علاج الحواجز النفسية للتقريب بين المذاهب الاسلامية عند الشهيد الصدر

الأحد 14 إبريل 2019 - 14:40 بتوقيت مكة
علاج الحواجز النفسية للتقريب بين المذاهب الاسلامية عند الشهيد الصدر

العالم الإسلامي – الكوثر: إن من الحقائق التي يجب أن لا نغفلها، هي أن أحد أهم جوانب مسألة التقريب بين المذاهب الاسلامية جانب نفسي موروث تلقّته الاجيال من دون دراسة أو مناقشة تتيحان التحرّر منه والانطلاق من بوتقته نحو جوّ من التأمل والمعالجة الموضوعية، الامر الذي أدى الى تراكم الكثير من الحساسيات التي شكّلت عقبة كبيرة في طريق محاولات التقريب.

 

الشيخ محمد رضا النعماني *

 

جذور الخلاف بين أهل السنة والشيعة تعود في جانبها الاكبر الى عامل نفسي، والامام الشهيد الصدر رغم قصر عمره الجهادي مارس ألوان الجهود لازالة هذا الحاجز النفسي. هذه الممارسة نلحظها في خطابه الى العراقيين، وفي استناده الى مصادر أهل السنة الحديثية والفقهية في دراساته، وفي معالجته لقضية على غاية من الحساسية المذهبية مثل قضية فدك.

 

لا نستهدف بهذا البحث إيجاد حلول ومعالجات للخلافات العقائدية والفقهية والسياسية – الممتدة الجذور عبر التاريخ – بين الفرق والمذاهب الاسلامية من خلال مناقشة علمية وموضوعية لمختلف المواضيع والقضايا التي هي محلّ خلاف بين المسلمين، والاستدلال على ماهو حق منها والاتفاق عليه ورفض ماعداه.

 

إن فكرة من هذا القبيل لو أتيحت لها الظروف الموضوعية والاجواء المناسبة لأمكنها أن تزيل الكثير من الخلافات المستعصية بين المذاهب الاسلامية، وهو الاتجاه الذي تبنّاه الامام السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره) في محاوراته ومؤلفاته كالمراجعات، والنص والاجتهاد، ومسائل فقهية، والتي حاول فيها معالجة المسائل الخلافية العقائدية والفقهية والتاريخية معتمداً في ذلك على صحاح المذاهب الاسلامية لاثبات أن مايعتقده أتباع مدرسة أهل البيت له جذور قوية ومتينة في أصول ومصادر المذاهب الاسلامية الاخرى.

 

ويجب أن نعترف أن أساليب المعالجة والنقاش حتى وإن اتسمت بأعلى درجات الموضوعية والصراحة لا تنتهي الى الايجابية المطلوبة لأن جذور الخلاف في أكثر الاحيان جذور نفسية والحواجز تأخذ نفس الطابع. وفي ظل هذا الوضع لا يمكن الوصول الى مامن شأنه تمهيد الاجواء لبناء الامة الواحدة المتفقة على الحد المطلوب في رؤيتها العقائدية والفقهية والتاريخية.

 

ومع ذلك لايجوز أن تتحطّم آمالنا وطموحاتنا في توحيد أمة التوحيد على صخرة اليأس، وأن لا نسعى الى التمسك بحبال الايمان باللّه ورسوله وكتابه في جوّ نفسيّ نقيّ، مصممين فيه على أن مايمكن أن نتفق عليه من خلال البحث العلمي والمعالجة الموضوعية يجب أن نؤمن ونعمل به حتى وإن خالف قناعاتنا الموروثة. وما لا يمكن أن نتفق عليه لايجوز أن نجعل منه عقبة في طريق بناء الوحدة الاسلامية في ظل خاتمة الرسالات والنبوات.

 

إن من الحقائق التي يجب أن لا نغفلها، هي أن أحد أهم جوانب مسألة التقريب بين المذاهب الاسلامية جانب نفسي موروث تلقّته الاجيال من دون دراسة أو مناقشة تتيحان التحرّر منه والانطلاق من بوتقته نحو جوّ من التأمل والمعالجة الموضوعية، الامر الذي أدى الى تراكم الكثير من الحساسيات التي شكّلت عقبة كبيرة في طريق محاولات التقريب.

 

ويجب أن لا نغفل أن السياسة لعبت دوراً كبيراً – على امتداد التاريخ – في تعميق الفجوة النفسية بين أتباع تلك المذاهب، فتارة تصوّره على أنه خطر يستهدف القضاء على أتباع هذا المذهب أو ذاك، وأخرى على أنه عقيدة لا يجوز التنازل عنها وهكذا.

 

ولو تصفّحنا أوراق التاريخ لوجدنا أن الكثير من الدماء سفكت بسبب سياسات الحكّام في إطار تعميق الخلافات المذهبية وإخراجها من إطارها العلمي والفقهي الى الوضع الاصعب المتمثل بالحواجز النفسية والروحية، وتسخيرها لمصحة الحكام وليس لمصلحة الاسلام والامة الاسلامية.

 

وفي هذا البحث المقتضب أحاول أن أستعرض اهم الخطوات التقريبية التي خطاها الامام الشهيد الصدر (رضوان اللّه عليه). ومع أن يد الاجرام حرمت منه الامة في وقت مبكر جداً، فلم يتح له أن يمارس دوره الكامل في تطبيق أفكاره ومشاريعه التي منها توحيد الامة وتجميع صفوفها. فان نزراً يسيراً قد عرفناه عن تلك الأفكار والمواقف والتصورات أعطانا رؤية واضحة عن هذا الجانب في موقفه من عملية التوحيد والتمسّك بعرى الاسلام والايمان.

 

ويجب أن نؤكد مرة أخرى على أنه يجب اعتبار حركة الامام الشهيد الصدر في هذا المجال حركة تتّسم بأهمية خاصة بحيث يحق لها أن تتصدّر الخطوات الايجابية الاخرى التي بدرت من علماء المسلمين الواعين من السنة والشيعة، وذلك لما يتمتع به الامام الشهيد الصدر من موقع لدى الشيعة، ولما يمثل من شموخ وتبحّر في عالم المعرفة الاسلامية والبشرية، وكذلك الظروف السياسية والاجتماعية وأجواء الحوزات والمرجعيات التي قد لا تتقبّل انفتاحا كبيراً بهذه الدرجة.

 

وحينئذ يجب أن ندخل هذه الحقائق في حسابنا عند دراستنا لخطواته التقريبية الجادة والهادفة بين المسلمين.

 

إن أهم خطواته العملية والتي تعتبر رائدة في هذا المجال يمكن تلخيصها بمايلي:

 

اولاً – من الملاحظ أن الامام الشهيد الصدر لم يقتصر في مؤلّفاته على الكتب الشيعية فقط بل اعتمد كذلك على كتب أهل السنة ومصادرهم معتبراً “الفقه الاسلامي” كياناً واحداً مع مافيه من تعدد الاجتهاد والمذاهب، فمثلاً اعتمد في كتاب اقتصادنا في محاولته لبلورة النظام الاقتصادي الاسلامي على مجموعة من المصادر الاسلامية السنية، منها: كتاب الاحكام السلطانية للماوردي [٣]. وكتاب المغني لابن قدامه [٤]، وكتاب الأُم للشافعي [٥]، وكتاب المحلي، لابن حزم [٦]، والمدونة الكبرى [٧]، مواهب الجليل للحطاب [٨]، ونهاية المحتاج للرملي [٩]، والمبسوط للسرخسي [١٠]، والفقه على المذاهب الاربعة [١١].

 

وغيرها من المصادر السنية.

 

ولم يكن (رحمه الله) بصدد نقاش الآراء الفقهية للمذاهب الاسلامية، وإنما كان بصدد اكتشاف هيكلية النظام الاقتصادي الاسلامي.

 

ومع ذلك فنحن لا ننكر أن المصادر وطرق الاستنباط للاحكام الشرعية تختلف بين مدرسة أهل البيت وبين المذاهب الاسلامية الاخرى، سواء في القيمة العلمية للرأي الفقهي، او في قيمة وحجة المصادر الروائية والفقهية، ومع ذلك فاننا على صعيد الواقع ننتهي الى نتيجة واحدة.

 

إن هذا اللون من التفاعل الايجابي والتعامل العلمي يجعل السني يشعر بأنّ لرأيه الفقهي أهمية وموقعاً عند أخيه الشيعي، وكذلك العكس. فيؤدي في النتيجة الى روح التفاعل والانفتاح ويعزز روابط الاخوة، ويصدّع من قوة الحواجز النفسية.

 

ثانياً – أصدر الامام الشهيد الصدر (رضي الله عنه) بياناً وجّهه الى الشعب العراقي (عام ١٩٧٩م) وكا وقتها محتجزاً من قبل السلطة وذلك قبل استشهاده بعدة أشهر، حمل العبارات التالية:

 

“أيها الشعب العظيم، إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر…. “.

 

“وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الامة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء حين دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تضمهم جميعاً…. “.

 

وفي مقطع آخر يقول: “فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي…. إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا الى أبنائنا البررة من السنة أن المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضدّ العدو المشترك.

 

وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمر: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني، إن الحكم السني الذي مثّله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الاسلام والعدل، حمل عليٌّ السيف للدفاع عنه إذ حاب جندياً في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الاول أبي بكر، وكلّنا نحارب عن راية الاسلام، وتحت راية الاسلام مهما كان لونها المذهبي.

 

إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الاسلام قد أفتى علماء الشيعة – قبل نصف قرن – بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الاسلام ومن أجل حماية الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الاسلام…. ” [١٢].

 

ومما لا ريب فيه أن هذه الوثيقة تعتبر من أهم الوثائق التي يمكن أن تساهم في معالجة الحواجز النفسية بين أبناء الامة الاسلامة وذلك لأن السيد الشهيد الصدر حينما أصدر هذا البيان كان قد صمّم على الاستشهاد في سبيل اللّه لايمانه بأنّ المرحلة الجهادية والسياسية تتطلب ذلك، وقد فصّلنا ذلك في كتاب سنوات المحنة وأيام الحصار الامر الذي يجعل كل باحث موضوعي يدرك أن الامام الصدر لم يقصد المجاملة أو المحاباة بل كان يهدف حقاً الى معالجة مشكلة الفُرقة والتشتت من جانب، وتوحيد الامة في إطار الاسلام من جانب آخر.

 

وإذا لاحظنا جذور أسباب المشكلة نجد أن أهمها هو الموقف من الخلفاء الراشدين، فالمسلم السني يرى فيهم مثلاً ونموذجاً جسّد القيم والمبادئ الاسلامية، ويرى الشيعي أن اجتهادات بعض الخلفاء أو مواقفهم تنافي الخط الاسلامي الذي يعتقد بصحته ويتمسّك به على أساس أنه الخط الذي يمثل المسيرة النبوية، ويرى مثلاً أن كل اجتهاد في مقابل النص على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) اجتهاد مرفوض لا يحمل قيمة دينية، في حين يرى السني أنه جهد علمي اجتهادي للفقيه فان أصاب المجتهد فله أجران وإن أخطأ فله أجر.

 

وعلى هذا الاساس – وهو الجزء الاكبر من العلة – بدأت الحواجز النفسية تتصاعد وتتعمق مدعومة بجهود الحكّام الذين عمّقوها الى أبعد الحدود، وبدأت تنخر في صميم الكيان الاسلامي العام.

 

وما من شك أن علاج هذه القضية يحتاج الى زمن طويل وجهود مكثّفة من الطرفين، إلا أن هذا لا يمنع من التوافق على احترام كلا الطرفين لعقيدة الآخر وآرائه السياسية وغيرها والوصول ولو الى الحد الادنى من الوفاق والتوحّد. وفي هذا الضوء أعتقد أن الامام الشهيد الصدر سار بهذا الاتجاه، فلم يجعل الاختلافات المذهبية مبرراً لعدم التوحّد، فنراه قد اعتبر نفسه وكيانه ملكاً للمسلم السني كما هو للمسلم الشيعي فيقول: “وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الامة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء…”.

 

ويقول: “فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي”.

 

ومما لاشك فيه أن لهذا التخاطب الابوي والاخوي أثراً إيجابياً فعّالا في تمزيق الحاجز النفسي وتبديد قوته، فما أجمل أن تجد الامة – بمختلف مذاهبها – قائداً شيعياً بل علماً من اعلامها يخاطب الجميع بروح الابوة والاخوة فيقول: أنا لكم جميعاً.

 

وذكر ثانياً أن الخلاف العقائدي والسياسي في إطار الدين لايجوز أن يحول دون التعاون والتكاتف في سبيل خدمة الاسلام والدفاع عنه. واستشهد لذلك بمثالين:

 

الأول ماكان في صدر الاسلام حيث قال: “حمل علي السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الاول أبي بكر…. “.

 

وذكر مثالاً آخر من التاريخ الحديث وذلك حينما تعرّض الحكم العثماني لضربات الانجليز فوقف علماء الشيعة الى جانب الحكم العثماني وأفتوا بوجوب الدفاع عنه لأنه رافع لراية الاسلام فقال: “إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الاسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمعهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الاسلام…. ” لماذا؟ لان الهدف “أن نحارب عن راية الاسلام وتحت راية الاسلام مهما كان لونها المذهبي”.

 

والموضوعية تقتضي أن نعترف أن هذا الخطاب المفتوح والصريح لا يحل مشكلة الخلافات المذهبية بين المسلمين، ولكنه يشكل البوابة الكبيرة التي يمكن الدخول من خلالها والقضاء على المشكلة النفسية وفتح آفاق الحوار الموضوعي للاتفاق ولو على الحد الادنى من الوفاق والائتلاف.

 

ثم بيّن (رضوان اللّه عليه) أن من أهم أسباب تعميق الخلافات وتهويلها هو الاتجاهات السياسية والقادة الذين تحكمهم مصالحهم الخاصة فقال: “إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا الى أبنائنا البررة من السنة أن المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضدّ العدو المشترك، وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني…”.

 

ومن المؤكّد أن الامام الشهيد الصدر قد لا يؤمن بالكثير من اجتهادات الصحابة أو مواقفهم من مختلف القضايا ويعتبرها اجتهاداً في مقابل النص والتي منها: الموقف من قضية النص على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، فهو يعتقد أنه الوريث الحقيقي للنبي، والحارس الامين لمسيرة الاسلام من بعده. إلا أن هذا الاعتقاد لم يجعله في موقف الرافض للكيان الآخر، ولم ير في ذلك مبرراً لعدم توحّد الامة تحت راية “لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه” العقيدة التي أجمعت الامة على الايمان بها.

 

ثالثاً – كَـتَب السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) في أوائل شبابه بحثاً عن فدك أسماه فدك في التاريخ عالج فيه قضية فدك علاجاً موضوعياً فريداً.

 

ولعل أهم ماميّز البحث في إطار ما نحن فيه من معالجة الحواجز النفسية الامور التالية:

 

١ – لم يستعمل (رضي الله عنه) عبارات من شأنها جرح عواطف ومشاعر السنة، فنراه يعبّر عن الخلفاء بعبارات مناسبة اعتادوها عند ذكرهم لهم، راجع على سبيل المثال الصفحات التالية من فدك في التاريخ، ٢٦، ٤٤، ٥٩، ٧٣، ١٥٠، وهو يريد أن يعبّر عن الاسلوب الامثل في كيفية التخاطب بعيداً عن كل ما من شأنه تفريق المسلمين أو جرح مشاعرهم أو الاساءة الى معتقداتهم.

 

٢ – تعتبر قضية فدك من القضايا الحساسة وتتمتع بأهمية خاصة لدى اتباع اهل البيت. وقد بحث هذا الموضوع على امتداد التاريخ الكثيرُ من علماء المسلمين سنة وشيعة. ومن ملاحظة كل ذلك نجد أن الموقف من فدك متباين حتى لدى الخلفاء أنفسهم،

 

وقد لخّص الامام الشهيد الصدر ذلك فكتب عنها مايلي: “فدك قرية في الحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل: ثلاثة. وهي أرض يهودية في مطلع تاريخها المأثور – الى أن يقول – وابتدأ بذلك تاريخها الاسلامي فكانت ملكاً لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لأنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ثم قدّمها لابنته الزهراء وبقيت عندها حتى توفي أبوها (صلى الله عليه وآله) فانتزعها الخليفة الاول (رضي الله عنه) على حد تعبير صاحب الصواعق المحرقة وأصبحت من المصادر المالية العامة وموارد ثروة الدولة يومذاك، حتى تولّى عمر الخلافة فدفع فدكاً الى ورثة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) الى أن تولّى الخلافة عثمان بن عفان فأقطعها مروان بن الحكم على ماقيل، ثم يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرّح عنها بشيء، ولكن الشيء الثابت هو أن امير المؤمنين علياً انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلافة عثمان كسائر مانهبه بنو أمية في أيام خلافتهم…. ” [١٣].

 

ثم إن التاريخ الذي أعقب الخلافة الراشدة وتولّي معاوية بن أبي سفيان ومن بعده من خلفاء آل أبي سفيان يحمل نفس التذبذب في الموقف من فدك فتارة تُسلّم لورثة الزهراء (سلام اللّه عليها) وأخرى تنتزع منهم وهكذا [١٤].

 

وبدأ السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) دراسة هذه القضية، فعالج جوانبها المختلفة علاجاً تاريخياً وفقهياً وعقلياً وبروح موضوعية من دون جرح للمشاعر، أو استفزاز لأحد. وقبل أن يبدأ بالمعالجة اشترط على نفسه وعلى كل مؤرخ وباحث التزام التحرر من القيود التي من شأنها طمس الحقائق أو تشويشها فيقول: “فاذا كنت تريد أن تكون حراً في تفكيرك، مؤرخاً لدنيا الناس لا روائياً يستوحي من دنيا ذهنه مايكتب فضع عواطفك جانباً، أو اذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فانه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك أن تكون أميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج”٢.

 

عالج الامام الصدر قضية فدك من الجذور وما أحاط بها من ملابسات وتداخلات سياسية ومواقف قد تعتبر ثأرية، وهو لا يختلف من حيث النتيجة عما عُرف عن موقف أتباع مدرسة أهل البيت من أن فدك كانت نحلة للزهراء فاطمة (عليها السلام) وأنها انتزعت منها انتزاعاً. وقد ناقش فصول الموضوع جميعاً وأشبعها تحليلاً.

 

فمثلاً حين يأتي الى مناقشة حديث “إني سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول: انا معاشر الانبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً لكنما نورث الايمان والحكمة والعلم والسنة”، أو “إنا لا نورث، ما تركناه صدقة” يناقش الموضوع بعيداً عن كل اثارة او جرح للعواطف والمشاعر فيتساءل عن “مقدار تأكد الخليفة من صحة الحديث الذي رآه دالاً على نفي توريث التركة النبوية واطمئنانه الى سماع ذلك من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وثباته عليه…” [١٦]، ولماذا “أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك لفاطمة…”؟ [١٧].

 

ويعزز هذه الرؤية بـ “أن أبا بكر أوصى أن يدفن الى جوار رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ولا يصح ذلك إلا إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونياً في الموضوع واستأذن ابنته في ان يدفن فيما ورثته من أرض الحجرة – إذا كان للزوجة نصيب في الارض وكان نصيب عائشة يسع ذلك – ولو كان يرى أن تركة النبي (صلى الله عليه وآله) صدقة مشتركة بين المسلمين عامة للزمه الاستئذان منهم، وهب أن البالغين أجازوا ذلك فكيف بالاطفال والقاصرين ممن كانوا في ذلك الحين…؟ ” [١٨].

 

ثم تساءل بروح وجدانية وفقهية عن السبب الذي جعل “الخليفة لم ينتزع من نساء النبي بيوتهن ومساكنهن التي كنّ يسكنّ فيها في حياة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فما عساه يكون سبب التفريق الذي أنتج انتزاع فدك من الزهراء وتخصيص حاصلاتها للمصالح العامة وإبقاء بيوت نساء النبي (صلى الله عليه وآله) لهن يتصرفن فيها كما يتصرف المالك في ماله؟ حتى تُستأذن عائشة في الدفن في حجرتها أكان الحكم بعدم التوريث مختصّاً ببضعة النبي (صلى الله عليه وآله) أو إن بيوت الزوجات كانت نحلة لهن؟ ! فلنا أن نستفهم عما أثبت ذلك عند الخليفة ولم تقم بينة عليه ولا ادعته واحدة منهن…” [١٩].

 

ثم ناقش صيغ حديث “إنا معاشر الانبياء لا نورث” هل تدل على أن تركة النبي حقّاً لا تورث، أو إن له مداليل أخرى قدت دل عليه نقاط التخلخل والضعف فيه وتجعله غير قادر على المواجهة العلمية المعروفة لدى الفقهاء عند معالجاتهم للنصوص الروائية؟

 

أقول: ليس هدفنا عرض ماجاء في كتاب فدك في التاريخ بل الهدف هو أسلوب معالجة مشكلة من أهم المشاكل التاريخية والعقائدية علاجاً فقهياً ومنطقياً، محافظاً في ذلك على المستوى الاخلاقي الرفيع والامانة التاريخية والابتعاد عن كل ما من شأنه إثارة الاحقاد والعداوات [٢٠].

 

ولا أعتقد أن أحداً – سنياً كان أم شيعياً – لا يستسيغ هذا اللون من النقاش الموضوعي والمعالجة العلمية، فالحكمة ضالة المؤمن ينشدها أينما وجدت، والموضوعية هي المقدّمة الضرورية التي من دونها تفقد حركة البحث عن الحكمة هديها، وهي في منهج الامام الشهيد الصدر يجب أن تكون مقرونة بالخُلق الاسلامي الرفيع، ففدك بما ترمز اليه، والموقف منها سواء كان إيجابياً أم سلبياً لا يخلق مبرراً لخلافات تخرج عن إطارها الى حد القطيعة والفرقة الكراهية، ويجب أن تطوّق الخلافات – العقائدية والتاريخية والفقهية وغيرها – ضمن حدودها في ظل احترام الرأي والرأي المقابل.

 

وأعتقد أن أسلوب الامام الشهيد الصدر في المعالجة استكمل الشروط الموضوعية والاخلاقية إضافة الى ما اتسم به من شفافية وانفتاح، وفوق ذلك كله الخلق الرفيع الذي من شأنه تحطيم أقوى الحواجز والعقد النفسية التي كانت ولاتزال تشكّل أكبر عقبة في طريق توحيد أمة التوحيد.

 

هذه إلمامة سريعة ومتقضبة عن خطوات للامام الشهيد الصدر، وهي وإن كانت مقتضبة ومحدودة بحكم الفترة الزمنية القليلة التي عاشها الشهيد إلا أنها تكشف عن أفق رحب في إطار السعي لتوحيد الامة الاسلامية.

 

إن دارسة هذا الجانب من فكر الامام الشهيد الصدر تحتاج الى قدر من الشمولية والتوسّع لتكون دراسة مستوفية وشاملة نستقصي فيها جميع الخطوات التي بدرت منه في مجال التقريب وتوحيد الامة، والمفروض أن يتصدّى لذلك أهل الاختصاص والمعرفة لأننا اليوم بأمس الحاجة الى من يجمع كلمتنا ويوحّد صفوفنا.

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

**- من علماء النجف، يسكن في قم حالياً.

٣ – اقتصادنا / ٤٤٣ و ٤٧٤.

٤ – اقتصادنا / ٧١٤.

٥ – اقتصادنا / ٤٦٢.

٦ – اقتصادنا / ٤٥٩.

٧ – اقتصادنا / ١٩٥.

٨ – اقتصادنا / ٥٠٨.

٩ – اقتصادنا / ٥١١…

١٠ – اقتصادنا / ٥٧٩.

١١ – اقتصادنا / ٦١٤.

١٢ – من بيان مسجل بصوته (رضي الله عنه).

١٣ – فدك في التاريخ / ٢٦.

١٤ – لمزيد من التفصيل راجع كتاب فدك في التاريخ / ٢٧ – ٣٠.

١٥ – فدك في التاريخ / ٣٥.

١٦ – فدك في تاريخ / ١١٢.

١٧ – فدك في التاريخ / ١١٣.

١٨ – فدك في التاريخ / ١١٤.

١٩ – فدك في التاريخ / ١١٦ – ١٢٤.

٢٠ – صحيح أن الشهيد الصدر قدم في كتابه هذا أفضل مَثَل على الروح العلمية والموضوعية لمعالجة مسألة حسّاسة طالما استغلت لإثارة النعرات الطائفية بين السنة والشيعة. غير أنه ارتفع الى أعظم من هذا المستوى حين لم يتطرق في كل دراساته التالية الى مسألة خلافية بين المسلمين، بل ركز على مشتركات الامة الاسلامية، وماتواجهه من تحديات في مجال العقيدة والمجتمع والاقتصاد ونظام الحكم. وارتفع أكثر في خطابه الأخير الى الشعب العراقي كما بيّن الباحث. ولذلك لا نستبعد مارواه بعض تلاميذه أنه أوصى بعدم إعادة طباعة كتاب: فدك في التاريخ. رغم عظمة أسلوب الكتاب في المعالجة (التحرير).

 

موقع الاجتهاد

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 14 إبريل 2019 - 14:40 بتوقيت مكة