الآن، وبعد أن أمضى 18 سنة في الاعتقال، يتنسم علي سلهب -من مدينة الخليل- الحرية. ورغم مضي أيام على الإفراج عنه ما زال يعيش الأجواء النفسية للسجن، في الوقت الذي يبدو فيه مصدوما من حجم العمران الذي شهدته مدينته.
في المقابلة التالية، يحدثنا سلهب عن محطات لا تنسى من تجربته، بدءا من التحاقه المبكر بالجناح العسكري لحركة فتح، ومحاولتي اغتياله، مرورا بسنوات سجنه التي أبدلت سواد شعره بياضا، ثم فقدان والده، وانتهاء بأهم وجع يؤرق الأسرى ويشغل بالهم وهو الوحدة الوطنية.
وفيما يأتي نص الحوار:
بداية، حمدا لله على سلامتكم، ونود أن نعود بك إلى انخراطك في المقاومة الفلسطينية، فأنت أمضيت أكثر من نصف عمرك في السجن وما زلت في منتصف العقد الثالث، كيف كانت البداية؟
كان عمري 16 سنة عندما اندلعت انتفاضة الأقصى، وكأي مواطن فلسطيني لدي مشاعر وأحاسيس، وكنت أتابع العذاب وانتهاكات الاحتلال اليومية بحق شعبنا وجيراننا وأبناء عمومتنا، فلم أتحمل الصمت، وكان لا بد من وقفة مع النفس واتخاذ قرار الدفاع المسلح عن حقوقنا وبلدنا وأرضنا وشعبنا.
ساعدتني في اتخاذ هذا القرار مشاركتي المبكرة أيام الدراسة الثانوية في المقاومة بالحجارة، والتصدي لقوات الاحتلال في هبة الأسرى التي سبقت انتفاضة الأقصى.
الفضل في كل ذلك يعود إلى والدي رحمه الله ووالدتي حفظها الله اللذين ربيانا على العزة والكرامة، فكان من إخواني من أصيب أو سبقني إلى السجن، وكبرنا على حب الوطن وحب الأرض كجزء من مكونات أجسامنا، وما تحتاجه الأرض نعطيها إياه حتى لو كان الدم أو العمر.
وبالفعل اشتركت في الانتفاضة والتحقت بتنظيم فتح وتدربت على يدي الشهيد القائد مروان زلوم رحمة الله عليه، ثم التحقت بصفوف كتائب شهداء الأقصى.
ما تأثير موقع منزلكم في قلب الخليل في تعزيز الشعور الذي ذكرته، خاصة أن البؤر الاستيطانية قريبة جدا من منزلكم؟
كان لنا محل تجاري في شارع الشهداء القريب والمغلق منذ أكثر من عشرين عاما، وكنت في صغري أذهب بشكل يومي إلى المحل وأعايش اعتداءات الجيش والمستوطنين، وأتساءل: لماذا يعيشون في أرضنا ويعترضون طريقنا وينكلون بنا؟ فزاد ذلك من كرهي لهذا الاحتلال وبغضي له.
أضف إلى ذلك انعدام الأمن، فمتاجرنا لم تعد آمنة وبيتنا لم يعد آمنا والوطن لم يعد آمنا، ضيقوا علينا بكل الوسائل فلم يكن أمامنا خيار سوى المقاومة، فكان كل إنسان يقاوم الاحتلال بطريقته، فاخترت الكفاح المسلح.
حدثنا عن مشاركاتك العسكرية وإصاباتك ومحاولتي اغتيالك وأنت في سن السادسة عشرة؟
في عام 2000، اندلعت انتفاضة الأقصى بالحجارة ثم تطورت إلى الكفاح المسلح، فكونا مجموعات مسلحة لحركة فتح تم تنظيمها لاحقا باسم كتائب شهداء الأقصى، واستطاعت أن تقض مضاجع الاحتلال في شوارع الخليل وأزقتها.
كنت ضمن أوائل المجموعات العسكرية قبل أن أتم السابعة عشرة، وذلك تحت إمرة القائد الشهيد مروان زلوم، وبعد شهور تعرضت واثنين من مقاتلي الكتائب لقصف بطائرة إسرائيلية في منطقة وادي الهرية بالخليل.
كنا ثلاثة مقاتلين وكان الوقت فجرا، أصبت مباشرة بشظايا الصاروخ، ونظرا لانقطاع التيار الكهربائي لم أشاهد مصير رفيقيّ، لكني رأيت أشلاء ملقاة على الأرض فغلب على ظني أنهما استشهدا.
أما أنا فنقلت إلى المستشفى لتلقي العلاج، ومكثت هناك عدة أيام، ثم انتقلت لإكمال العلاج خارجه نظرا لصعوبة الوضع آنذاك.
لم توقف الجراح عملي العسكري فعدت إلى التنظيم مرة أخرى، وبعد شهور قليلة -وتحديدا في 22 أبريل/نيسان 2002- استشهد القائد العام مروان زلوم، فوقع الاختيار عليَّ مع شاب آخر للرد على اغتياله قبيل دفنه.
وبالفعل توجهنا إلى الهدف في قلب الخليل، لكن كمينا للجيش باغتنا وأطلق النار علينا، فأصبنا بجراح مختلفة وتمكنا من الفرار إلى المستشفى لتلقي العلاج الأولي، ثم إلى منطقة آمنة لاستكمال العلاج.
لاحقا في 23 أبريل/نيسان تم اعتقالك من مدينة بيت لحم، كيف أمضيت سنوات سجنك مصابا؟
بالفعل قررت بعد اشتداد الحصار على الخليل أن أغادرها إلى مدينة بيت لحم، وهناك تم اعتقالي مصابا، وما زلت أعاني من آثار الإصابة حتى اليوم، فهناك شظايا وألم شديد في منطقة الركبة والعمود الفقري، وأحتاج لبرنامج علاج متكامل.
ألم تتلقَ العلاج خلال اعتقالك؟
فور اعتقالي نقلت إلى مركز توقيف "عتصيون" شمال الخليل، ومن هناك نقلت إلى سجن عوفر غرب رام الله دون أن يقدم لي أي علاج.
الإهمال الطبي مشكلة حقيقية في السجون، فالسجين لا ينقل للمستشفى إلا إذا كان في مراحل متقدمة من المرض، وأنا شخصيا حصلت على ستة قرارات من المحكمة العليا تقضي بعلاجي، دون أن يتم ذلك.
هل استُغلت جراحك في التحقيق معك؟
لم يبالِ السجانون بجراحي وآلامي، وتعرضت للضرب الشديد أثناء تنقلي بين السجون، وكنت أجبر على الجلوس وثني قدمي مع أني لا أستطيع ذلك.
ماذا عن مجريات محاكمتك، كم من الوقت استغرق النطق بالحكم؟
أجريت لي خلال أكثر من عامين نحو عشرين جلسة محاكمة، وفي النهاية تم النطق بسجني 18 عاما أمضيتها كاملة وأفرج عني قبل أيام.
لكن أصعب ما في المحاكمة هي وسيلة النقل المستخدمة بين السجن والمحكمة، ونسميها "البوسطة"، وهي شاحنة بكراسي من الحديد ينقل فيها الأسرى مقيدو الأيدي والأرجل، دون مراعاة ظروف الطقس من برد شديد أو حر.
ما أصعب مرحلة عايشتها داخل السجن تتعلق بظروف اعتقالك؟
السجن كله صعب وقاس، لكن الأكثر صعوبة نقل الأسرى من أقسامهم المعتادة إلى أقسام جديدة تفتقد أدنى المقومات من مأكل ومشرب وملبس، هناك معاناة حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أنت في عمر 35 عاما، لكن بياض لحيتك يوحي بأكثر من ذلك بكثير، ما السبب؟
ظروف السجن لا يشعر بها إلا من عايشها، إرهاق وتعب وتفكير ليلا ونهارا وعقوبات ومداهمات.
كيف استقبلت خبر وفاة والدك قبل تسعة شهور؟
كانت لحظة أشبه بالصدمة ولا تنسى. فور سماعي الخبر جلست مع نفسي قليلا وتمنيت لو بقي تسعة أشهر حتى أعيش معه ولو ساعات قليلة من الحرية، لكن قدر الله نافذ، وألهمني ربي صبرا جعلني أتيقن أن الله ينزل الابتلاءات وبمقدارها ينزل القوة وطاقة التحمل والصبر.
ها قد عدت إلى مدينتك الخليل، وإلى مسكنك في بلدتها العتيقة، ما أبرز ما لفت انتباهك؟
البلد تغيرت، تجولت بعض الوقت في بعض الأحياء فأبهرني حجم البناء والعمران، ولفتني استبدال المساحات الخضراء بالبنيان، صدقا شعرت لوهلة وكأني لست في الخليل التي أعرفها.
هل من رسائل تحملها من الأسرى القابعين في السجون؟
حقيقة بقدر السعادة التي يشعر بها الأسير المحرر لحظة الإفراج عنه، فإن غصة في النفس تنتابه لفراق رفاق عاش معهم طويلا ولا ينتظرون ساعة إفراج ولا يعرفون متى يفرج عنهم، أقصد أسرى المؤبدات.
مع ذلك حمّلني هؤلاء جملة رسائل في مقدمتها الحرص على الوحدة الوطنية وتوحيد شطري الوطن: الضفة وغزة، ويطالب الأسرى بوثيقة تحرّم الدم الفلسطيني على الفلسطيني.
رسالة الأسرى الأخرى هي المحافظة على الثوابت التي قدم الشهداء أرواحهم من أجلها، وقدم الأسرى أعمارهم من أجلها، ويطالبون القيادة والسلطة ممثلة بالرئيس محمود عباس بالمحافظة عليها.
في الوقت ذاته يطالب الأسرى بأن يكون ملفهم من الأولويات في التوجه للمحكمة الجنائية الدولية، لمحاسبة الاحتلال على جرائمه بحقهم.
فصراعنا كان إما سياسيا أو كفاحا مسلحا، واليوم نستطيع تدوير الصراع من خلال العالم والأمم المتحدة لمحاسبة "إسرائيل" والضغط عليها.
الرسالة الثالثة للأسرى هي دعم وتأييد القيادة في مواجهة صفقة القرن.
وأخيرا يأمل الأسرى أن تجرى الانتخابات ويتم الاحتكام لصندوق الاقتراع بمشاركة القدس وغزة وكل فلسطين.
المصدر : الجزيرة