جاءت تطوّرات الأحداث يوم أمس (اول امس) على الحُدود اللبنانيّة مع الأراضي الفِلسطينيّة المُحتلّة لتَعكِس الاستراتيجيّة الجديدة لحزب الله المُتمثّلة في “نهج الغُموض”، وعدم الإدلاء بأيّ تصريحات تفصيليّة عن أنشطته العسكريّة خاصّةً ضدّ العدو الإسرائيلي، وتصعيد حالة الارتِباك في صُفوفه.
الحزب أصدر بيانًا نفى فيه كُل “الرّوايات” الإسرائيليّة حول التصدّي لخليّةٍ حاولت التسلّل لتُنفّذ عمليّة فدائيّة عبر الحُدود انطِلاقًا من مزارع شبعا المحتلّة، ولكنّه أكّد في البيان نفسه أنّ الثّأر لاستِشهاد علي كامل محسن أحد عناصره في عُدوانٍ إسرائيليٍّ في غُلاف مطار دِمشق قادمٌ وحتميٌّ.
فإذا كان هُناك تسلّل فِعلًا لإحدى خلايا “حزب الله” جرى رصده واكتِشافه من قبل وحدات عسكريّة إسرائيليّة فلماذا لم يتم إطلاق النّار بهدف القتل على هؤلاء المُتسلّلين؟ ولماذا جاءَ القصف الإسرائيليّ لمزارع شبعا “مسرحيًّا” ولم يُحدِث إلا أضرارًا ماديّةً بأحد المنازل الخالية من السكّان؟
الإجابة واضحة، ولا تحتاج إلى تفاصيل، الجانب الإسرائيلي المُرتبك، المرعوب، لا يُريد فتح معركة مع “حزب الله” وفي هذا التّوقيت الذي يُواجه فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي ثلاث أزمات، الأولى صحيّة، تتمثّل في فشله في التصدّي لانتشار كورونا، والثانية سياسيّة، تتمثّل في الانقسامات الحادّة في ائتلافه الوزاريّ الحاكم، ونُزول عشرات الآلاف مِن المُتظاهرين في الشّوارع للمُطالبة باستقالته، أمّا الثالثة فشخصيّة، تَنعكِس في المُلاحقات القانونيّة التي تُطارده بسبب فساده المالي.
فإذا تجاوزنا الروايات العسكريّة الإسرائيليّة المُتناقضة هذه، ونظرنا إلى ما حدث يوم أمس (اول امس) على الحُدود اللبنانيّة الإسرائيليّة من زاويةٍ أعمق، أي زاوية الرّبح والخسارة، يُمكن القول إنّ حزب الله خرج رابحًا دون أن يُطلِق رصاصةً واحدةً، أو تُدلي قِيادته المُتمثّلة في السيّد حسن نصر الله أيّ تصريح، باستثناء البيان العام والمُقتضب، والمُقتَصِر في المعلومات والتّفاصيل بطريقة مُتعمّدة ومَقصودة.
إنّها الحرب النفسيّة التي أثبت حزب الله أنّه يملك “أكاديميّة” خاصّة به تُمكّنه من إجادة خوضها باقتِدار، وبخبرةٍ عميقةٍ اكتسبها مُنذ نُزوله إلى ميدان المُقاومة مُنذ ثلاثين عامًا تقريبًا، وباتت تُصدِّر الخُبراء للحُلفاء في مِنطقة الشرق الأوسط وربّما ما بعدها.
حزب الله خرج مُنتَصِرًا في هذه الحرب، لأنّ مجرّد تهديده بالرّد لاستِشهاد عُنصره في عُدوانٍ إسرائيليٍّ على جنوب دِمشق، أربك الإسرائيليين، قادةً ومُستوطنين، ودفع بالمُتغطرس نِتنياهو إلى إرسال رسالة عبر قوّات “اليونيفيل” الدوليّة إلى قِيادته (الحزب) يعتذر فيها عن جريمته، ويُؤكّد أنّه لم يعلم بوجود عناصر من حزب الله في المِنطقة التي استهدفتها الغارة الجويّة الإسرائيليّة في دِمشق تَجنُّبًا لأيّ تصعيد، وتأكيد الالتِزام بقواعد الاشتباك بالتّالي، وما يُؤكّد أكثر على هذه الرّسالة تجنّب مُسيّرة إسرائيليّة اغتيال أربعة من قادة الحزب الميدانيين على الجانب الآخر من الحُدود السوريّة مع لبنان قبل شهر، وقصفها لسيّارتهم ذات الدّفع الرباعي بعد مُغادرتها.
تصاعد هذا التوتّر على الحُدود اللبنانيّة مع دولة الاحتلال في وقتٍ يطرح فيه طرف لبناني مُضاد للمُقاومة مسألة “الحياد” وضرورة النّأي بلبنان عن الحُروب والمحاور، جاء يَخدِم “حزب الله” ومُعسكره ويُؤكّد سُقوط هذه المقولة، وفَضح نوايا من يقفون خلفها، وأنّ لبنان لا يُمكن أن يكون “مُحايدًا” في ظِل الخطر الإسرائيلي الذي يُهدّده وأمنه واستقراره للاستِيلاء ونهب احتياطاته النفطيّة والغازيّة في البحر المتوسّط.
نعود إلى القضيّة الأهم، وحساب الانتقام المفتوح، ونَطرح سُؤالًا مُهمًّا، وهو متى سيكون الثّأر لمقتل الشهيد محسن، وأين، وكيف، طالما أنّه باتَ حتميًّا حسب البيان الأخير لحزب الله؟
أبرز ما يُميّز المُقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة هو طُول نفسها، وعدم تسرّعها، واختِيارها التّوقيت والهدف المُناسبين لعمليّاتها العسكريّة، ولذلك ربّما، وبسبب مقدَم الاحتفال بعيد الأضحى المبارك، وتفاقم الأزمة اللبنانيّة بشقّيها الاقتصاديّ والسياسيّ، أن يتأخر هذا الرّد، لإطالة وتعميق حالة الرّعب في أوساط الإسرائيليين وقِيادتهم أيضًا، فانتِظار تنفيذ حُكم الإعدام أكثر إيلامًا مِن التّنفيذ نفسه.
استشهاد علي كامل محسن ورفاقه الأربعة وقع على الأراضي السوريّة، ومن غير المُستبعد أن يكون الانتقام انطلاقًا منها، أو من جبهةٍ أخرى، سواءً داخل الأراضي المحتلّة أو في الخارج، فطالما أنّ “حزب الله” مُدرَج على قوائم الإرهاب أوروبيًّا وأمريكيًّا، فما الذي يُضيره لو ضرب أهدافًا إسرائيليّةً في أيّ مكانٍ آخر في العالم مثلما تساءل أحد المسؤولين فيه؟ فأرض الله واسعة، وقيادة الحزب تحرص بشدّة هذه الأيّام على تجنيب لبنان أي مُواجهات عسكريّة بسبب حساسيّة التّركيبة السكانيّة، والاعتبارات الطائفيّة، ووجود طابور خامس يتَصيّد في الماء العَكِر، ويأخذ تعليماته مُباشرةً من السفيرة الأمريكيّة في بيروت، وربّما من تل أبيب أيضًا.
حزب الله لا يلعب بالنّار مثلما يُحذّر نِتنياهو في تصريحاته الأخيرة، بل من يُرسل طائرة تجسّس مُسيّرة جرى إسقاطها دون إعلان المسؤوليّة) لجمع المعلومات فوق الجنوب اللبناني، ويُواصِل غاراته على سورية وقواعد الحشد الشعبي في العِراق، ويغتال رجال المُقاومة في فِلسطين المحتلّة، هو الذي يلعب بالنّار وستحترق أصابعه وأرجله وكلّه حتمًا.
الثّأر قادمٌ، سواءً للانتقام لشُهداء حزب الله، أو للحاج قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس، أمّا متى وأين وكيف؟ فالعِلم عند الله، وما علينا إلا التحلّي بفضيلة الصّبر والانتِظار.
*عبد الباري عطوان - راي اليوم