وفي 12 شباط (فبراير) 2008، كان عماد مغنية، يسير في شارع هادئ ليلاً في دمشق بعد تناوله العشاء في مطعم مجاور. وعلى مسافة قريبة، كان فريق من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) في العاصمة السورية يرصد تحركاته.
وعندما اقترب مغنية من سيارة رباعية الدفع مركونة في موقف للسيارات، انفجرت عبوة مزروعة في إطار احتياطي في مؤخر السيارة، وتطايرت الشظايا ضمن دائرة ضيقة، فاستشهد على الفور.
وقد تولّى عملاء من الموساد الإسرائيلي موجودون في تل أبيب وعلى تواصل مع العملاء على الأرض في دمشق، تشغيل جهاز التفجير عن بعد. يقول مسؤول سابق في الاستخبارات الأميركية: "لقد جرى التخطيط للعملية بحيث كان بإمكان الولايات المتحدة أن تعترض وتقوم بإلغائها، لكن لم يكن بإمكانها التنفيذ.
وفي هذا السياق كتبت صحيفة الاخبار اللبنانية قبل اسبوع مقالا جاء فيه: خرجت صورة قائد قوة القدس الفريق قاسم سليماني للمرة الأولى إلى العالم بعد عام 2008، عقب استشهاد صديقه القائد العسكري للمقاومة الإسلامية في لبنان الحاج عماد مغنية. يقول المقربين من سليماني أن خروجه إلى الضوء جاء كردة فعل على استشهاد مغنية.
العلاقة بين الرجلين عاينها العدو بعينه. يروي الصحافي الإسرائيلي رونين برغمان في كتابه «انهض واقتل»، أنه صبيحة اغتيال الحاج رضوان، في 12 شباط 2008، رصدت أعين الاستخبارات الإسرائيلية مغنية واقفاً مع صديقه الحاج قاسم بالقرب من السيارة المفخخة. بحسب الكاتب، لم تسمح الإدارة الأميركية بقتلهما معاً لاعتبارات عدة، بينها أن قتل سليماني قد يؤدي إلى حرب مع إيران، وأنه يريد ضمان «قتل الهدف».
بعد اغتيال مغنية، احتفظ سليماني بـ«الكنزة» السوداء التي كان يرتديها الحاج عماد لحظة استشهاده. وضعها في صندوق زجاجي في صالون بيته في طهران. فوق الصندوق، ثبّت لوحة عليها صور قادة وشهداء إيرانيين ولبنانيين (بينهم السيد موسى الصدر والسيد حسن نصر الله) وفلسطينيين وعراقيين وأفغان، والثائر الليبي عمر المختار. مرات عدة، عبّر الحاج قاسم عن اشتياقه للحاج رضوان، وكيف أنه باستشهاده فقد صديقاً من الصعب تعويضه. كان يشير إلى كنزة صديقه ويطلب من زائريه التدقيق في الثقوب التي خلفتها الكرات المعدنية التي اخترقت جسده.
اعتاد الحاج قاسم استرجاع لحظة استشهاد مغنية، وكيف وجده أحد رفاقه ساجداً. أحب سليماني إخبار زائريه عن علاقته بمغنية ولم يقدر على منع انسياب الدمع خلال حديثه عنه. بعد استشهاد الحاج رضوان، أصبح سليماني فرداً من عائلة مغنية. اعتبر نفسه مسؤولاً عنها.
بعض أفراد عائلة الحاج عماد كانوا قد التقوا سليماني سابقاً، لكنهم لم يكونوا يعرفون هويته. كل ما عرفوه عنه أنه «صديق عماد». إبان حرب تموز ــــ آب 2006، شاهدت زوجة الحاج عماد، سعدى بدر الدين، قاسم سليماني مع زوجها عندما كانا يحضران لتسلّم الطعام منها، في نقطة متفق عليها مسبقاً في الضاحية. كانت تنظر إليهما، متسائلة عن الرجل الذي لا يفارق زوجها والذي يُحتمل أن يقتل معه في أي لحظة. لم تعرف أنه قاسم سليماني إلا ما بعد استشهاد رفيق عمرها.
في الآونة الأخيرة، استذكر الحاج قاسم بعضاً من أيام حرب تموز التي قضاها في لبنان برفقة الشهيد مغنية والسيد نصر الله. في إحدى المرات، كان الموت قاب قوسين أو أدنى من الثلاثة. خرجوا من المكان الذي كانوا فيه، تظلّلوا بشجرة كبيرة بعدما شعروا بأن مقرهم في الضاحية الجنوبية لبيروت سيستهدف. طلب عماد من سليماني حماية السيد نصر الله. غاب لدقائق وعاد يقود سيارة. صعدوا فيها، ولحظات حتى انهمرت الصواريخ الإسرائيلية مستهدفة المكان الذي كانوا فيه. قاد الحاج عماد السيارة بسرعة كبيرة حتى وجد الثلاثة أنفسهم في منطقة بعيدة جداً. انتبهوا إلى أنهم ابتعدوا كثيراً عن الخطر، فكانت ردة فعلهم الضحك. يسرد الحاج قاسم هذه الرواية، ويختمها بابتسامة قائلاً: «ما لا يفارق ذهني وما لم أتمكن من سؤال عماد عنه، هو من أين أتى بالسيارة؟.
بعد الحرب، توطدت علاقة سليماني مع عائلة مغنية، وخصوصاً أنه في مرات عدة رافق الحاج رضوان وانتظره للانتهاء من لقاء عائلته. بعد استشهاد مغنية، حرص سليماني، خلال زياراته لبيروت، على لقاء أفراد العائلة والاطمئنان على أحوالهم، ومتابعة تفاصيلهم اليومية. بدورها، عائلة الحاج عماد اعتبرت سليماني واحداً منها. فلطالما كانت الحاجة آمنة سلامة (أم عماد)، تعاتبه، لمخاطرته بنفسه، ولعدم نيله قسطاً كافياً من الراحة والنوم.
عند استشهاد جهاد عماد مغنية، شعر سليماني بأنه فقد ولده. جاء إلى منطقة الغبيري في الضاحية الجنوبية لبيروت، وقف مستقبلاً المعزّين، متجاوزاً المخاطر التي أحاطت بعد التهديدات الإسرائيلية باستهدافه بسبب العمل العسكري على جبهة الجولان. ليلة استشهاد «جهاد الكبير» (كما تلقّبه عائلته)، توجّه سليماني إلى قبره، وانتشر له فيديو وهو يقرأ القرآن على قبره. في إيران، وعلى مدى يومين، أقام مراسم العزاء وتقبّل العزاء برحيل جهاد.
في الذكرى السنوية العاشرة لاستشهاد الحاج رضوان، أطلق الحاج قاسم العنان لنفسه للحديث عن صديقه. عند سؤاله: لماذا قررت الآن الحديث عن مغنية؟ كان يجيب أنه يحب الحديث عنه، لكنه يخاف أن لا يفيَه حقه. تحضيراً لمهرجان الذكرى السنوية العاشرة، تابع سليماني التفاصيل، وسأل عن المتحدثين في الحفل، والأناشيد التي ستتلى، وأين سيجلس الحاضرون، وكان فرحاً على غير العادة. بعد الاحتفال، قال لمن التقاه في بيته إنه يتمنى أن يكون قد أعطى الحاج عماد بعض حقه.
عند وفاة الحاج فايز مغنية عام 2017، سارع الحاج قاسم إلى الاتصال لتقديم واجب العزاء. المعارك الدائرة في سوريا والعراق منعته من الحضور، لكنه كان حاضراً في التفاصيل، للتأكد من إجراء مراسم العزاء على أكمل وجه. عند مرض الحاجة آمنة، كانت المعارك في العراق على أشدها. ولدى دخولها في غيبوبة، اتصل طالباً وضع الهاتف على أذنها. فضول الحاضرين دفعهم إلى فتح مكبر الصوت لسماع ما سيقوله لها. عبّر لها بصوته المتهدج عن محبته لها وحاجته إليها، قائلاً لها «نحن بحاجة لنصيحتكم ودعائكم.
عند وفاة الحاجة آمنة، حضر الحاج قاسم إلى بيتها معزياً. طلب من عائلتها سجادة من سجدات الصلاة التي كانت تصنعها بيديها، حملها واختار واحدة كانت آثار أصابعها وبصماتها عليها.
يقول من التقى الحاج قاسم، قبل ساعات من اغتياله في العراق، إنه كان هادئاً على غير العادة، وما لفتهم إطالته في الصلاة والدعاء أكثر من المعتاد. مع انتشار خبر استشهاده، لم تفقد «الحكيمة» (اللقب الذي كان يطلقه على زوجته) وأولادها أباهم فقط. فقدت عائلة عماد مغنية مرة أخرى أباً وأخاً. بالنسبة إليهم، عماد استشهد مجدداً.