تختصر صورة الأسد وهو يعانق مرشد الجمهورية الإسلامية، السيد علي خامنئي، الكثير من الرسائل إلى كلّ من يعنيه الأمر. من ضمنها أن سوريا لن تدير ظهرها للذين وقفوا إلى جانبها في أخطر اللحظات التاريخية، وأن خياراتها المستقبلية لن تختلف عما كانت عليه في ذروة المواجهة مع الجماعات الإرهابية، وأنها لن تحيد عن حقيقة أنها ركيزة أساسية في محور المقاومة الممتد من طهران إلى بيروت.
وبالمقارنة مع ما كانت عليه السيناريوهات بداية الأحداث السورية، والرهانات التي عقدتها تل أبيب وواشنطن والعديد من العواصم الإقليمية، يجسد اللقاء «قمة المنتصرين». وهو ما يفاقم التحدي في تل أبيب، التي تعزّزت مخاوفها من مفاعيل أحد أخطر السيناريوهات التي سلكتها التطورات، والتي لم تكن تتوقعها.
تأتي الزيارة، بما تحمله من رسائل، في ذروة المسعى الإسرائيلي إلى إخراج إيران من سوريا، وبدت نتائجها ورسائلها كما لو أنها تبديد للأوهام التي تراود المسؤولين الإسرائيليين، وإحباط للضغوط التي تمارسها تل أبيب من خلال اعتداءاتها، في هذا الاتجاه. ويُتوقع أن تحسم تساؤلاتهم حول مستقبل الخيارات الاستراتيجية السورية، في ضوء الضغوط السياسية الدولية والإقليمية، والأمنية الإسرائيلية، على دمشق وعلى الرئيس الأسد.
من ضمن الرهانات التي كانت تحضر في خلفية مواقف القيادة الإسرائيلية، أن مواصلة الضغوط على النظام السوري قد تدفعه إلى الارتماء في أحضان الطرف الروسي، على حساب علاقاته الاستراتيجية مع طهران. لكن الزيارة وتوقيتها وسياقاتها أكدت مرة أخرى حكمة الأسد وشجاعته في نسج علاقات متوازنة مع الطرفين. ومما يتيح له مواصلة هذا المسار أن كلّاً من روسيا وإيران هما في أكثر المراحل التاريخية تقاطعاً في مواجهة الهيمنة الأميركية. فكلاهما يتعرض للضغوط والعقوبات من واشنطن، وكلاهما يرى في سياسات أميركا تهديداً لنفوذه وأمنه القومي، وقد أثبت تحالفهما في مواجهة الإرهاب أن مواصلة التنسيق بينهما كفيل بتحقيق المزيد من الإنجازات الاستراتيجية.
يادلين: الروس سيحاولون إعادة تشكيل قواعد العمل الاستراتيجي
مشكلة "إسرائيل" أنها عندما تبنّت خيار طرق أبواب موسكو، كان ذلك بالدرجة الأولى بسبب ضيق خياراتها، وأن البدائل كانت مكلفة جداً، وغير مضمونة النتائج. في الوقت نفسه، فإن انكفاء الولايات المتحدة فرض عليها أن تكون أكثر إصغاءً لموازين القوى الإقليمية، وهو ما دفعها إلى مواصلة الرهان على البوابة الروسية، على أمل أن يساهم ذلك في الحدّ من تفاقم المخاطر الاستراتيجية عليها.
في هذه الأجواء، تصبح مفهومة دعوة العديد من المراقبين في "إسرائيل" إلى قراءة الرسالة الكامنة خلف زيارة الرئيس السوري جيداً. ومن هنا، يتوقع أن تكون هذه الرسالة قد حضرت بقوة في خلفية مواقف نتنياهو خلال وجوده في موسكو، وفرضت نفسها على حساباته منذ ما قبل إقلاعه من مطار بن غوريون. وليس من الصعوبة أيضاً تقدير مدى رهانه على ما سيتلقاه من أجوبة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
مع ذلك، أتت زيارة نتنياهو في سياق إقليمي جعلها بحدّ ذاتها مطلباً ملحّاً بالنسبة إلى الطرفين الروسي والإسرائيلي، كلّ من موقعه وبلحاظ مصالحه. فقد بلغ مسار الاعتداءات الإسرائيلية مرحلة مفصلية، لجهة أنها لم تحقق الأهداف المرجوة منها في ما يتعلق بإخراج إيران من سوريا، أو حتى ثني دمشق ومحور المقاومة عن مشاريع بناء القدرات الاستراتيجية وتطويرها. وهو ما وضعها أمام محطة مفصلية على مستوى اتخاذ القرارات. ويمكن بسهولة ملاحظة المسار التصاعدي المدروس في التعامل السوري مع الاعتداءات الإسرائيلية، والذي يثير تحذيرات متزايدة في تل أبيب من مفاعيله. وهذا ما أجمله مرافق نتنياهو، الوزير زئيف ألكين، بالقول: «نحن متمسكون بموقفنا، ومن الواضح أن هذا ليس سهلاً. النظام (السوري) استقرّ، والوضع أصبح معقداً جداً. نحن سنواصل الحوار مع الروس للمضي قدماً في مصالح "إسرائيل"، وهذا ليس سهلاً من ناحية الروس، لكن لم نغير مسلكنا. تعزيز سيادة واستقرار النظام يزيد الضغوط من روسيا لتقليص حرية عملنا».
في المقابل، يبقى رهان نتنياهو على ما قد يحصل عليه من تفهّم روسي للهواجس الإسرائيلية، وهو تفهم قائم بذاته من حيث المبدأ. ومن هنا، كان كلامه بالأمس للرئيس الروسي عن أن «إيران وتوابعها يشكلون الخطر الأكبر على الاستقرار والأمن في المنطقة. فنحن مصممون على مواصلة عملنا الحازم ضد محاولات إيران، التي تدعو لإبادتنا، للتموضع عسكرياً في سوريا». لكن المشكلة بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، أنه مع عودة سيطرة الدولة السورية، والثوابت التي يلتزمها الرئيس الأسد، ترتفع المخاطر الناتجة من استمرار الاعتداءات، في ظلّ التخوف من أن يؤدي ذلك إلى التضييق على تل أبيب. وحول هذا الأمر، لفت رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، اللواء عاموس يادلين، إلى أن الاعتداءات الإسرائيلية منذ ما بعد سقوط الطائرة الروسية في أيلول الماضي باتت محصورة في الجنوب السوري ومطار دمشق.
أما بالنسبة إلى موسكو، فهي تتخوف من تطور ميداني دراماتيكي يترك آثاراً سلبية على مشروعها في الساحة السورية. وهي تدرك جيداً المرحلة الحرجة التي بلغتها التطورات. وبهدف تفادي أي سيناريو تفجيري، تسعى إلى لعب دور أساسي لضبط الصراع القائم بين محور المقاومة وإسرائيل. وعلى هذه الخلفية، أتى كلام بوتين لمضيفه الإسرائيلي عن أن «المطلوب هو المفاوضات، والحديث عن الوضع في المنطقة وعن المسألة الأمنية». لكن هذا الكلام الدبلوماسي يستبطن معاني أكثر خطورة. وهو ما التقطه يادلين بالقول إن نتنياهو «زار روسيا عدة مرات، لكن هذه الزيارة الأولى التي تبدأ في أجواء صعبة»، معتبراً أن «الروس سيحاولون إعادة تشكيل قواعد العمل الاستراتيجي»، وأن «نتنياهو يريد إبعاد الإيرانيين، وسيخبره الروس أنهم لا يريدون، ولا يستطيعون».
أمام هذا المشهد، بات الجميع يدركون أن مسار التطورات بلغ مرحلة مفصلية. وهو ما دفع الجميع إلى إظهار المزيد من التصميم في السعي نحو أهدافه. من جهته، يهدف نتنياهو إلى محاولة تكريس هامش استمرار اعتداءاته في سوريا. لكن، في المقابل، أتت زيارة الأسد مدوية في دلالاتها، وحاسمة في رسائلها، وليس من المبالغة القول إنها قد تكون محطة تأسيسية لمرحلة جديدة من مواجهة التحديات المقبلة.