إنها الأزمة الأخطر من نوعها في الأعوام السبعة الماضية، ليس لأنها تؤكد أن الولايات المتحدة هي التي وقفت خلف الحرب الاقتصادية ضد الليرة التركية في آب (أغسطس) الماضي على أرضية رفض إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برونسون وانتهت بالإفراج عنه، وإنما أيضاً لأن إدارة الرئيس ترامب قررت الوقوف في الخندق الكردي، وفضلته مجدداً على الخندق التركي، الأمر الذي دفع د. إبراهيم كولين، مستشار الرئيس أردوغان والمتحدث باسمه إلى إبداء صدمته واستغرابه من هذا الموقف الأميركي المفاجئ، وقوله "معاتباً" بالحرف الواحد "نتوقع من أميركا احترام شراكتنا الاستراتيجية.. الإرهابيون لا يجب أن يكونوا شركاءكم وحلفاءكم.. ليس هناك أي فرق بين "الدولة الإسلامية" (داعش) ووحدات حماية الشعب الكردية".
***
الليرة التركية انخفضت حوالي 1.5 بالمئة بمجرد نشر تغريدة ترامب التهديدية، ومن غير المستبعد أن يصل سعرها إلى سبع ليرات مقابل الدولار، مثلما حدث أثناء الحرب الاقتصادية الأميركية على تركيا في آب (أغسطس) الماضي (سعر الليرة الآن 5.52 مقابل الدولار).
من الواضح أنه في ظل استمرار التحشيدات العسكرية التركية في منطقة هاتاي (لواء الإسكندرون) استعداداً لشن هجوم على قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا، قرر الرئيس ترامب الانتقام للإهانة التي تعرض لها جون بولتون، مستشاره لشؤون الأمن القومي على يد الرئيس أردوغان الذي رفض استقباله أثناء زيارته لأنقرة الأسبوع الماضي، وانتقد بشدة تصريحاته (بولتون) التي طالب فيها تركيا بتوفير ضمانات لحماية الأكراد بعد الانسحاب الأميركي من الشمال السوري.
الأزمة التركية الأميركية في فصلها التصعيدي الجديد ما زالت في بواكيرها، ومن الصعب التكهن بما يمكن أن يطرأ عليها من تطورات، ولكن ما يمكن قوله حتى الآن، أن إدارة ترامب ستتجنب أي مواجهات عسكرية، والاكتفاء فقط بالحرب الاقتصادية ضد تركيا في المرحلة الأولى على الأقل، لقناعتها بأنها ستخرج خاسرةً ماديا وبشريا في أي صدام عسكري.
السؤال الذي يطرح نفسه هو عن كيفية وحجم الرد التركي على هذا الاستفزاز الأميركي العلني وغير المسبوق، والخطوات التي يمكن أن يقدم عليها الرئيس أردوغان لتجنب هذه الحرب الاقتصادية وانعكاساتها السلبية على اقتصاد بلاده التي كانت قوته هي أبرز الإنجازات التي أبقته وحزبه في الحكم طوال الـ17 عاماً الماضية؟
في أزمة آب (أغسطس) الماضي التي كان من أبرز نتائجها انهيار قيمة الليرة التركية ووصول المصارف التركية إلى حافة الإفلاس، اضطر الرئيس أردوغان إلى الوصول إلى حل لها بالإفراج عن القس برونسون، وبعد الإعلان عن هذا الإفراج بدقائق بدأ التحسن في سعر الليرة التركية، فما هي الورقة التي سيلعبها أردوغان هذه المرة؟
القيادة التركية أكدت على لسان فخر الدين التون، مدير الاتصال في مكتب الرئاسة "أنها ستواصل مكافحة الإرهاب بتصميم، وأن تهديدات ترامب لن ترهبها" ووجد هذا الموقف دعماً من الحزب الجمهوري المعارض الذي عبر متحدث باسمه عن رفض التهديدات الأميركية التي قال "إنها لا تنفع معنا".
***
الرئيس أردوغان لم يقل كلمته حتى كتابة هذه السطور، وترك المهمة لمستشاريه، ولا بد أنه يدرس هذه الأزمة من كل جوانبها، ويجري اتصالاته مع حلفائه الروس من جهة والقطريين من جهة ثانية، قبل بلورة الرد الحاسم على هذه التهديدات الأميركية ذات الطابع الاستفزازي الوقح، للتنسيق في الجبهة السورية الداخلية، والقطريون لضخ أموال واستثمارات في إجراء وقائي لتقليص آثار هذه الحرب التجارية.
هل سيرد الرئيس أردوغان بقصف قوات سوريا الديمقراطية شرق الفرات، وينفذ تهديداته، أم يطير إلى موسكو وربما طهران بحثاً عن صفقة أو مظلة دعم وحماية في الوقت نفسه؟
وكيف سيكون موقف موسكو؟ وإذا جرى التوصل إلى صفقة مقايضة" مع روسيا هل سيكون أبرز عناوينها التخلي عن إدلب للجيش العربي السوري لاستعادتها من جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) التي باتت تسيطر على 80 بالمئة من أراضيها مقابل الدعم الروسي الإيراني لأردوغان؟
لا نملك إجابةً على هذا السؤال المشروع لأن الأزمة في بدايتها مثلما قلنا في بداية هذا المقال، ولكن ما نعرفه أن القيادة السورية في دمشق تفرك يديها فرحاً وهي تراقب الصدام بين خصومها الأبرز، أي تركيا وأميركا.
هل نبالغ إذا قلنا أن تركيا باتت أقرب إلى المثلث الروسي الإيراني السوري من أي وقت مضى منذ بداية الأزمة السورية؟
نترك الإجابة لتطورات الأيام، وربما الساعات المقبلة.. والله أعلم.
بقلم :عبد الباري عطوان