كان ابن سينا حاد الذكاء، متوقد الذهن، يلتهم العلم التهاما، فقد تعلم القرآن الكريم وهو لا يزال فتى يافعا، واصبح عالما وفيلسوفا وطبيبا وشاعرا، ولُقب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عن المشاركة في الحياة العامة في عصره؛ فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموج به من اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية.
من حياته
ولد أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا في قرية فارسية قرب بخارى من أب من مدينة بلخ اسمه عبدالله وأم قروية تدعى "ستارة"، سنة 370هـ (359ش).
التفت إلى الطب في سن 16، ولم يتعلم النظرية الطبية فحسب، بل التطبيق العملي أيضا بحضور المرضى وذلك دون مقابل، وفقا لروايته الخاصة، اكتشف طرقا جديدة للعلاج.
كان عمل ابن سينا الأول هو تعيينه كطبيب الأمير، نوح الثاني، الذي يدين له بالشفاء من مرض خطير في عام 997 م وكانت المكافأة الرئيسية لابن سينا لهذه الخدمة هي الوصول إلى المكتبة السامانية الملكية، والسامينيون كانوا رعاة مشهورين للعلم والعلماء.
استقر ابن سينا في الري، بالقرب من مدينة طهران الحديثة، يُقال إن حوالي ثلاثين من أعمال ابن سينا كانت في الري. وبعد قضاء فترة وجيزة في قزوين، مر جنوبا إلى همدان . السنوات العشر أو الإثني عشر المتبقية من حياة ابن سينا أمضاها في دراسة المسائل الأدبية وعلم اللغة، وأكب عليها.
في الطب
استطاع الشيخ الرئيس ابن سينا أن يُقدم للإنسانية أعظم الخدمات والاكتشافات والابتكارات الطبية التي فاقت عصرها بالقياس إلى إمكانات ذلك العصر ومدى ما وصلت العلوم فيه آنذاك؛ إذ إنه أول من كشف عن طفيلة (الإنكلستوما)، وسماها في كتابه (القانون في الطب) بالديدان المعوية: ووصفها بالتفصيل لأول مرة، وتحدث عن أعراض المرض الذي تُسببه
ثم إنه تطرق إلى بعض أنواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيدا عن القناة الهضمية ؛ مثل: ديدان العين، التي تُفضل منطقة العين، وديدان الفلاريا المسببة لداء الفيل، فتراه يقول عن الأخير: "هو زيادة في القدم وسائر الرجْل على نحو ما يعرض في عروض الدوالي فيغلظ القدم ويكثفه".
كما أنه أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفا بذلك ما استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم، فضلا عن أنه أول من فرق بين المغص المعوي والمغص الكلوي.
وكان ابن سينا صاحب الفضل في علاج القناة الدمعية بإدخال مسبار معقم فيها وابن سينا هو الذي أوصى بتغليف الحبوب التي يتعاطاها المريض، وكشف في دقة بالغة عن أعراض حصاة المثانة السريرية، بعد أن أشار إلى اختلافها عن أعراض الحصاة الكُلوية.
كما كان لابن سينا باع كبير في مجال الأمراض التناسلية ؛ فوصف بدقة بعض أمراض النساء؛ مثل: الانسداد المهبلي، والإسقاط، والأورام الليفية. وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تُصيب النفساء؛ مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسببه من أورام وحميات حادة، وأشار إلى أن تعفُن الرحم قد ينشأ من عُسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفا من قبلُ. كما تعرض -أيضا- للذكورة والأنوثة في الجنين، وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكده مؤخرا العلم الحديث.
كما كشف ابن سينا -لأول مرة أيضا- طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو.
ويُظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة؛ فقد ذكر عدة طرق لإيقاف النزيف؛ سواء بالربط، أو إدخال الفتائل، أو بالكي بالنار، أو بدواء كاو، أو بضغط اللحم فوق العرق.
وقد تُرجمت كتب ابن سينا في الطب إلى اللاتينية ومعظم لغات العالم، وظلت حوالي ستة قرون المرجع العالمي في الطب، واستُخدمت كأساس للتعليم في جامعات فرنسا وإيطاليا جميعا، وظلت تدرس في جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر.
مقبرة ابن سينا في همدان، إيران
وهاجم ابن سينا المنجمين ودحض الأساطير والخرافات وكتب بتصحيح كثير من الأفكار التي كانت سائدة في عصره كل هذا النبوغ لابن سينا وهو شابٌ يافعٌ لم يتجاوز الثلاثين عاما من عمره، إذ إنه قاد ثورة علمية بمختلف نواحي الحياة مما خلق له أعداء كثر واستغلوا بعض أفكاره الفلسفية الخلاقة واتهموه بالكفر والزندقة والإلحاد، وكان يرد عليهم بالقول ( إيماني بالله لا يتزعزع ولو كنت كافرا فليس ثمة مسلم حقيقي واحد على سطح الأرض ) وكان الحاقدين والحاسدين يوقعون بينه وبين الحكام حتى أنه حبس وعذب.
وأخيرا هرب إلى أحد أصدقائه وأصابه المرض وتوفي بسبب هذا المرض وهو ما زال في ريعان الشباب اذ لم يتجاوزه عمره الخمسين عاما ودفن في مدينة همدان الإيرانية.