لماذا تعتبر هذه المرحلة من الأخطر بالنسبة للعراق كدرجة أولى؟ ولماذا لا تكون الأخطر بالنسبة لغيره من الدول، أو لسوريا مثلاً؟ لا شك أن هناك اليوم الكثير من المعطيات التي تجعل امكانية اعادة إطلاق "داعش" في العراق واردة وبنسبة معقولة، ومنها:
يحتاج الأميركيون الى ذريعة ومبرر للبقاء في العراق، وتستطيع المجموعات المتشددة أن تؤمنها لهم، ومنها "داعش" أو مثيل له، خاصة في ظل الضغط السياسي داخل العراق لاصدار تشريعات تمنع التواجد العسكري الغربي في العراق، والاميركي بالتحديد.
هذا الموضوع كان موجوداً أيضاً في سوريا (ذريعة للبقاء)، وقد أصبح معروفاً وتثبّت أكثر بعد ما رأيناه من مماطلة في إنهاء الجيب الأخير للتنظيم في شرق الفرات، وحيث استغرقت عملية مهاجمة التنظيم في آخر جيب له على مجرى الفرات جنوب شرق دير الزور قرابة العام تقريباً، بالرغم من أنها أرض مكشوفة ومحددة ولا توجد فيها مناطق سكنية كبرى ومعقدة، مثل الرقة والباب وجرابلس وغيرها من المدن أو البلدات الكبرى، والتي دُحر فيها "داعش" من قبل قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف. رأينا التسارع في العملية مع صدور قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من سوريا وتعرضه للتصويب من حلفائه، وحاجته لانهاء ملف "داعش" لاكمال فكرة التحالف (هزيمة التنظيم).
صحيح أن المعطيات التي دفعت بالرئيس ترامب لاتخاذ القرار "المتسرع" بالانسحاب من سوريا، هي غير واضحة حتى الآن، منها الداخلي لأسباب انتخابية، أو الخارجي لقرار أميركي استراتيجي بالانكفاء من قواعد ودول معينة والتركيز في أخرى واختصارها قدر الامكان، لأسباب مادية أو لأسباب أمنية وعسكرية، ولكن يبقى التواجد العسكري الاميركي في العراق أساسياً وأولوية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا ، أولا "لمراقبة ايران" كما قالها بصراحة ترامب، وثانياً لأن العراق يشكل نقطة ارتكاز عسكرية، تسمح بالتدخل في كافة الاتجاهات: جوا في سوريا لصالح حلفاء واشنطن، وتسمح ايضا بالدعم والمساندة الجوية للقواعد الاميركية الحيوية في كل من تركيا والاردن والمتوسط والخليج، كنقطة وسطية داخل دائرة يتراوح شعاعها حوالي الالف كلم، والذي يمثل متوسط شعاع عمل قاذفاتها ومقاتلاتها.
أيضاً، هناك الكثير من المعطيات الميدانية والعسكرية من العراق، تتعلق بتوتر دائم بين الوحدات العسكرية الاميركية ووحدات من الجيش العراقي أو الحشد الشعبي، يصل أحياناً الى تبادل لاطلاق النار والى إستهدافات جوية لوحدات أو آليات للحشد من قبل طوافات اميركية، والاسباب تتمحور تقريباً حول محاولة الاميركيين إبعاد تلك الوحدات العراقية عن مراكز أميركية أو عن محاور ومسالك تتحرك فيها تلك الوحدات، حتى أن شعاع الحماية الذي تفرضه الوحدات العسكرية الاميركية حول مراكزها أو حول مسالك تحركها، يتجاوز بكثير المسافة المعقولة، الأمر الذي يحمل امكانية واسعة لاخفاء تحركات أو عمليات مشبوهة لنقل مجموعات مسلحة أو ارهابية أو ايوائها.
من ناحية أخرى، لا يمكن القول وبطريقة موضوعية، إن الداخل العراقي قد تم تنظيفه بالكامل من عناصر "داعش"، والدليل يظهر دائماً من خلال اعلانات متعددة للوحدات الامنية والعسكرية العراقية عن عمليات تطهير وملاحقة لفلول أو لخلايا "داعش"، في الانبار وفي الرمادي، وفي جبال حمرين وفي صلاح الدين في مناطق قريبة من كركوك وغيرها، وهذه الخلايا ما زالت قوية وتملك أسلحة وعتاداً، كما أن شبكات تمويلها ما زالت موجودة وتعمل بنشاط.
من هنا، واذا قارنَّا الكثير من المعطيات التي ساهمت بنشوء "داعش" وتمدده بين عامي 2013 و2014 في العراق، مع المعطيات الموجودة اليوم، لناحية التواجد الاميركي وحركته الغريبة، ولناحية شبكات التمويل، ولناحية التشدد وحيازة الأسلحة والمتفجرات لدى المجموعات المُلاحقة من قبل أجهزة الأمن العراقية، نستطيع القول إن هذه المعطيات متشابهة الى حدٍّ ما.
ويبقى في النهاية الوعي الذي تتحلى به اليوم الأجهزة الامنية والعسكرية العراقية، مع التواجد القوي للحشد الشعبي كمساند وداعم أساسي للدولة ولاجهزتها الرسمية، بالاضافة الى الخبرة التي اكتسبها هؤلاء من معركتهم ضد "داعش"، ومن التعامل الحذر مع الاحتلال الاميركي، كل هذه المعطيات ممكن أن تشكِّل الرادع أو الضامن لعدم عودة التنظيم، أو لمواجهته بحزم قبل اعادة تمدده وانتشاره.