وفي يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة وكما يرويه لنا الشيخ المفيد بقوله: «لما انتشر الإسلام بعد الفتح وقوي سلطانه، وفد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوفود، فمنهم من أسلم ومنهم من استأمن ليعود إلى قومه.. وكان فيمن وفد عليه أبو حارثة أسقف نجران في ثلاثين رجلاً من النصارى، منهم العاقب والسيد وعبد المسيح، فقدموا المدينة وقت صلاة العصر، وعليهم لباس الديباج والصلب، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم: «لستم على شيء» وقالت لهم اليهود: «لستم على شيء» وفي ذلك أنزل الله سبحانه:
«وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء».
فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العصر توجهوا إليه يقدمهم الأسقف، فقال له: «يا محمد، ما تقول في السيد المسيح؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «عبد الله اصطفاه وانتجبه، فقال الأسقف: «أتعرف له يا محمد أبا ولده»؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يكن عن نكاح فيكون له والد»، قال: «فكيف قلت إنه عبد مخلوق، وأنت لم تر عبدا مخلوقا إلا عن نكاح وله والد»؟ فأنزل الله تعالى الآيات من سورة آل عمران إلى قوله: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(سورة آل عمران، الآية: 61). انتهى كلام المفيد رحمه الله.
إذن فما أن وصل صراع الحق والباطل وصراع العقل والجهل إلى طريق مسدود واصر أهل نجران على إلوهية المسيح عليه السلام جاءت الساعة المرتقبة، ونزل الأمر الإلهي إلى نبيه الكريم ان ينتهج مع هؤلاء المعاندين أسلوباً أخر من الحوار، أسلوباً ليس فيه مجاملة ولا مداهنة، أسلوباً لو كتب له أن يتحقق ويستمر لأهلك الباطل وفضح أهله، وتواعد الطرفان على أن يكون اليوم الرابع والعشرون من شهر ذي الحجة هو يوم الفصل، وموعد المباهلة، وهاهم نصارى نجران يداورون الفكر ويتبادلون المشورة قبل أن تتفجر فيها براكين الأرض زلزالها لتهلك منهم الكبير وتفني الصغير، ليبقوا آية تتلى وعبرة يعتبر بها أصحاب العقول على مر الأيام. فالمباهلة هي القول الفصل في نهاية الجدل وقد اختارها الله لنبيه واختار له الأشخاص الذين يؤمنون على دعائه.
وانطلقت الأبصار ترقب الجهة التي كان يخرج منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي ترقب الثغر الباسم والجبين المشرق والوجه الأغر... يا لجلا الله.. هو ذا رسول الله ووجهه يشع بالنور، يا لعظمة الحق وجلال الإيمان.
فها هو ذا يحتضن الحسين ويمسك بيمناه الحسن وخلفه بضعته الزهراء مغشاة بملاءة من نور الله، وهذا علي يمشي خلفها باهر الجلال، يرتدي بردة من مهابة الله.
نصارى نجران يرفضون المباهلة
لما رأى نصارى نجران ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج معه للمباهلة أهل الكبر والشدة من أتباعه، ولا أهل الغنى والمال والثروة من أصحابه، ولا أهل الجاه الدنيوي من أتباعه، وإنما جاء بالأعزة من أهل التخشع وبقية الأنبياء وصفوة الصفوة المختارة، رجع بعضهم إلى البعض الآخر متسائلاً والخوف من هذه الشموس تملأ القلوب، وجعلوا يلتمسون المخرج من ورطتهم هذه التي ستجلب عليهم الندامة والهلاك، وهم الذين ما زال كلام صاحبهم يدوي في أذانهم، وذلك لأن واحداً من ذلك الوفد قال لهم يا قوم: «إن بأهلنا ـــ محمد ـــ بقومه بأهلناه، فانه ليس بنبي، وان باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله فانه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادق» فما أن رأى القوم أهل بيت النبي بين يديه حتى فزعوا وجبنت قلوبهم، وقال الأسقف: أرى وجوها لو سأل الله بها أحدا أن يزيل أحدا من مكانه لا زال، أفلا تنظرون محمدا رافعاً يديه ينظر ما تجيبون به وحق المسيح إذا نطق بكلمة لا نرجع إلى أهل ولا إلى مال، وجعل يصيح بهم:
ألا تنظرون إلى الشمس قد تغير لونها، والأفق تنجع فيه السحب الداكنة، والريح تهب سوداء وحمراء، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان، لقد أطل علينا العذاب.. قالوا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): نعطيك الرضا فأعفنا عن المباهلة، فصالحهم على الجزية وانصرفوا خائبين خاسرين وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده ان الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولأضطرم عليهم الوادي نارا، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا».
لذلك قال علماؤنا باستحباب صوم «يوم المباهلة» حيث يصام شكرا على ظهور نبينا «صلى الله عليه وآله وسلم» على الخصم وما حصل فيه من التنبيه على فضل علي عليه السلام، واختصاصه بما لم يحصل لغيره من الكرامة الموجبة، لاخبار الله أن نفسه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ماذا يمكن أن يستفاد من حادثة المباهلة
من الضروري أن نقف هنا موقف المعقب على هامش المباهلة علنا نخرج مع القارئ الكريم ببراهين متنوعة اكتنفت هذه الحادثة العظيمة، والتي أشار علماؤنا الأعلام إلى كثير منها في كتبهم ومؤلفاتهم، وفيما يلي بعض تلك الأزهار التي يمكن للمؤمن قطافها من بستان المباهلة.
1. إن تعيين شخصيات المباهلة ليس حالة عفوية مرتجلة، وإنما هو اختيار إلهي هادف وعميق الدلالة... وقد أجاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما سئل عن هذا الاختيار بقوله: «لو علم الله تعالى أن في الأرض عبادا أكرم من علي وفاطمة والحسن والحسين لأمرني أن أباهل بهم، ولكن أمرني بالمباهلة مع هؤلاء فغلبت بهم النصارى».
2. لو حاولنا أن نستوعب مضمون المفردة القرآنية [أنفسنا] لاستطعنا أن ندرك قيمة هذا النص في سلسلة الأدلة المعتمدة لإثبات الإمامة، إذ أن هذه المفردة القرآنية تعتبر علياً عليه السلام الشخصية الكاملة المشابهة في الكفاءات والصفات لشخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء النبوة التي تمنح النبي خصوصية لا يشاركه فيها أحد مهما كان موقعه ومنزلته، فالإمام علي عليه السلام انطلاقاً من هذه المشابهة الفكرية والروحية هو المؤهل الوحيد لتمثيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ي حياته وبعد مماته لما يملكه من هذه المصداقية الكاملة.
3. قال محمد بن أبي طلحة الشافعي: «فانظر بنو بصيرتك إلى مدلول هذه الآية وترتيب مراتب عبارتها، وكيفية اشارتها إلى علو مقام فاطمة عليها السلام في منازل الشرف وسمو درجاتها، وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وجعلها بينه وبين علي عليهما السلام تنبيها على سر الآية وحكمتها، فإن الله عز وجل جعلها مكتنفة من بين يديها ومن خلفها ليظهر بذلك الاعتناء بمكانتها، وحيث كان المراد من قوله [أنفسنا] نفس علي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعلها بينهما، إذ الحراسة بالإحاطة بالأنفس أبلغ منها بالأبناء في دلالتها».
4. وإدخال الحسن والحسين هما في المباهلة كما قال ابن علان المعتزلي: «يدل على أنهما مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين. ولو لم يكونا إمامين لم يحتج الله بهما مع صغر سنهما على أعدائه. ولو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد من يقوم مقامهم غيرهم لباهل بهم أو جمعهم معهم، فاقتصاره عليهم يبين فضلهم ونقص غيرهم. وقد قدمهم في الذكر على الأنفس ليبين عن لطف مكانهم وقرب منزلهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس معدون بها، وفيه دليل لا شيء أقوى منه، أنهم أفضل خلق الله».
5. قال أبو بكر الرازي معلقا على قوله تعالى: «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ»، هذا يدل على أنهما ابنا رسول الله وان ولد الابنة ابن علي الحقيقة.
المصدر: مكتبة العتبة الحسينية المقدسة