آية الله مكارم الشيرازي
إنَّ فتح مكة فتح صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، ودحر الأعداء بعد عشرين عاما من المقاومة. وتطهرت أرض الجزيرة العربية من الشرك والأوثان، تأهبا لدعوة بقية أصقاع العالم.
ملخص الواقعة على النحو التالي:
بعد صلح الحديبية، عمد المشركون إلى نقض العهد، وإلى خرق بنود وثيقة الصلح، واعتدوا على المتحالفين مع رسول الله (ص). فشكى المتحالفون ذلك إلى رسول، فقرر النبي أن يهب لحمايتهم.
من جهة أخرى الظروف في مكة -حيث مركز الوثنية والأصنام والشرك والنفاق - توفرت لتطهيرها. وهذه مهمة كان لابد من أدائها في وقت من الأوقات. لذلك استعد النّبي للحركة بأمر الله سبحانه صوب مكة.
تم فتح مكة في ثلاث مراحل. المرحلة التمهيدية وفيها التعبئة اللازمة واختيار الظروف الزمانية المساعدة وجمع المعلومات الكافية عن العدو ،والمرحلة الثانية كان فتح مكة بأسلوب ماهر خال من التلفات. والمرحلة الأخيرة هي مرحلة عطاء الفتح وآثاره.
1-المرحلة الأولى:هذه المرحلة اتصفت بالدقة المتناهية. ورسول الله (ص) سيطر على الطريق بين مكة والمدينة سيطرة تامة حتى لا يسرب خبر هذا الاستعداد الإسلامي إلى مكة، ولكي يتم الفتح بشكل مباغت. وهذا أدى إلى فتح مكة دون إراقة دماء تقريبا.
انقطاع أخبار المدينة عن مكّة كان متقنا، حتى أن نفرا من ضعاف الإيمان اسمه (حاطب بن أبي بلتعة) كتب رسالة إلى قريش بخبرهم بأمر المسلمين في المدينة، وبعثها بيد امرأة من قبيلة (مزينة) اسمها (كفود) أو (سارة) فعلم بها النبي (ص) بطريق إعجازي، وبعث عليا (ع) إلى المرأة، فوجدها في منزل بين مكة والمدينة. أخذ منها الرسالة وأعادها إلى المدينة.
الحركة نحو مكة:
النبي (ص) استخلف أحد المسلمين على المدينة، وتوجه في العاشر من رمضان سنة ثمان للهجرة إلى مكة، ووصلها بعد عشرة أيام.
في الطريق التقى الرسول (ص) بعمه العباس وهو يهاجر من مكة إلى المدينة. فطلب منه النبي (ص) أن يرسل متاعه إلى المدينة ويلتحق بالمسلمين، وأخبره بأنه آخر مهاجر.
2-المرحلة الثانية: وصل المسلمون إلى مشارف مكة وعسكروا عند (مرّ الظهران) على بعد عدة كيلومترات من مكة. وفي الليل أشعلوا نيران كثيرة لإعداد الطعام (ولعلهم فعلوا ذلك لإثبات تواجدهم الواسع). رأى جمع من أهل مكة هذا المنظر فتحيروا.
أخبار الزحف الإسلامي:
وأخبار الزحف الإسلامي كانت لا تزال خافية على قريش في تلك الليلة خرج (أبو سفيان) ومعه عدد من سراة قريش للاستطلاع خارج مكّة. وفي نفس الليلة قال العباس عم النبي (ص): يا سوء صباح قريش إلى آخر الدهر. فاستأذن رسول الله فيأتونه فيستأمنونه.
وبينما العباس يطوف بأطراف مكة إذا سمع صوت أبي سفيان ومعه القرشيون الذين خرجوا يتجسسون...
فقال: أبو سفيان: ما رأيت نيرانا أكثر من هذه!
فقال له أحد مرافقيه: هذه نيران خزاعة.
فقال: أبو سفيان: خزاعة أذل من ذلك...
فنادى العباس أبا سفيان، فسأله أبو سفيان على الفوز: ما ورائك ؟
قال العباس: هذا رسول الله (ص) في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف.
قال أبو سفيان: ما تأمرني؟
أجابه العباس: تركب معي فأستأمن لك رسول الله (ص) فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فخرجا يركضان نحو رسول الله (ص) فكلما مرا بنار من نيران المسلمين يقولون: عم رسول الله على بغلة رسول الله. (أي إن المار ليس بغريب). حتى مرّا بنار عمر بن الخطاب. فما أن أبصر به حتى قال له: أبو سفيان!الحمد الله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد!
دخل العباس وأبو سفيان على رسول الله وتبعهما عمر فدخل أيضا وقال للرسول: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدوّ الله قد أمكن لله منه بغير عهد ولا عقد فدعني اضرب عنقه.
فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته.
وكثر الكلام بين العباس وعمر فقال رسول الله للعباس:
إذهب فقد أمناه حتى تغدو علّي به بالغداة.
فلما كان من الغد جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول الله (ص) فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! (ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟).
قال: بلى، بأبي أنت وأمي لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنّي شيئا.
فقال النبي: (ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟).
فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء...
فقال: له العباس: ويحك تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك!فتشهد.
فقال رسول الله (ص) للعباس: (اذهب فاحبس أبا سفيان عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله).
قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه.
فقال النبي (ص): (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن... ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن).
خرج العباس وأجلس أبا سفيان عند خطم الجبل فمرّت عليه القبائل فيقول له العباس:
هذه أسلم... هذه جهينة... حتى مرّ رسول الله (ص) في كتيبته الخضراء مع المهاجرين والأنصار متسربلين بالحيد لا يرى منهم إلا حدق عيونهم.
فقال: ومن هؤلاء ؟
قال العباس: هذا رسول الله (ص) في المهاجرين والأنصار.
فقال أبو سفيان: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما.
فقال العباس: ويحك إنها النبوة.
فقال: نعم إذن.
قم قال له العباس: إلحق بقومك سريعا فحذّرهم.
أبو سفيان يدعو الناس إلى التسليم:
فخرج أبو سفيان حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. ثم قال: من دخل داري فهو آمن.ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن...
وقال: يا معشر قريش اسلموا تسلموا.
فأقبلت امرأته هند فأخذت بلحيته وقالت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق.
فقال: أرسلي لحيتي واقسم لئن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك، ادخلي بيتك! فتركته.
علي على أكتاف النبي:
ثم بلغ رسول الله (ص) مع جيش المسلمين منطقة (ذي طوى) وهي مرتفع يشرف على بيوت مكة فتذكر الرسول ذلك اليوم الذي خرج فيه مضطرا متخفيا من مكة وما هو يعود إليها منتصرا فوضع رأسه تواضعا لله وسجد على رحل ناقته شكرا له سبحانه.
ثم ترجل النبي الأكرم (ص) في (الحجون) إحدى محلات مكة، -وفيها قبر خديجة السلام عليها- واغتسل، ثم ركب ثانية بجهاز الحرب ودخل المسجد الحرام وهو يتلو سورة الفتح. ثم كبر، وكبر جند الإسلام معه فدوى صوت التكبير في أرجاء مكة.
ثم نزل من ناقته، واقترب من الكعبة، وجعل يسقط الأصنام واحدا بعد الآخرة وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)
وكان عدد من الأصنام قد نصب فوق الكعبة، ولم تصل إليها يد الرسول (ص) فأمر عليا (ع) أن يصعد على كتفه المباركة ويرمي بالأصنام فامتثل علي (ع) أمر الرسول.
ثم أخذ مفاتيح الكعبة، وفتحها ومحا ما كان على جدرانها من صور الأنبياء.
بعد الانتصار الرائع السريع أخذ رسول الله حلقة باب الكعبة، وتوجه إلى أهل مكة وقال لهم: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟
قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم.
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
اليوم يوم المرحمة:
وأمر رسول الله (ص) جيشه أن لا يتعرضوا لأحد، أن لا يريقوا دم أحد.
وأمر فقط بقتل ستة أفراد -حسب الرّوايات- ممن كانوا خطرين ومتوغلين في عدائهم للإسلام.
وحين بلغه أن سعد بن عبادة -وهو أحد حملة ألوية الجيش الإسلامي -يصيح: اليوم يوم ملحمة، اليوم تسبى الحرمة.
أمر عليا (ع) أن يأخذ منه الرّاية ويدخل بها مكة دخولا رقيقا ويقول: اليوم يوم المرحمة!!
وبهذا الشكل فتحت مكّة دون إراقة دماء وكان لعفو الرسول ورحمته الأثر الكبير في القلوب، فدخل النّاس في دين الله أفواجا. ودوّى خبر الفتح في أرجاء الجزيرة العربية وذاع صيت الإسلام، وتعززت مكانة المسلمين.
إن رسول الله (ص) عندما وصل الكعبة قال: لا إله إلا الله وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مال أو مأثرة أو دم تدعى فهو تحت قدمي هاتين! (وبذلك ألغى كل مخلفات الجاهلية وطوى جميع ملفاتها.)
هذا المشروع الإسلامي الجبار اقترن بالعفو العام، لينقل قبائل الجزيرة العربية من ماضيهم المظلم إلى نور الإسلام بعيدا عن كل ألوان الصراع والتخبط الجاهلي.
وهذا ساعد كثيرا على انتشار الإسلام وأصبح قدوة لحاضرنا ومستقبلنا.
المصدر:قصص القرآن