الجالس على الأرض تحت شجرة التفاح

الأحد 12 يناير 2020 - 16:00 بتوقيت مكة
الجالس على الأرض تحت شجرة التفاح

اسلاميات_الكوثر: كيف لهذا الرجل الطاعن بالسن الجالس تحت شجرة التفاح بفرنسا أن يقود ثورة بهذا الحجم؟ الامام الخميني مواليد 1902 حين قاد الثورة على الشاه 1979 كان عمره 77 عاما، رجل شارف على الثمانين ماذا يريد؟ نساء أم أموال أم ثياب قشيبة؟ كل الدنيا كانت خلفه؟

 

من أين له هذه الهمة بهكذا عمر ليقوم بشيء لا مثيل له؛ ثورة شعبية إسلامية نهاية القرن العشرين. كل الثورات ضد الدين. كيف يثور شعب لأجل الدين؟ إنه التشيع الإشراقي ليس دين سلطة ولا قطع رؤوس.

صدام حسين مواليد 1937 كان ولدا غير مؤدب. خاض حربا دموية بتحريض سعودي اميركي ضد هذا الشيخ العملاق ومات بأرض خربة بقبر منبوش تنوح عليه غجرية مثل ساجدة عبيد بعد أن شنقه شعبه. بينما الشيخ الجليل صار قبره مزارا وآية بين الناس.

الاسلام الشيعي رأى العالم صراعا بين الخير والشر كما في نهج البلاغة تماما، بينما الاسلام الأموي عقيدة سلطة ومال وحكم ومكيدة "إن لله جنوداً من عسل" عمرو بن العاص ومعاوية يقهقهان هي ذاتها قهقهات آل سعود على خراب الموصل عام 2017.

ليس مهما الخير أو الشر. اسلام بلا مباديء. المهم عندهم الحكم فقط. الخليفة خاطب الغمامة “خراجك عائد إليّ” لهذا العراق شكل صدمة كبرى لهذا الاسلام لأنه خسر الحكم لصالح الشيعة فماذا بقي له؟ لا أخلاق ولا حكم، هذه هي المشكلة التي جعلتهم يفجرون أنفسهم ببغداد.

فلاسفة فرنسيون كبار يقولون كيف لهذا الجالس تحت شجرة التفاح بفرنسا أن يقود ثورة بهذا الحجم؟ هل الخميني عربي أم فارسي أم هندي؟ هل هو عراقي؟ الرئيس روحاني حين زار النجف الأشرف زار بيت الامام الخميني فقد عاش الرجل فيها 13 عاما وكان من مراجعها وأساتذتها.

إنه يشبه جمال الدين الافغاني؛ ابن الأمة الاسلامية ولا يمكن تصنيفه. للعراق حصة ولإيران حصة وللهند حصة. تتنفس في جبته شعوب وأمم وقبائل.

الخميني الذي رفض استخدام السلاح في الثورة الايرانية وحين تصاعد عدد القتلى من الثوار العزل وجه نداء تاريخيا الى الجنود الايرانيين؛ يا أبنائي لا تقتلونا نحن الشعب الذي يموت لأجلكم فترك الجنود سلاحهم وهربوا الى قراهم، فلا يوجد قلب وطني لا يتفطر من هذا النداء الذي يوجهه أبو الايرانيين الى شعبه.

الخليفة الداعشي أبو بكر البغدادي يقول جئناكم بالذبح ونُصرت بالرعب على مسافة شهر. ثقافة مختلفة تماما.

لا قصائد عبدالرزاق ولا الشعراء الشعبيون القذرون ولا الأناشيد العراقية سنوات الحرب تستطيع الصمود في حضرة هذا الشيخ الهائل. لا قبل لهذه القبائل التائهة بجلال الدين الرومي وهو يلبس تاج الملك، التواضع والعظمة معا.

‏ ‎حرص الغرب منذ البداية ألا تكون للخميني مكانة غاندي أو نيلسون مانديلا أو مارتن لوثر كنغ بسبب موقفه الشجاع من اسرائيل. أرادوا حصاره بالتشويه الإعلامي.

‏‎الرجل الذي رفض الإقامة بقصر الشاه وأصر على بيت ايراني متواضع بطهران وحين وافته المنية تدفق ملايين الناس للصلاة عليه من سادة الناس ورموز المجتمع وقرأ الخامنئي على التلفاز وصية سلفه الخميني "أستأذن شعبي للرحيل الى ربي وسامحوني على تقصيري فرحيل خادم واحد لن يؤثر‎ في السد العظيم لهذا الشعب"

‏‎صلى على الخميني الإمام الكلبايكاني مرجع الحوزة بقم وخلفه بحر متلاطم من الناس. صار قبره مزارا للناس وقبلةً للأحرار واستقر الرجل في تاريخ ايران كعمامة في كتاب الشاهنامة "ملكٌ دون تاج" بينما صدام حسين شنقه شعبه ثم صلت عليه غجرية "ساجدة عبيد" وخلفها جميع الغجر "إن وعد الله حق".

في أيامه الأخيرة نظر الشاه من شرفة قصره، ورأى ما تخلفه الثورة الغاضبة على الجدران، لكأنها أحشاء حيوان عملاق قد التصقت بكل مكان، وقد اتصل جنرال قبل لحظات وقال "يا مولاي القمع لا يفيد، لكأن الرصاص يجتذب الحشود". فأرسل الشاه بطلب عالم الإجتماع الإيراني المعروف إحسان نراغي. جلس الدكتور نراغي في قاعة كبيرة يحدق بسجادة فارسية كبيرة على الأرض، حتى حمله الحاجب إلى غرفة الملك الحزين.

قال الشاه لماذا يكرهونني لقد جعلت طهران باريس الشرق؟ فقال نراغي إنه المذهب الشيعي يا مولاي، أنت ملك ثري، تقيم الإحتفالات الفخمة التي يلمع فيها الذهب، وهم يؤمنون بعلي بن أبي طالب الذي يأكل الخبز اليابس. ويؤمنون برجل آخر من أحفاد علي يدعى المهدي المنتظر، سيأتي آخر الزمان ويحارب لأجل العدل. فقال الشاه "أنا محاصر تماماً إذن، خلفي علي بن أبي طالب، وأمامي المهدي المنتظر". فرد نراغي نعم يا مولاي، الشعب مفتون بالدكتور محمد مصدق، الذي يخرج عليهم بالبيجاما، وأعلن تأميم النفط فأسقطته وكالة المخابرات المركزية الأميركية في انقلاب عسكري. والشعب يحب الخميني الجالس على الأرض تحت شجرة التفاح في فرنسا.

فقال الشاه ماذا حقق مصدق وماذا سينجز الخميني؟ عندها صمت نراغي وأجاب بتردد، إن هناك أشياء غامضة في وجدان الشعوب، وهؤلاء ربما منحوا الشعب ذلك الإحساس بالكرامة الوطنية واحترام الذات.

مفكر انكليزي مايكل اكسوورثي يقول إن أكثر شيء حيره على باب الطائرة الفرنسية قبل إقلاع الخميني من باريس الى طهران عام 1979 هو عندما سأله صحفي فرنسي ما هو شعورك؟ قال له "لا أشعر بشيء"

كيف لا يشعر بشيء؟ ربما يتم استهداف الطائرة وتسقط في المحيط، ربما الملايين بانتظاره في المطار كيف لا يشعر بشيء؟

تذكر أكسوورثي أن الخميني عرفاني و"الانسان الكامل" بحسب ابن عربي هو الذي يتغلب على الشعور الشخصي، يقوم بكل ما يلزم للتغلب على الذات ثم حين يصل الى "الكمال" يصبح العالم كله تحت تصرفه لهذا لم يتفاجأ الخميني حين حملت الجماهير سيارته الى مقبرة شهداء الثورة في بهشتي زهراء فور وصوله.

ويقول المفكر الايراني ولي ناصر صاحب كتاب "الانبعاث الشيعي" إن الذين يتحدثون عن التأثير اليساري في الثورة الايرانية غير مخطئين بسبب افكار علي شريعتي في الثورة الدائمة "كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء" وكذلك بسبب كتابات طالقاني الذي تأثر باليساريين الايرانيين في سجنه لكنهم يجهلون فكرة الخميني الجوهرية فهو استاذ فلسفة ومتأثر بفكرة أفلاطون حول ضرورة أن يقود المجتمع مجموعة من الحكماء "ولاية الفقيه" ومجلس الخبراء.

الشيخ الجالس على التراب تحت شجرة التفاح في فرنسا عاد في النهاية وأصبح ملكا لايران. ومنذ ذلك الحين تغير تاريخ الشرق الأوسط.

أقام بالضجة الدنيا وأقعدها

شيخٌ أطلّ عليها مشفقا حدبا

الجواهري

لا سهير القيسي ولا سحر عباس جميل ولا غيرهما يغير من خطر هذا الخطاب.

ذبحوا نصف مليون شاب عراقي على الحدود الشرقية لأجل أن يدفنوا حكاية الخميني. سعدية الزيدي ترقص وليلى العطار ترسم وسعاد الصباح تتغزل بالجنود

"أنا امرأةٌ قررتْ أن تحب العراق

وأن تتزوج منه أمام عيون القبيلة

أنا امرأةٌ من جنوب العراق

فبين عيوني

تنامُ حضارات بابلْ

وفوق جبيني

تمرُّ شعوبٌ وتمضي قبائلْ

وماذا تريد النساء من الحب إلا

قصيدة شعر ووقفة عزٍّ

وسيفاً يقاتلْ

فكيف أقيم علاقة حبٍّ

إذا لم تُعمّد بماء البطولةْ

وكيف تحبّ النساء رجالاً

بغير رجولةْ"

سميرة سعيد تغني "عراق الكرامة" ورباب تصيح "صادك يا صدام" فاتنات بغداد رقصن على شتائم بذيئة للإمام الخميني. الملك حسين شخصيا بيده يطلق قذيفة مدفع على ايران من الحدود.

السعودية دفعت مئات المليارات من الدولارات وكان الطريق السريع من عرعر يدخل الطحين والرز والأسلحة الثقيلة.

الدنيا انقلبت ليُدفن هذا الخميني الأسطوري على حدود العراق وايران. محمود درويش يسمي صدام حسين "قمر بغداد" ونزار قباني يهتف "رحل الفرسُ وجاء العرسُ" وعبدالرزاق عبدالواحد كتب المعلقات في الحقد القومي

"ألا مَن يشتري موتاً

ألا مَن يشتري غضبا

ألا مَن يشتري للنار

بين ضلوعهِ حطبا"

لوحات ورسومات وروايات والحان وأناشيد. كل هذا حتى يتم وأد الخميني. جريمة شارك فيها جميع العرب. نصب الشهيد وقوس النصر والجندي المجهول.

"الدنيا انكلبت على هذا الشايب"

ثم يأتي كاتب سني عراقي يخرجه كالمارد من المصباح بفركة بلاغة وفكرة لامعة.

هذا هو المحظور والمحذور بعينه "سالفتي محد سواها" ولن تمر بسلام ولا هذا الصمت عن فراغ. أعرف ما فعلت وعدوي يعرف ما فعلت لكن خوفي من بعض الشيعة والحسد على المجد. هذا النداء وحده إسقاط لآل سعود وحكايتهم.

العراقيات افترشن الطرقات في عمان يبعن السكائر ولَم تنفعنا قذيفة الملك التي أطلقها على ايران من حدودنا، والكويت تطالب بتشديد العقوبات على بناتنا بينما بناتهم يتجولن في الشانزيليزيه ولَم تنفعنا قصيدة سعاد الصباح الخسيسة، والسعودية تعوض حصة العراق النفطية وتجني المليارات من الدولارات ولَم ترسل لنا قطعة خبز فذلك الخبز القديم كان مقابل قتال الشيعة للشيعة. والعراقيون باعوا شبابيك البيوت لشراء الدواء وحليب الأطفال والعرب رفعوا اسم بغداد من نشرة الأنواء الجوية سنوات الحصار لأن الشمس لم تعد تشرق ببغداد ولا الغيوم تمطر. وانتصر الجالس على الأرض تحت شجرة التفاح ودخلت صوره شوارع بغداد. سلام الله على روح الله الخميني رحل ولسان حاله بيت المتنبي

شِيمُ الليالي أنْ تشكّكَ ناقتي

صدري بها أفضى أمِ البيداءُ

المصدر:قناة وكالة انباء براثا

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 12 يناير 2020 - 15:59 بتوقيت مكة