قراءة في كتاب ”الأزهر والشيعة: التقريب الإسلامي في القرن العشرين لـ راينر برونر“

الثلاثاء 26 فبراير 2019 - 13:38 بتوقيت مكة
قراءة في كتاب ”الأزهر والشيعة: التقريب الإسلامي في القرن العشرين لـ راينر برونر“

أفكار ورؤى – الكوثر: يصِفُ الكتاب المراحِل المختلفة لحوار التقريب بين السُنَّة والشيعة خلال القرن العشرين، مُستعرِضًا فترات النجاح قصير الأجل التي حققها ذلك الحوار، فضلًا عن السجالات الضارية، والمتبادَلة؛ التي تولَّدت عنها بشكلٍ حتمي. كذا تُولي هذه الدراسة عناية خاصة لدور مؤسسة الأزهر في ذلك الحوار وعلاقاتها مع علماء الشيعة، بوصفها أكثر مُمثلي الإسلام السُني أهمية. إذ ارتبط الاعتماد المتبادَل للحجاج الكلامي والدوافع السياسية، للطرفين المتحاورين؛ بأهمية استثنائية، خصوصًا فيما يتعلَّق بأهمية التقريب الإسلامي للسياسة الخارجية المصريّة إبّان خمسينيات القرن العشرين.

 

يؤكد الكاتب في شؤون الأزهر، راينر برونر، في كتابه «الأزهر والشيعة: التقريب الإسلامي في القرن العشرين»، أن العلاقة بين عبدالناصر ومدرسة التقريب شهدت بعض التوتر على خلفية الصدام مع جماعة الإخوان، إلا أن لقاء جمع بين عبدالناصر والداعية الشيعي «محمد تقي القمي»، في عام 1956، أسفر عن رفع المراقبة عن مدرسة التقريب، بعد التأكد من ابتعاد المدرسة الفكرية عن ممارسة أية أمور سياسية.

يستند کتاب راینر برونر الذي نشرته تنویر للنشر والإعلام مؤخراً، وهو في الأصل دراسة أكاديمية لنيل درجة الدكتوراه يستند إلى عملٍ بحثيٍ مكثف وواسع.

ينقسم الكتاب إلى مقدمة، وعشرة فصول، وخاتمة، وينتهي بقائمة شاملة ومفيدة للمصادر الأولية والثانوية. ورغم أن الجزء الأكبر من الكتاب قد كُرِّسَ لدراسة تاريخ جماعة التقريب بين المذاهب، والتي تأسست في القاهرة على يد مجموعة من العلماء وأهل الرأي السنة والشيعة في الأربعينيات؛ فإنه لا يقتصر على ذلك.

إذ يعالج هذا الكتاب، بالغ الأهمية؛ موضوعاً لم يلق عناية كافية من قبل. فرغم المحاولات السنية الشيعية المستمرة طوال القرن العشرين للتقارب وإيجاد أرضية مشتركة، فليس هناك عمل واحد مكرس لدراسة هذه المحاولات والنتائج التي نجمت عنها. لهذا، فإن کتاب برونر يملأ فراغًا طال أمده في حقل دراسة الإسلام الحديث.

والكتاب لا يعالج العلاقات السنية مع كل الطوائف الشيعية، بل يقتصر على الطائفة الشيعية الاثني عشرية والتي تشكل أغلبية المسلمين الشيعة. وكما كل المواريث الدينية؛ تمتد جذور العلاقات السنية الشيعية إلى التصور الجمعي للتاريخ. ومن هنا، فإن کتاب برونر يبدأ بفصل تمهيدي طويل، يعيد بناء تاريخ الحقبة المبكرة للإسلام وسياق الاختلاف السني- الشيعي.

ويبدو واضحاً في معالجة برونر أن هذا الخلاف لم يبدأ (كما هو حال الانقسامات الطائفية المسيحية مثلًا) من نزاع حول التصور الصحيح للأنظمة العقدية، بل من نزاع حول أحداث معينة، هي في جوهرها ذات طبيعة سياسية، وحول التصور الصحيح للماضي. ولذا؛ ففيما يتعلق بالمسائل العقدية، العبادات والطقوس والمفاهیم.. إلخ؛ فإن الخلافات السنية – الشيعية وليدة عملية تراكُم تاريخي لاحقة.

بيد أن ما تتجاهله معالجة برونر للسياق التاريخي للخلافات السنية الشيعية هو الفارق بين رؤيتي السنة والشيعة وتصورهم لأنفسهم. فمنذ القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، ووقوع ما أسماه مارشال هدجسون (بانتصار العالمية السنية)؛ أخذ الشيعة يسلكون مسلك الطائفة، مسلك المجموعة الخاصة، بينما رأى السنة أنفسهم كجسم جامع للإسلام: الأمة الإسلامية.

وقد وصل التطور الطائفي للشيعة اكتماله في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، في أعقاب الغزو المغولي للمشرق والعراق وتدمير بغداد والخلافة العباسية. وخلال الفترة التكوينية للتشيع، كانت الرواية الشيعية الاثنا عشرية في جلها موجهة ضد الفرق الشيعية الأخرى.

ولكن مع بروز الصفويين في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي؛ اكتسب التشيع نزعة مناهضة للسنة بالغة التطرف والعنف، عززتها مصالح الدولة الصفوية وقادها الحكام الصفويون والعلماء الاثنا عشریون المرتبطون بهم. فتعهَّد الصفويون سلسلة من الإجراءات البشعة للقضاء على التسنن، في البلاد الواقعة تحت سيطرتهم؛ والتي استمرت حتی بعد سقوط السلالة الصفوية في عام (۱۷۲۲م).

لكن نجاح الصفويين في القضاء على السنة اقتصر على المنطقة المركزية من الإمبراطورية، المنطقة التي يقطنها الفرس والتركمان – الآذريون؛ أما في أطراف الدولة في مناطق الأكراد والبلوش والأفغان؛ فقد استمر الوجود السني مهيمنًا.

كانت هذه الخلفية هي ما دشَّن المحاولة الأولى لتحقيق مصالحة وتقارب سنيةشيعية، فخلال العقود القليلة التالية لسقوط الصفويين، نجح نادر خان الأفشاري (الذي عرف بعد ذلك بنادر شاه)، الزعيم القبلي بالغ الشراسة والعنف؛ نجح في توحيد الإمبراطورية الصفوية المتناحرة، بما في ذلك المناطق ذات الأكثرية الشيعية والسنية.

ولوعيه بالعداء الطائفي العميق بين الشعوب الواقعة تحت حكمه وعواقب هذا العداء على الاستقرار الداخلي، إضافة إلى إدراكه للارتباط الأسطوري بين التشيع وشرعية السلالة الصفوية، وسعيه إلى منع الصفويين استعادة الحكم؛ عمل نادر شاه على وضع نهاية للانقسام السني۔ الشيعي.

ففي عام (1743م)؛ عسکر نادر شاه بقواته قرب مقام الإمام علي في النجف، حيث استدعى عددًا من العلماء السنة والشيعة الممثلين لمختلف الشعوب الواقعة في نطاق سيطرته. كما أرسل للوالي العثماني في بغداد يطلب إرسال أحد كبار علماء الولاية كي يشهد الاجتماع التاريخي.

ولأن نادر شاه كان يأمل في أن ينعکس مشروعه التقريبي على التوتر المزمن في العلاقات الفارسية العثمانية؛ فإن دعوته لأحد علماء بغداد لم تكن دعوة بريئة. وقد أوفدت بغداد بالفعل الشيخ عبد الله السويدي، القاضي الحنفي للولاية؛ وهو الذي ترك لنا مذکرات قصيرة لرحلته تُعَدُّ المصدر الرئيس لأحداث لقاء النجف ومناقشاته.

كان نادر شاه حاکمًا مخيفًا، فلم يجرؤ أي من العلماء المتواجدين في اللقاء على مخالفته. ولكن مشروع نادر شاه کان أبعد مما يمكن تحقيقه. إذ بدلا من أن يحاول التقريب بين السنة والشيعة بالتعامل مع القضايا محل الخلاف؛ استهدف نادر شاه توحيد أتباع الطائفتين مرة واحدة. وقد شهد اللقاء بالفعل بعض المبادرات الإيجابية من علماء الطرفين، كما انتهى إلى اتفاق مکتوب.

ولكن اغتيال نادر شاه لاحقًا، وعودة الفوضى إلى ملکه؛ أودع مشروعه التوحيدي في سجلات التاريخ. فلا السلطات العثمانية كانت على استعداد للتعامل مع مساعي نادر شاه بجدية ولا العلماء الذين جمعهم في لقاء النجف كانوا ممثلين كافين للطائفتين؛ لاعلى مستوى العدد ولا على مستوى المكانة العلمية، ولا حتى أظهروا ما يكفي للاتفاق مع الطرف الآخر. وما كان للخلافات الطائفية المتجذرة في التاريخ أن تُحَلَّ بإرادة حاکم طاغية.

ولكن القضية الرئيسة التي تمحورت حولها مساعي الاتفاق في لقاء النجف، والتي يمكن تلخيصها في توقف الشيعة عن ممارسة الطقوس التي يراها السنة منافية للشرائع الإسلامية، بينما يقبل السنة بالشيعة كمذهب خامس من _المذاهب الإسلامية – أمست الهدف الرئيس لجهود التقريب الإسلامي في القرن العشرين.

ثم لم تسجل أية محاولة جادة للتقريب خلال القرن ونصف القرن التالي لنادر شاه. ولكن راینر برونر يخطئ في تقديره لأثر التهديد الإمبريالي الذي شرع العالم الإسلامي بمواجهته في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

فعلى خلاف ما يسجله برونر؛ شهدت تلك الحقبة تقاربًا ملموسًا بين السنة والشيعة، بما في ذلك التفاف المسلمين السنة والشيعة في البلدان العثمانية حول الدولة ومعاركها ضد القوى الغربية، سواء في البلقان أو في ليبيا أو في العراق. وقد ساهم صعود حركة الجامعة الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في حدوث تقارب مطرد في العلاقات العثمانية – القاجارية.

وكلما اشتدت وتيرة الاختراقات الغربية الإمبريالية لبلدان المسلمين؛ تصاعد الإحساس لدى السنة والشيعة بالتهديد الغربي للدين ولنمط حياتهم. هذا الشعور المشترك بالخطر وحَّد العراقيين، سنة وشيعة؛ في مواجهة الغزو البريطاني للعراق العثماني إبان الحرب العالمية الأولى، كما في الثورة العراقية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني في عام (۱۹۲۰م). وبعد انتهاء الحرب الأولى، وانهيار السلطنة العثمانية، ومن ثم إلغاء الحاكم التركي الجديد مصطفی كمال أتاتورك للخلافة؛ تنافس عدد من الحكام المسلمين على كرسي الخلافة.

وقد شهدت العشرينيات من القرن الماضي تدافعا حادًا لإحياء الخلافة في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، وأصبح کسب تأييد المسلمين الشيعة جزءا من استراتيجيات المتنافسين الرئيسين على المكانة التاريخية والقوة الرمزية المرتبطة بمنصب الخلافة، ولكن لم تظهر جهود ملموسة للتقريب قبل عقد الثلاثينيات.

وقبل التطرَُق إلى مناقشة هذه الجهود؛ یُکَرِّس برونر فصلًا كاملًا لمناقشة واحد من أكثر الكتب إشكالية في تاريخ العلاقة بين السنة والشيعة في العصر الحديث: (المراجعات) لمؤلفه المرجع الشيعي اللبناني عبد الحسین شرف الدين (۱۸۷۳- ۱۹۵۷م)، وقد نشر للمرة الأولى في عام (۱۹۳۹م).

ومذّاك احتل هذا الكتاب، وما يزال، حيزًا مهمًا في الجدل السني – الشيعي. فمن جهة يتكون (المراجعات) من نص جدلي يستهدف الانتصار للرؤية الشيعية لتاريخ الإسلام، ومن جهة أخرى شكك كثير من المسلمين السنة في مصداقية الإطار الذي وضع فيه الكتاب.

وقد صيغ الكتاب في صورة أجوبة توضيحية، كتبها شرف الدین ردًا على أسئلة وجهت إليه من عالم سني كبير. ومن المفترض أن كلا من الأسئلة والأجوبة حملتها رسائل متبادلة بين العالمين، السني والشيعي. ورغم أن الإصدار الأول للكتاب لم يوضح هوية العالم السني؛ فقد شاع في الأوساط الشيعية اللبنانية القريبة من شرف الدين أن المقصود هو شيخ الأزهر في مطلع القرن العشرين: سليم البشري ( ۱۹۱۷۱۸۳۲ م). وقد عاد شرف الدين في كتابه (النص والاجتهاد)، الصادر في عام (1956م)؛ ليسجل صراحة أن العالم السني المقصود في (المراجعات) هو بالفعل سليم البشري.

ويميل برونر إلى وجهة النظر المشككة في حقيقة بناء (المراجعات) على أساس من أسئلة البشري وإجابات شرف الدين، وذلك بعد تحلیل تاريخي تفصيلي لحياة الأخير وتحليل نصي لكتابه .

فزيارة شرف الدين المفترضة إلى مصر، والتي التقى في أثنائها سليم البشري؛ جرت بين أكتوبر/تشرين أول (۱۹۱۱م) وأبريل/نيسان (۱۹۱۲م). وطبقا لكتاب شرف الدين؛ شهدت هذه الشهور الستة (۱۱۲) رسالة بين الطرفين، كان آخرها قبل عودة شرف الدين إلى بلاده بقليل.

لكن كتاب (المراجعات) في الحقيقة لايعكس حوارا بين الطرفين؛ بل أسئلة قصيرة موجهة من السني، صِیغَت بخضوع کامل واستعداد للتلقي من (المعلم) الشيعي، وتقبل لمقولاته. بل إن الكتاب ينتهي، من دون جدل فعلي؛ بموافقة العالم السني على جملة الرواية التاريخية التي يطرحها شرف الدين للإسلام.

وتكمُن الإشكالية في أن سلیم البشري يعتبر واحدا من أكثر شيوخ الأزهر محافظة في القرن العشرين؛ إذ كان قد تولى المشيخة للمرة الأولى بين عامي (۱۸۹۹- ۱۹۰۳م)، وتركها لاعتراضه على الإصلاحات التي أراد معسکر محمد عبده إدخالها على الأزهر. وقد عاد البشري لتولي المشيخة في عام (۱۹۰۹م)، بعد أن خفت الجدل حول الإصلاح. وفي عام (۱۹۱۱م)، عندما جرت المراسلات التعليمية المفترضة بينه وبين شرف الدين؛ كان البشري في الثمانين من عمره. فكيف يُعقَل لهذا العالم السني التقليدي المحافظ أن يقبل بالوقوف موقف المتلقي من عالم شيعي شاب (كان شرف الدين آنذاك شابًا مغمورًا في الثلاثينيات من عمره)؛ ثم ينتهي إلى الموافقة على مقولاته كلها؟

بيد أن هناك ما هو أكثر إشكالية. فبالإضافة إلى أن أسرة البشري أعلنت مرارا أنها لم تجد في أوراق الشيخ سليم ما يشير إلى وجود مراسلات بينه وبين شرف الدين؛ فإن سيرة الأخير تُثير أسئلةً حول الأصل الذي ارتكز إليه نص (المراجعات). إذ إن بيت شرف الدين ومكتبته بمدينة صور تعرضًا للنهب والتدمير على يد الجنود الفرنسيين في عام (۱۹۲۰م)، عقابًا له على معارضته الاحتلال الفرنسي؛ وحينها فرَّ شرف الدين إلى دمشق (قبل معركة ميسلون).

وطبقا لشرف الدين؛ فإن عشرين كتابا مخطوطا من كتبه قد أحرقت في تلك الحادثة. ورغم أن مصادر حياة شرف الدين لم تشر إلى وجود مخطوط باسم (المراجعات) بين أعماله قبل ثلاثينيات القرن العشرين؛ فالواضح أن (المراجعات) لم يستند إلى أصلٍ مکتوب (لا رسائل ولا نسخة مخطوطة) بل إلى ذاكرة مؤلفه وهو ما اعترف به شرف الدين لاحقًا.

وقد تمت إعادة البناء المفترضة هذه بعد مرور ربع قرن على زيارة شرف الدين للقاهرة، وعقدين كاملين على وفاة الشيخ البشري. وكل هذا بالطبع يثير الشكوك حول مصداقية رواية شرف الدين للسياق الذي ولد فيه الكتاب. وما يزيد هذه الشكوك أن “المراجعات” كتب في صيغة مشابهة تماما لكتاب العالم الشيعي المعاصر لسقوط بغداد في يد المغول، علي بن موسی بن طاووس (المتوفی ۱۲۹۹م)، (کشف المحجة)؛ وللهدف ذاته.

في عام (۱۹۳۱م)، دعا مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني؛ إلى عقد مؤتمر إسلامي جامع لمناقشة القضية الفلسطينية والصراع المتصاعد على فلسطين. وقد التأم المؤتمر، الذي يعتبر الأول من نوعه في تاريخ الجامعة الإسلامية في نهاية العام نفسه بمدينة القدس، إذ التحق به ما يزيد على مائة من العلماء وقادة الرأي من أنحاء العالم الإسلامي كافة. وقد شهد المؤتمر تمثيلا شيعيا قويا، بحضور المرجع الشيعي العراقي محمد حسين آل کاشف الغطاء ورئيس وزراء إيران السابق ضياء الدين طباطبائي. وفي استعراض قوي ومؤثر للوحدة؛ ڈعی کاشف الغطاء لإلقاء خطبة الجمعة وإمامة المجتمعين في الصلاة الحاشدة بالمسجد الأقصى.

بيد أن القاهرة، لا مؤتمر القدس؛ هي التي ستشهد انطلاق حركة التقريب. فمنذ أدارت تركيا الكمالية ظهرها للعالم الإسلامي؛ برزت مصر باعتبارها أكثر الدول الإسلامية تأثيرا، سواء في الحقل الثقافي أو السياسي. وفي أكتوبر تشرين الأول (۱۹۳6م)؛ وصل إلى القاهرة في زيارة قصيرة الشيخ عبد الكريم الزنجاني، العالم الشيعي من أصل إيراني والمقيم في مدينة النجف العراقية.

وقد التقى الزنجاني شيخ الأزهر آنذاك، مصطفى المراغي؛ أهم تلاميذ محمد عبده وأكثر علماء الأزهر نفوذًا وتأثيرًا. كان الزنجاني مهتما باستكشاف طرق ووسائل للتقريب بين السنة والشيعة بينما كان المراغي، طبقا لبرونر؛ يحاول مدّ نفوذ مصر العربي والإسلامي وإحياء مؤسسة الخلافة في القاهرة.

ورغم أن مراسلات الزنجاني والمراغي استمرت بعد عودة الأول إلى النجف؛ فلم يسفر هذا الجهد المبكر عن نتائج ملموسة. إذ لم یکن الزنجاني يعتبر من علماء الشيعة الكبار، وما من مؤشر على أن نشاطه في حقل التقريب كان مدعوما من أي من المراجع الرئيسين آنذاك. وبعد سنوات قلائل، في عام (۱۹۳۹م)؛ زار القاهرة عالم إيراني آخر هو الشيخ محمد تقي القمي، ضمن وفد إيراني مرافق لولي عهد إيران محمد رضا بهلوي، والذي حضر للزواج من الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق.

وخلال وجوده في القاهرة؛ سعى القمي هو الآخر للقاء الشيخ المراغي، كما التقى عددا آخر من علماء الجناح الإصلاحي في الأزهر. وبعد وفاة المراغي، ظل القمي محتفظا بصلته بمجموعة من العلماء المصريين، مثل عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت وعبد المتعال الصعيدي. وأخيرا، وفي يناير/كانون الثاني (۱۹47م)، في أثناء ولاية الشيخ مصطفى عبد الرازق لمشيخة الأزهر؛ تمخّضَت جهود القمي عن تأسيس جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة.

كان مفهومًا ضمنيًا أن القمي يحظى بدعم وتأييد آية الله بروجردي، مرجع الشيعة الأكبر آنذاك. ومع تأسيس الجماعة؛ صار لمساعي التقريب مؤسسة دائمة للمرة الأولى، لا تحظى فقط بتأیید عالم مثل بروجردي، بل وتعمل في ظل واحد من أهم وأكثر مراكز الإسلام السني احترامًا، الأزهر الشريف؛ ممثلًا بشيخه مصطفى عبد الرازق وآخرين من كبار علمائه.

وقد استهدفت جماعة التقريب تشجيع التبادُل الفكري بين العلماء السنة والشيعة، ودعم تدريس الفقه الجعفري في جامعة الأزهر، وتطوير مناخ من التعارف والمصالحة بين عموم السنة والشيعة. ورغم أن الجماعة وضعت في حسبانها توظيف وسائل عدة لتحقيق غاياتها؛ فقد كانت مجلة (رسالة الإسلام) هي أهم هذه الوسائل. بل ارتبط تاريخ الجماعة ومسارها، إلى حد کبیر؛ بتاريخ المجلة ومصيرها.

وقد بنت الجماعة علاقات متفاوتة القوة مع عدد من العلماء والكتاب وأهل الرأي، السنة منهم والشيعة؛ لا سيما في مصر ولبنان والعراق، وساهم أكثر هؤلاء في الكتابة لمجلة (رسالة الإسلام). ولكن ما إن ارتقى الشيخ المحافظ محمد الخضر حسین کرسي المشيخة؛ حتى فَتُرَتْ علاقة الجماعة بالأزهر. إذ عَيَّنَ الخضر حسين الصحفي محب الدين الخطيب، المعروف بتوجهاته السلفية وعدائه للشيعة؛ رئيسا لتحرير مجلة الأزهر، فحوَّل المجلة بين عشية وضحاها إلى منبر مناهض لمشروع التقریب کله. وفي عام (۱۹۵۸م)، أصبح الشيخ محمود شلتوت، أحد العلماء المرتبطين بفكرة التقریب منذ انطلاقهاء شيخا للأزهر.

وقد بادر شلتوت إلى تعيين أحمد حسن الزيات لرئاسة تحرير مجلة الأزهر، بدلا من الخطيب؛ وكان الزيات معروفا بتأييده لفكرة التقريب. وهكذا، مرة أخرى؛ تغيرت حظوظ جماعة التقريب إلى الأفضل، وقد استطاعت الجماعة في تلك الآونة تحقيق واحد من أهم إنجازاتها على الإطلاق.

كان الشيخ شلتوت قد أكَّد على تبنيه للتقريب بين السنة والشيعة في عدد من المقابلات الصحفية التي أجريت معه في النصف الأول من عام (۱۹۵۹م). لكن الخطوة الأهم كانت ما تمخَّضت عنه مقابلة الشلتوت مع صحيفة (الحياة) اللبنانية، نشرت في (۷ يوليو/تموز ۱۹۵۹م). وقد تناولت الفقرة الأبرز من حديث الشیخ شلتوت عدم فرض الإسلام على أتباعه الالتزام بمذهب معين؛ فلكل مسلم الحق في اتباع أي المذاهب الفقهية التي انتقلت إلى المسلمين بالطرق الصحيحة، ودوِّنَت قواعدها تدوينًا سليمًا. ويمكن للمسلم الذي يقلد أيًا من هذه المذاهب الانتقال إلى تقلید مذهبٍ آخر، دون أن يتعرض للومٍ. ثم صرّح مُضِيفًا بجواز التعبد بالمذهب الجعفري، مثله مثل أي من المذاهب السنية.

لقد استبطن موقف شلتوت مؤثرات سلفية إصلاحية، وقناعة عميقة بمشروع التقريب. والحقيقة أن الأغلبية العظمى من العلماء السنة المؤيدين لفكرة التقريب، من المراغي إلى مصطفى عبد الرازق؛ كانوا علماء سلفيين إصلاحيين. ومن جهة أخرى، فإن أشد الأصوات مناهضة للتقريب، مثل محب الدين الخطيب؛ كانت هي الأخرى ذات خلفية سلفية. وتدَلَّلَ هذه الظاهرة على التعقيد والتنوع المتنامي في الساحة السلفية الحديثة.

وكما يلاحظ راینر برونر، محقًا، أنه ما من عالم سني، ناهيك أن یکون شيخًا للأزهر؛ قد ذهب إلى المدى الذي بلغه شلتوت في اعترافه بمذهب الشيعة. لقد كان واحد من الأهداف الأساسية لجماعة التقريب هو العمل على نقل التشيع من خانة الطائفة إلى المذهب الفقهي الإسلامي. وقد بدا شلتوت وكأنه يمد يد عونٍ قوية ومؤثرة لتحقيق هذا الهدف الكبير. لكن الأزهر ليس الفاتيكان، کما أن الإسلام السني لا يعترف بسلطة دينية موحدة. وهكذا، فبرغم الحماس الشيعي الواسع في استقبال موقف شلتوت؛ لم یکن هذا الموقف ملزما لكل المسلمين السنة. ولم یکن لهذا الموقف، بالتالي؛ أن يبدِّدَ شكوك العديد من الدوائر السنية تجاه الشيعة الاثني عشرية.

ويُسبِغ هذا الكتاب عناية فائضة على السباق السياسي (وللدوافع السياسية للشخصيات الرئيسة) لحركة التقريب. فبالنسبة إلى برونر؛ ارتبطت مبادرات المراغي التقريبية بسعيه لتأمين مقعد الخلافة لمصر، وكان جهد القمي التقريبي في أربعينيات القرن العشرين نتيجة للتطور السريع في العلاقات بين العائلتين المالكتين في مصر وإيران. أما موقف شلتوت غير المسبوق في تاريخ العلاقات السنيةالشيعية فيقرأه الكتاب في سياق الصراع المتصاعد بين مصر الناصرية ونظام عبد الكريم قاسم في العراق، ومحاولة عبد الناصر اجتذاب شيعة العراق إلى دائرة النفوذ والتأثير المصري.

وعندما تدهورت العلاقات بين القاهرة وطهران، على خلفية من اعتراف شاه إيران بالدولة العبرية في عام (1960م)، انهارت جماعة التقريب، كما انهارت مجلتها؛ وتوقف نشاطها تقريبًا طوال العامين التاليين. ثم استأنفت الجماعة عملها بعد ذلك بصورة متقطعة. وقد بذلت بعض الجهود لإحياء المشروع من جديد إبان عقد السبعينيات، في ظل العلاقات الدافئة التي ربطت السادات بشاه إيران.

والحقيقة أن تحلیل برونر لا يَصِح إلا بصورة جزئية؛ إذ إن السباق السياسي لا يمنحنا تفسيرا لتدهور علاقات جماعة التقريب بالأزهر طوال معظم الخمسينيات، رغم أن الضباط الحاكمين في القاهرة كانوا (ولأسباب عديدة) مؤیدین لفكرة التقريب. والسؤال المهم الذي كان على الكتاب أن يتعرَّض له هو هل كان بوسع عبد الناصر دفع شيخ الأزهر إلى إصدار تصریح يتعلق بالعلاقات السنية الشيعية، مثل الذي أصدره شلتوت؛ لو لم یكُن شيخ الأزهر مؤيدًا لجهود التقريب عن اقتناع حقيقي.

وما من شك في أن السياسة كانت عاملًا مؤثرا في تشكيل تاريخ التقريب كله (كما كانت في عهد نادر شاه)، لكن المؤكد أن السياسة لم تكن العامل الوحيد؛ بل إنها في كثير من الأحيان لم تكن العامل الرئيس. فعندما غاب المؤيدون للتقريب؛ لم تستطع السياسة المضي قدما بالمشروع أو حتى المحافظة عليه.

ومع نهاية السبعينيات؛ بلغت جماعة التقريب نهاية الطريق، ولم يعد أحد يسمع بها أو يكترث لتوقف نشاطاتها. إذ ارتبطت معظم جهود التقريب بالنظام الإسلامي الثوري في إيران، والذي لم يستطع المضي قدما بفكرة التقريب، في شقها الديني على الأقل؛ حتى ليضاهي الإنجازات المتواضعة لجماعة التقريب. وفي الواقع، أمست العلاقات السنية. الشيعية مشروطة، وإلى حد كبير؛ بالصورة التي انطبعت عن الجمهورية الإسلامية في مختلف الدوائر بالعالم الإسلامي.

وما تجدر الإشارة إليه، أنه برغم اللهجة الساخرة التي تصبغ تقییم راینر برونر لمسعى التقريب؛ فالحقيقة أن التقريب الإسلامي لم يكن ليحقق أكثر مما حققته جهود التقريب المشابهة بين الكنائس المسيحية، أو المشروعات المتعددة للحوار الإسلامي – المسيحي. لقد كانت فرضية برونر الأولية، وربما كانت الأكثر فائدة في تقييم فكرة التقريب؛ هي أن الميراث التاريخي للسرديات الدينية أثقل بكثير مما يمكن للمتحدثين باسم الدين التفاوض عليه. وربما كانت التجارب الواقعية والآمال المشتركة والتعايش في الحياة اليومية؛ أكثر فعالية وأمضى أثراً من جدل المتكلمين، بل وأقدر على تقريب الطوائف من بعضها البعض.

المصدر: العدد الرابع والخامس من فصلية نماء

قراءة: بشير موسى نافع؛ مؤرخ، يدرس تاريخ الإسلام و المشرق العربي – الإسلامي.

محتويات الكتاب

مقدمة: الخلاف حول التاريخ الصحيح
الفصل الأول: المحاولات الأولى لحل الخلاف
الفصل الثاني: المذهب الشيعي وإصلاح الأزهر في مطلع القرن العشرين
الفصل الثالث: مراسلات مثيرة للخلاف (1911 – 1936م)
الفصل الرابع: الخلافة والوحدة (1924 – 1939م)
الفصل الخامس: تحول فكر التقريب إلى مؤسسة
الفصل السادس: شبكة علماء حركة التقريب (1947 – 1960م)
الفصل السابع: نطاق جدل التقريب وحدوده
الفصل الثامن: السجال والتقريب والسياسة الثورية (1952 – 1957م)
الفصل التاسع: صعود وسقوط فكرة التقريب (1958 – 1961م)
الفصل العاشر: من المصالحة إلى التحفظ (1962 – 1979م)
الخاتمة: استمرار التقارب في القرن الحادي والعشرين؟

 

الاجتهاد

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 26 فبراير 2019 - 13:38 بتوقيت مكة