حوار حول سورة الأعلى - القسم الثالث

الأربعاء 27 نوفمبر 2019 - 09:32 بتوقيت مكة
حوار حول سورة الأعلى - القسم الثالث

(من الآية السادسة إلى الآية الثامنة) تمهيد: في العدد الماضي، توقف بنا الحوار على الآيات السابقة من سورة الأعلى وفي هذا العدد نكمل الحوار.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى (6) إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)

 

حقيقة العصمة

* كيف نفهم قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ﴾؟

- لا تنفصل رسالات الله عن السياق العام لمسيرة الكائنات. انه الله الذي تشهد الخلائق بقدسه وعظمته؛ يبعث الينا رسولا ويحمله كتابا وهدى؛ فيا سماء اخشعي، ويا أرض قري، ويا ايها الانسان استعد لتلقي رسالة الله اليك والتسليم للرسول الكريم، صلى الله عليه وآله.

 

أَوَلــم يأتك نبأ «حراء» حيث هبـط الروح جبــرئيل على محمد الصــادق الأمين، صلى الله عليه وآله، فقال له: (اقْرَأْ) وتـواصلت آيات اللــه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}، (سورة العلق،1-2)، هكذا أقرأ الله نبيه قراءة واضحة مبينة؛ فلم تكن وساوس في صدره، ولا أفكاراً بقلبه، ولم تكن حقائق مجردة يعرف بعضها ويجهل الكثير. كلا؛ انها كلمات واضحة تلقاها الرسول، صلى الله عليه وآله، ونطق بها بوضوح، وهذا هو معنى إقراء الله له جملة بجملة، وكلمة بكلمة، وحرفا بحرف.

 

وحين يكون المقرئ هو الله والمتلقي من اختاره بعلم لحمل رسالته المهيمنة على كل الرسالات؛ فان الرسول، صلى الله عليه وآله، لا ينسى بأذن الله؛ ليس لأنه يخرج من حد البشر الذي يجوز له النسيان؛ بل لان ربه أبى ان ينسى؛ فالضمانة هنا من عند الله، ومن كان الله ضامنا له كيف ينسى؟! انها حقيقة «العصمة»، كما يفهمها أهل البصائر، وهي ان يقي الله عبدا من عوامل الانحراف ومزالق الضعف ومراكز الهوى والشهوات.

 

مشيئة الله

* ولكن الله - تعالى- استثنى وقال: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}؛ فماذا يشاء الله في المقام؟

- لكي لا يزعم البسطاء من الناس ان الرسول، صلى الله عليه وآله، يصبح بالرسالة إلها أو نصف إله، لم َيدَع كتاب الله هذه التذكرة. في أغلب ما حدثنا عن رسله الكرام انه إما بَيّن نقاط ضعفهم التي يجبرها الله بعصمته، او حالتهم البشرية، أو ان لله المشيئة في أمرهم حتى عند وعده إياهم؛ فلا يقدر أحد ان يحتم عليهم أمرا.

 

بلى؛ ان الله صادق الوعد، ولن يخلف وعده أبدا؛ ولكن فرق واسع بين ان يكون كذلك وان يحتم عليه أحد من خارج إطار فضله ورحمته ومشيئته شيئا.

 

هكذا نستوحي من الآية الكريمة هذه التذكرة: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾.

 

كما قال ربنا سبحانه في قصة شعيب: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}، (سورة الأعراف: 88-89).

 

فهل يشاء الله ان يعود المؤمنون الى ملة الكفر؟ وكما قال ربنا سبحانه في أصحاب الجنة: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، (سورة هود: 108).

 

 

السر والعلن

* إذن ما هي علاقة علم الله بالسر والعلن بهذا الاستثناء؟ حيث يقول ربنا: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ﴾؟

- اننا نجد مثل هذه العلاقة في آية الأعراف في قصة شعيب إذ انه قال: {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}؛ ذلك أن من بيده المشيئة والقدرة على الاستثناء هو العليم الذي لا ينسى، وهو الذي يحفظ النبي، صلى الله عليه وآله، من النسيان، حسب حكمته البالغة.

 

ولعل هذه الكلمة تتصل بقوله (سَنُقْرِئُكَ)؛ فهو يقرئ ما يشاء لأنه عالم الجهر وما يخفى.

 

قرآننا هو هو

* لعل المراد بما شاء الله نسيانه هو ما نسخ من الكتاب نصاً كما ذهب إليه البعض؛ فما رأي سماحتكم؟

- لقد فصل المفسرون القول في هذه الكلمة، وذهب بعضهم مذاهب بعيدة حيث انه قال: ان المــراد بما شاء الله نسيانه هو ما نسخ من الكتاب نصا؛ ولكن الآية لا تدل عليه، ولم يثبت تاريخيا ان في القرآن آية منسوخة (بهذا المعنى من النسخ)؛ بل وسياق آيات القرآن وهذه الآية بالذات ينفي ذلك تماما؛ ولكن كيف؟

 

أولا: ان الله سبحانه يصف كتابه بأنه كتاب عظيم، وانه هدى للعالمين، وانه نور مبين، وانه آخر رسالة إلهية الى خلقه؛ فكيف يسمح ربنا لمثل هذا الكتاب ان يتعرض للدس، والتزوير، والتحريف، والنسيان؟

 

ثانيا: إن النبي، صلى الله عليه وآله، آمن بهذا الكتاب، وآمن به المؤمنون، وآمنوا جميعا بهذه الصفات التي نجدها فيه؛ فكيف تركوه عرضة للنسيان والتحريف؟ علماً بانهم اصبحوا بناة حضارة رائدة؛ فلم يتعرض المسلمون - كمجموع - لحرب إبادة حتى يمكن الافتراض ان ظروف العمل السري أنستهم بعض ما في كتابهم.

 

ثالثا: شاعت القراءة والكتابة في عهد الإسلام الاول، وقد اهتم المسلمون بكل تفاصيل تاريخهم، وحتى ببعض ما يهمله - عادة - الكُتّاب والمؤرخون، وقد رغَّب القرآن في ذلك، وأقسم بالقلم وبما يسطرون؛ فكيف ضاعت عليهم كلمات ربهم مع ذلك الاهتمام الذي أولوه لها؟

 

رابعا: هنا القرآن يقول للرسول، صلى الله عليه واله، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ﴾ فأية حكمة كانت وراء الإقراء وعدم النسيان؟ أليست بقاء رسالة الله التي هي خاتمة رسالاته للعالمين؟ فكيف يمكننا ان نفترض تعرض هذه الرسالة للتحريف؟

 

وإنني اعتقد (والكلام للمرجع المدرسي دام ظله) - انطلاقا من هذه الشواهد وغيرها - ان القرآن الذي بلغنا هوالذي أُنزل من عند الله وبهذا الترتيب، وان الذي جمعه هو شخص الرسول، صلى الله عليه وآله، عبر الذي كان يأمرهم بأن يضعوا الآية في موقعها من السورة حتى ولو نزلت آية في اول البعثة في مكة والأخرى في المدينة وفي آخر أيام حياته.

 

لأنني لا أتصور كيف يمكن للرسول، صلى الله عليه وآله، ان يترك كتاب ربه العظيم بلا ترتيب وقد أُمر بإبلاغه للعالمين!

 

الشريعة اليسرى

* في قوله - تعالى-: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ هل أراد، مثلا، منتهى درجات اليسر؟

- كما قدر الله لكل شيء تقديرا، وهداه الى تقديره؛ كذلك قدر للانسان تقديرا، وجعل لحياته سننا ومناهج ثم هداه اليهما ولكن بصورة مختلفة عن سائر الأشياء والأحياء؛ فلقد زوده بالعقل، واستثار عقله بالوحي، وحمّله الإرادة والمسؤولية، حتى يكتشف ببصيرة عقله وهدى الوحي أي السبل تؤدي به الى أهدافه؛ فان سار على سبل السلام، تيسرت أهدافه، وإذا تنكب عنها، وقع في حرج عظيم.

 

أرأيت الذي يترك الطريق المعبد الــى المتـاهات الوعرة، انه لا يبلغ أهدافه، ولو بلغ شيئا منها فإنما بجهد مضاعف.

 

يقول - تعالى-: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ}؛ فلم يخلق الله الانسان ليعذبه، أو ليلهو ويلعب بخلقه سبحانه، ولكنه خلقه ليرحمه، وليتفضل عليه بمنه وكرامته، كما لم يخلق حيا ليعذبه أو يلهو به، وأما الذي يقع على البشر من عذاب من مشاكل فبما كسبت أيديهم. هكذا فسروا اليسرى بالشريعة السمحاء التي وفق الله النبي، صلى الله عليه وآله، وأمته اليها لكي يعيشوا بأمان وسكينة.

 

انها الشريعة التي تبعث رؤى وبصائر الانسان من وجدانه، وتتناسب مع فطرته وحاجاته، وتنسجم مع الطبيعة من حوله.

 

إن دين الله يختار بين مناهج المعرفة ذلك المنهج القائم على أساس إستثارة الفطرة ومخاطبة الوجدان دون لف ودوران، ويُرَغّب الانسان للنظر بنفسه في الأشياء، وملامسة الحقائق بالسير في الأرض والتفكر في آثار الغابرين ومراقبة ظواهر الطبيعة.

 

ويتبع هذا المنهج في سائر ما يحتاج اليه الانسان من معارف؛ في عقائده وأحكامه، وفي معاملته مع الآخرين؛ لان الاطمئنان والثقة والعرف وشهادة العدول ورأي الخبراء هي موازين التعامل بين الناس، وهي إذا قيست الى غيرها من المناهج المعقدة في سائر الأديان سهلة وميسرة.

 

كما ان احكام الدين في المواقيت والمكيال والميزان تتصل بالحالة الطبيعية للانسان. أرأيت كيف أوجب الصلاة قبل طلوع الشمس وبعد الغروب وعند دلوكها، وأوجب الصيام مع الهلال الذي يشهده الجميع؟

 

ولم يهمل أي حاجة من حوائج البشر؛ فلا حَرّم الزواج، ولا نهى عن زينة الحياة الدنيا، ولا ضيع العواطف، ولا أهمل تطلعات الروح، وأي شريعة ايسر من التي تتناسب وحاجات البشر!

 

ولعل هذا هو سر انتشار الاسلام عبر القرون بصورة مطردة، ولا يزال الدين الاسلامي هو الاول في نسبة زيادة عدد المنتمين اليه كل عام.

 

وقد وفق الله رسوله، صلى الله عليه وآله، لتقبل الوحي، ويسره له، ويسر معارف القرآن لمن أراد بتوفيق منه، ولولا ان الله يسر ذلك لما استطاع العقل معرفة كلمة واحدة من كلمات الرب.

الكاتب: سيد جواد الرضوي

المصدر: مجلة الهدى الثقافية

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأربعاء 27 نوفمبر 2019 - 09:15 بتوقيت مكة