جاءت تلك الانتقادات في كتاب من تأليف المحلل السابق بـ"سي آي أي" والخبير الحالي في سياسة الشرق الأوسط والشؤون العسكرية كينيث بولاك، بعنوان: "جيوش من الرمال: ماضي وحاضر ومستقبل فعالية العسكرية العربية".
وفي مقال مطول بمجلة ناشونال إنترست، قدم وكيل وزارة الدفاع الأميركية الأسبق دوف زاخيم عرضا نقديا للكتاب، ركز خلاله على العوامل السياسية والثقافية التي اعتبرها حاسمة في تحديد أسباب تلك الإخفاقات.
هزائم في كل الحروب
واستهل زاخيم عرضه للكتاب بالتشديد على أن فشل الجيوش العربية تجلى في قتالها ضد الإسرائيليين عام 1948، و1956، و1967 و1973، وضد الإيرانيين في ثمانينيات القرن المنصرم، وفي حربي الخليج الفارسي، أو في ما سماها الهزيمة النكراء التي تجرعها الجيش الليبي من نظيره التشادي عام 1987.
وينقل زاخيم عن بولاك في كتابه قوله "إن المشكلة الأكبر والأكثر ديمومة وإلحاحا بلا مراء، والتي عانت منها الجيوش العربية في المعارك منذ عام 1945؛ تمثلت في الأداء الضعيف لصغار ضباطها.
ولطالما فشل قادة التخطيط التكتيكي العرب في كل الحروب التي خاضوها في إبراز قدراتهم على المبادرة، وفي المرونة، ومهاراتهم في الإبداع والتفكير المستقل...".
ويضيف بولاك إلى تلك العلل العديد من مواطن الضعف الأخرى، لا سيما تلك المتعلقة بالحرب البرية والجوية، مشيرا على وجه التحديد إلى ما زعم أنها "مهارات هزيلة في الحروب البرية والجوية، وقدرات متواضعة في المعارك من الجو إلى الأرض، وتعامل أخرق مع الأسلحة ورداءة في أعمال الصيانة".
الجيش العربي الأفضل
ويرفض المحلل العسكري السابق الأسباب الأربعة التي يسوقها البعض لتفسير إخفاقات العرب عسكريا وهي:
1. افتقار الجيوش العربية للمبادرة نظرا لتأثير أساليب التدريب السوفياتية على الضباط منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي.
2. تسييس الجيوش العربية من قبل حكوماتها المستبدة.
3. تداعيات التخلف الاقتصادي على أداء الجيوش العربية.
4. جبن العرب في ساحات الوغى، على حد تعبير كينيث بولاك.
ويقول دوف زاخيم إن بولاك قدم حجة قوية ضد من يرون أن صرامة أسلوب السوفيات في الحرب هي التي قوضت روح المبادرة التكتيكية والعملياتية لدى العرب.
حجة مردودة
وردا على ذلك الاعتقاد، يشير بولاك في كتابه إلى أن الاتحاد السوفياتي آنذاك لم يشرف على تدريب أي من الجيوش العربية الخمسة التي تجرعت الهزيمة عام 1948 من المقاتلين اليهود رغم قلة عددهم وعتادهم وتسليحهم وضعف تدريبهم، على حد تعبير عميل الاستخبارات الأميركية السابق.
"إفراط القادة السوريين في توخي الحذر أفسد نجاح جيشهم في اختراق الخطوط الإسرائيلية عند مرتفعات الجولان "
ويصف مؤلف الكتاب الجيش الأردني بأنه الأفضل من بين الجيوش العربية الأخرى من الناحية المهنية؛ فالفيلق الأردني حينذاك تدرب على يد البريطاني جون غلوب، بينما تلقت الجيوش الأخرى بعض عقائدها القتالية المختلفة من الفرنسيين والبريطانيين وحتى من الدولة العثمانية.
ويعلق زاخيم على هذا الرأي بالقول إن بولاك لم يحدد طبيعة تلك العقائد القتالية والتكتيكات الحربية والتدريبات العسكرية، لكنه مع ذلك يلمح إلى أن ما طبقه العرب في ساحات المعارك هو العكس تماما.
حربا يونيو وأكتوبر
ويفرد المؤلف حيزا في كتابه للحديث عن حرب الأيام الستة في يونيو/ حزيران 1967، منوها إلى أن المصريين والسوريين كانوا يتلقون طوال سنوات عديدة عتادا من السوفيات.
ورغم ذلك، فإن المصريين والسوريين – حسب ادعاء بولاك - لم يستوعبوا أساليب السوفيات الحربية وعقائدهم القتالية، في حين جاءت عمليات الجيش الأردني وتكتيكاته انعكاسا لتلك التي تلقوها من بريطانيا العظمى في ذلك الوقت.
والحالة هذه، تمخضت حرب يونيو/ حزيران 1967 عن نتيجة مماثلة لتلك التي أسفرت عنها حرب 1948، حيث قضى الإسرائيليون قضاء مبرما على سلاح الجو العربي في غضون 48 ساعة، وعلى القوات البرية المصرية والأردنية والسورية في ظرف أيام معدودة، على حد تعبير كينيث بولاك.
إذلال
ويمضي عميل "سي آي أي" إلى القول إن الجيوش العربية ربما تعرضت للإذلال مرة أخرى في تلك الحرب، إلا أن ذلك لم يكن لخطأ السوفيات أو بسبب عقيدتهم القتالية.
ويعزو بولاك تمكن الإسرائيليين من تطويق الجيش الثالث المصري وقطع طرق الإمدادات عنه إبان حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، إلى سعة حيلتهم وإخفاق القيادة العليا المصرية في تجاوز صيغ التخطيط الجاهزة المجربة، التي ارتكزت عليها المؤسسة العسكرية في نجاحها المبكر بمباغتة الإسرائيليين لا بسبب عيوب في عقيدة القتال السوفياتية.
وبالمثل، فإن إفراط القادة السوريين في توخي الحذر هو الذي أفسد نجاح جيشهم - بادئ الأمر - في اختراق الخطوط الإسرائيلية عند مرتفعات الجولان. فلو أن القوات السورية واصلت تقدمها – وفق بولاك - واستولت على الجسور الثلاثة فوق مجرى نهر الأردن لكانوا في وضع ممتاز للاحتفاظ بالجولان أو المضي قدما إلى ما وراء ما يُعرف بالخط الأخضر في عمق "إسرائيل" نفسها.
تصرفات غير مفهومة
غير أن القادة السوريين – حسب رأي المؤلف - لم يحاولوا السيطرة على الجسور ليمنحوا بذلك الإسرائيليين فسحة قيمة من الوقت لنشر تعزيزاتهم؛ الأمر الذي مكّنهم من إجبار السوريين على التقهقر باتجاه دمشق.
يقول دوف زاخيم إن بولاك لم يقدم تفسيرا للأسباب التي حدت بالسوريين لعدم التقدم نحو السيطرة على الجسور، سوى الزعم أن المستشارين السوفيات في سوريا لم يتصوروا أن ألوية الجيش السوري ستتوقف عند الجسور دون التحكم فيها، ولم يصادفوا مقاومة تُذكر من الإسرائيليين رغم ما لتلك الجسور من أهمية في مجريات الحرب برمتها.
"بولاك أفرد في كتابه فصلا كاملا عن مدى تأثير تدخلات السياسة على أداء الجيش العراقي إبان حرب السنوات الثماني مع إيران وحرب الخليج الفارسي 1991، وانهياره في وجه تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014"
ويرى زاخيم أن ما ذكره بولاك يتناقض تماما مع ثوابت العقيدة القتالية السوفياتية، مضيفا أن مؤلف الكتاب كان قد ذيّل مقالة نُشرت قبل أربعة عقود بحاشية تضمنت تصريحا لوزير الدفاع السوري في ذلك الوقت مصطفى طلاس أعرب فيه عن دهشته من إساءة القادة تقدير الموقف على الأرض.
وفي اعتقاد زاخيم أن بولاك ربما عثر مؤخرا على تقييم للأحداث التي تناولها في كتابه، وربما لم يعول على أقوال طلاس وحده، لا سيما أن طلاس اشتُهر بأنه سياسي نفعي ومحدود الكفاءة.
ووفقا لزاخيم، فإن مصطفى طلاس ربما كان يريد بتصريحه ذاك حماية نفسه من إلقاء اللوم على صغار الضباط.
تسييس الجيوش
وأفرد بولاك في كتابه أيضا فصلا كاملا عن مدى تأثير تدخلات السياسة على أداء الجيش العراقي إبان حرب السنوات الثماني مع إيران، وحرب الخليج الفارسي 1991، وانهياره في وجه تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014.
كما يبحث بولاك في كتابه ما أطلق عليه زاخيم الأداء الضعيف للجيش الليبي أمام نظيره التشادي، الذي تمكن من إجهاض إحدى غزواته في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
ويخلص مقال ناشونال إنترست في ختام عرضه إلى أن الكتاب لم يتضمن تفسيرا لأسباب فشل الغارات الجوية التي تشنها السعودية في اليمن، رغم ما وفرته الولايات المتحدة لجيشها من تدريب ودعم عسكري حتى وقت قريب.
كما لم يقدم بولاك توضيحا للعوامل التي تؤدي إلى نجاح جماعة (انصار الله) الحوثي، وما توقعاته لعمليات حزب الله اللبناني المستقبلية في ضوء الدروس التي تعلمتها عناصره في سوريا.
المصدر : ناشونال إنترست