها , بالخطط و السياسات التي وضعتها الأدارة الأمريكية وحلفائها لمنع أنتصار الشعب الأيراني وقيادته الأسلامية, لنتوصّل الى بعض الدروس والعبر التي ربما تنفع بعض التجارب المعاصرة...
بادرت القيادة الأسلامية (والتي كانت في الواقع تتبوّأ موقع قيادة الحركة الوطنية الأيرانية, بسبب عدة عوامل لسنا بصدد دراستها بالتفصيل ولكن وبأختصار أهم تلك العوامل، عجز القيادات الحزبية المعارضة وبما فيها المجموعات الحزبية الأسلامية واليسارية عن كسب ثقة السواد الأعظم من الأيرانيين آنذاك، أما لنخبويتها وعدم أستيعابها للمناخ العقائدي والأخلاقي للشعب الأيراني المعروف بتديّنه وأرتباطه القوي بعلماء الدين خاصة الذين يعيشون هموم الفقراء والمظلومين، أو لأختيارها العمل السري المسلّح وتعرّضها لضربات موجعة من قبل أجهزة القمع الشاهنشاهية المعروفة آنذاك بوحشيتها، فضلا عن سقوط بعض رموزها وكوادرها في فخ مغريات السلطة كما حصل مع بعض الشيوعيين (حزب تودة) الذين تحولوا الى منظّرين لحزب السلطة (راستاخيز) أي البعث!
نقول بادرت القيادة الى تنظيم وتوجيه التفاعل والتعاطف الشعبي مع قضية أستشهاد نجل السيد الخميني (قدس سره) صوب دعم الأهداف الكبرى لنضالات الشعب الأيراني وقواه الوطنية, وكانت تتابع وتدرس وبدقة ووعي عاليين مراحل تطورالأحتجاجات الشعبية ونتائجها الميدانية، وكذلك أوضاع النظام الحاكم وتفكّك بنيته وتدهور معنويات رأسه و أركانه، وتطور مواقف القوى الدولية التي تسانده.
لقد أظهرت قيادة الثورة التي كانت متمثـّلة آنذاك بالسيد الخميني (قدس سره) وكبار معاونيه (وكانوا خليطا من علماء دين شباب وكهول وأساتذة جامعات وكسبة وطلاب وعمال وموظفين...من أمثال "طالقاني وبهشتي ومطهّري ومفتّح وخامنئي ورفسنجاني وحسن آيت ومهدي عراقي وعسكرأولادي ورضائي ورجائي وباهنر وغيرهم مع حفظ الألقاب)، حكمة عالية في أختيار الأهداف المركزية الكبرى للثورة ولحركة الجماهير الأيرانية وكذلك في تحديد أهداف كل مرحلة من مراحل الأنتفاضة أو الثورة وفي طرح المبادرات السياسية في الوقت المناسب وعدم السماح للنظام ولمن هم وراءه بأستغلال الفراغ وعامل الزمن ..حتى الأجهاز الكامل عليه وأقامة النظام السياسي الجديد.
الهدف المركزي هو أزاحة الشاه عن السلطة وتغيير نظامه بشكل كامل, لأنه وحسب تشخيص قيادة الثورة (وهي القيادة المعبّرة آنذاك عن آمال وآلام ومطالب الشعب) :
1ـ كان نظاما غير شرعيا, سواء بالمعايير الديمقراطية المعاصرة أوبالمعايير الدينية.
2ـ لأن الشاه وكبار قادة النظام كانوا تابعين أذلاّء للولايات المتحدة الأمريكية ,ونظامهم فاقد للسيادة والأستقلال ...وكان تنفيذ الخطط والسياسات وخدمة المصالح الأجنبية والأمريكية بشكل خاص ,هو محور سياسات أيران الخارجية والداخلية .
3ـ لأن الشاه ونظامه فشلا في تحقيق العدالة الأجتماعية وأحترام كرامة وحفظ حقوق المواطن وحفظ أستقلال الوطن, ولم ينجح في أداء أية واحدة من المهام التي تقع على عاتق الحكومة التي يجب أن تكون في خدمة المواطنين وحريتهم ورفاهيتهم وخدمة الوطن ومصالحه العليا .
4 ـ لأن الشاه ونظامه وأبرز رجاله أبدى الأساءة والمحاربة للأسلام (الهوية الدينية والحضارية للشعب الأيراني ), ولعلماء الدين وجماهير المؤمنين
5ـ ولأن نظام الشاه وطيلة فترة حكمه التي أمتدّت لأكثر من نصف قرن (الأب والأبن ) برهن على عجزه عن أصلاح نفسه والتخلّص من عيوبه والتكيّف مع حاجات وتطورات ومطالب الواقع, ليس فقط لأنه لايعيش أستقلالية أرادته السياسية وأرتهان تلك الأرادة لدوائر قرار ومراكز قوى سياسية وأمنية وأقتصادية أجنبية, بل ولأنه أيضا يعتمد في بقائه في الحكم على دعم الدوائر الخارجية ودعم مجموعات مصالح (معزولة شعبيا) لنخب عسكرية وأمنية ورجال أعمال في الداخل وعلى أستراتيجية قمع وأرهاب المواطنين، وليس على آراء الشعب من خلال صناديق الأنتخاب... ولا على المؤسّسات الدستورية.. أوالتعبير عن آمال وآلام الجماهير. والى جانب شعار الثورة المركزي الداعي الى رحيل الشاه عن السلطة رفعت الجماهير وبتوجيه من قيادتها, شعار الحرية والأستقلال والجمهورية الأسلامية, ومع ذلك الاّ أن قيادة الثورة أعلنت وبوضوح أن هوية النظام الجديد يحدّدها الشعب في أستفتاء حـر بعد سقوط الشاه ونظامه.
يتبع /
د. السيد أكرم الحكيم