هذا الارتفاع المضطرد في درجات الحرارة، قاد لحرائق هائلة في غابات جنوب البلاد تحديدا، وهو الحال الذي أصبح مستمرا، ومتزايدا سنة بعد أخرى في أستراليا.
الأمر ليس جديدا، ولا يقتصر على هذه المنطقة الجغرافية من العالم، فقبل أشهر معدودة، وفي القارة الأوروبية، كانت فرنسا متفردة بدرجة حرارة جديدة سجلتها لأول مرة في التاريخ، وهي 45.9 درجة مئوية، تحديدا في بلدية "جالارجو لو مينتو" الجنوبية، بالنسبة لك قد تجد أن هذا رقم مألوف في الدول العربية، لكن الموجة الحارة (Heat Wave)، بتعريفها، لا تقصد درجة حرارة محددة، وإنما ارتفاع مفاجئ في درجات الحرارة عن معدلاتها في مكان ما بفارق شديد، والفارق هنا يقترب من الضعف كما ترى!
قد تكون الـ 35 درجة مئوية بالنسبة لمكان ما هي المعدل الطبيعي، لكن أن تصل في ألمانيا إلى 38 درجة مئوية، وبولندا إلى الرقم نفسه تقريبا، وفي إسبانيا تتخطى حاجز الـ 40 درجة مئوية، فذلك ارتفاع ضخم عن المعدلات، لدرجة أدّت -ربما لا تصدق ذلك للوهلة الأولى- إلى عدد من القتلى كان بين 30 إلى 50 ألف شخص في موجة الحر الشديدة التي ضربت أوروبا خلال العام 2003، وكلّفت الاتحاد الأوروبي ما مقداره 13 مليار دولار خسائر.
قد تتعجب من تلك الأرقام، لكن لا يعرف الكثيرون أن الموجات الحارة هي إحدى أكثر أدوات القتل رعبا في العالم المعاصر، بالطبع لا يمكن أن يمر حديث عنها إلا ونتذكر الموجة الحارة الهائلة التي ضربت روسيا في العام 2010 وتسببت في مقتل نحو 60 ألف شخص، أما خلال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار سنة 2015 فقد اجتاحت موجة شديدة الحرارة أرض الهند وقتلت 1700 شخص، لم تمر أيام قليلة حتى ضربت موجة شديدة الحرارة باكستان في يونيو/حزيران التالي وقتلت 1300 شخص في كراتشي بشكل رئيسي، ثم توغلت بعد ذلك في البلاد لتقتل 770 شخصا.
ما الذي يحدث على كوكب الأرض؟ لا بد أن هذا السؤال يلح عليك من حين لآخر كلما استمتعت لحدث له علاقة بالتغير المناخي، لكن ربما أيضا تقول لنفسك إن الأمر يتعلق فقط بمنصات التواصل الاجتماعي وانتشارها وأن هذا هو أمر معتاد لكن الأخبار عنه لم تظهر إلا الآن. هذا ليس صحيحا، تلقت أوروبا أعتى 5 هجمات من الموجات الحارة فقط في السنوات العشرين الفائتة (2018، 2010، 2003، 2016، 2002).
في الواقع، قد تتفاجأ أن السنوات العشر الأكثر حرارة في تاريخ قياساتنا لدرجة الحرارة كانت موجودة كلها في السنوات العشرين الأخيرة، أما في العام 2019 فقط فقد كسر بعض الأرقام القياسية الجديدة خلال الموجة الحالية والموجة التي ضربت العالم خلال يناير/كانون الثاني الفائت بحيث كان الفارق في درجات الحرارة في مدينتين بشمال وجنوب العالم هو 100 درجة مئوية!!
في الواقع، فإن ذلك هو أحد أسوأ الأخطاء في الفهم والتي يتبادلها الناس عن التغير المناخي، لأن المناخ -ببساطة- هو منظومة متعقدة، لفهم ذلك دعنا نتخيل أننا قمنا بتصميم مجموعة من الأجراس الإلكترونية بحيث تطلق صافرة ما إن تسمع أي صوت على مسافة 5 أمتار منها، ثم قمنا بتغطية قطعة أرض ضخمة بـ10 آلاف جرس، كل منها على مسافة 5 أمتار من الآخر في كل الاتجاهات، ثم قمنا بضرب جرس واحد فقط، هنا سيؤثر هذا الجرس في المحيطين به، ثم ينتشر التأثير ويتوسع ليشمل كل الأجراس.
تعتمد المنظومات المتعقّدة بشدة على الظروف صغيرة التأثير، هذا هو ما نعرفه جميعا باسم "تأثير الفراشة" والذي يقول، في صورته الأدبية، إن حدثا صغيرا كرفرفة جناح فراشة في الصين قد يتسبب في إعصار بالولايات المتحدة، والقصد هنا هو أن تلك الأحداث الصغيرة تنمو شيئا فشيئا لتؤثر في كل شيء بمحيطها ما يعطيها دفعة أكبر للنمو، وهكذا يستمر النمو حتّى يصبح تأثيرها كارثيا.
المنظومات المناخية كذلك كل نقطة فيها ترتبط بأخرى، وحينما ترتفع متوسطات درجات الحرارة، ولو بقدر يسير، فإن هناك فرصة أكبر لظهور الحالات المناخية الشاذة والمتطرفة، ونعني هنا أشياء مثل الموجات الحارة، والموجات الباردة، والعواصف الرملية، والأعاصير المميتة، إلخ، لفهم تلك النقطة يمكن أن نتأمل دراسة أخيرة، صدرت قبل شهر واحد فقط من جامعة برينستون، تشير إلى أن الموجات الحارة المركبة، أي تلك التي تأتي بشكل مزدوج (موجة حارة تتبعها أخرى)، تتزايد معدلاتها ودرجات قسوتها بتزايد ارتفاع متوسطات درجات الحرارة العالمي.
لهيب لا ينقطع
وأشارت الدراسة، عبر محاكاة حاسوبية لتطور التغير المناخي للأرض، أن ذلك سيضع حتما حملا زائدا على وحدات الطوارئ وتقديم الخدمات الطبية في العموم، كما أن احتياجات الطاقة سوف تتزايد بمقادير خرافية، في الواقع فإن أحد أشهر الأمثلة هو ارتفاع درجات الحرارة في إيران خلال صيف 2018، حيث سجلت بعض المناطق بها ما يقترب من 53 درجة مئوية، أثّر ذلك بشكل مباشر على استهلاك المياه والكهرباء بالبلاد، ما أدّى إلى انقطاعهما لفترات متفاوتة، حيث يسحب ارتفاع درجات الحرارة من الكهرباء ما يقابل 150-200 ميجا وات مقابل كل درجة حرارة زائدة، وكانت إيران قد سجلت في 2 يوليو/تموز 2018 سحبا للطاقة الكهربائية قيمته 56672 ميجا وات، وهو رقم تاريخي!
وكانت دراسة مهمة في هذا النطاق قد نُشرت قبل نحو ثلاثة أعوام في مجلة "ساينز أدفانسز"، تربط بين الارتفاع السريع بمقدار نصف درجة مئوية في متوسط درجات الحرارة بالهند خلال الفترة بين 1960 و2009 وارتفاع معدلات ضرب الموجات الحارة لها بمقدار 50% في بعض المناطق، بذلك ارتفعت احتمالات حدوث حالات الوفاة المرتبطة بالموجات الحارة لتصل إلى 146%، هنا دخلت دول كالهند وباكستان في نطاق يسمى "موجات الحر القاتلة"، ويعني ذلك ارتفاع حالات الوفاة بسبب الموجة الحارة عن 100 شخص.
وكان فريق بحثي من جامعة كاليفورنيا قد توصل إلى النتائج نفسها في دراسة أخيرة، معدلات الموجات الحارة قد ارتفعت بنسبة 50% خلال العقود القليلة الماضية، لكن الأكثر إثارة للانتباه في تلك الدراسة، والتي غطت أكثر من 200 مدينة مما يزيد عدد سكانها على ربع مليون موطن، هو استنتاج غاية في الأهمية يقول إن المدن أكثر تأثرا بالموجات الحارة من القرى، لأن طبيعة المدن تمنع الحرارة من الهروب بسهولة، كل شيء يسخن ثم يهدأ، لكن الجدران الصخرية والمناطق المغلقة والضيقة والمباني تمنع هذا من الحدوث بسهولة، لذلك فإن ليالي المدن في الموجات الحارة تكون حالات خاصة.
خطابات متحمسّة
والأمر ليس بعيدا عنّا، في الحقيقة فإن البلدان العربية أكثر تعرضا للكوارث المناخية من غيرنا، لقد تضاعف بالفعل عدد الأيام شديدة الحرارة مقارنة بما كان الحال عليه في السبعينيات، خاصة في منطقة الخليج الفارسي، وفي محاولة لقراءة مستقبل المنطقة خلال القرن الحالي، حسب دراسة من معهد ماكس بلانك لكيمياء الغلاف الجوي، سنجد أنه سيأتي يوم ما لا تنخفض فيه درجات الحرارة في ليالي الصيف عن 30 درجة مئوية، وستكون الـ 50 درجة مئوية رقما طبيعيا نشهده معظم الصيف، من جهة أخرى تتوقع الأبحاث والنماذج الحاسوبية، والتي بُنيت على دراسة مفصلة لتاريخ تطور درجات الحرارة في السنوات الثلاثين السابقة، أن معدلات الموجات الحارة، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سوف ترتفع 10 مرات أكثر من المعتاد.
لقد كانت السنوات الأربعة الأخيرة هي الأكثر حرارة في البلدان العربية، تكسّرت الأرقام القياسية كموجات بحر على الصخور، لكن الأكثر دعوة للتأمل والاهتمام هو تلك التنبؤات التي تقول إن السنوات الخمس القادمة ستكون أكثر حرارة، حسب دراسة أخيرة في دورية نيتشر صادرة من جامعة ساوثهامبتون الإنجليزية، حيث يُحتمل أن يحتر المناخ بصورة متزايدة لتتكسر أرقام قياسية جديدة، لا يعني ذلك بالطبع أن تتقافز درجات الحرارة حد الاحتراق، لكنه يعني لا شك أن المشكلة ما زالت قائمة ومستمرة ببطء، وهو ما يضيف حملا واضحا على قدرات المناطق العربية في جوانب عدة تبدأ من الأمن الغذائي مرورا بالقدرة على العمل والإنتاج.
ما العمل؟
الإجابة عن هذا السؤال بسيطة، لكن لا أحد يريد التصديق بعد، هناك انفصال مذهل بين ما هو ضروري لتجنب تطور تغير المناخ بشكل خطير وبين ما تم فعله حتى الآن، وفي دراسة أخيرة بدورية نيتشر ظهر أن أحد التأثيرات المهمة على صياغة القوانين التي تحد من المشكلات المناخية هو عمليات الضغط السياسي التي تمنع تمريرها، في الواقع فإن أقوى العوامل في إبطاء خطوات البشرية نحو عالم أقل تأثرا بالتغير المناخي، أو على الأقل عالم يقف عند حد الكوارث الموجودة الآن، هي الضغوط السياسية.
إذا أوقفت أحد علماء المناخ في أي جامعة راقية وسألته عن المتوقع حدوثه فسوف يفتح يديه مجيبا ما يعني "لا أعلم"، لا أحد يأخذ خطوات جدية، الكثير من الاجتماعات الدولية، الكثير من الفنادق المكدسة برجال السياسة الجالسين إلى جوار "أوبن بوفيه" عامر بالملذات، الكثير من الخطابات المعبأة بالتحمس، لكن الخلاصة هي لا شيء، في المقابل من ذلك فإن حالات الشذوذ المناخي تلتهم الكوكب -حرفيا- يوما بعد يوم، هذا ونحن لم نتحدث بعد عن التنوع البيولوجي وحالة الانقراض الواسعة التي تقتل تنوّع الحياة على الأرض بعزم شديد، بينما يجلس بقية مواطني العالم في البيوت، ويتفرجّون!!