كربلاء سهلة يسيرة، نبلغها بمسيرة مشاة، أيام معدودات، نبذل فيها الطعام، ونستعرض أشكال الكرم والخدمات، فتلك هي ضريبة عام كامل نهجر فيه الحسين منهجاً ومدرسة وفكراً.
عام كامل ندوس فيه جيئة وذهاباً على مبادئ الحسين وعلى ثورته وعلى نداءاته.. نحرق لواءه ورايات أصحابه.. نكسر سيفه وننهب متاعه، ونرى الشمر يحز رأسه، فنصرف وجوهنا صوب الجهة المعاكسة، ونقطع عاما كاملاً نهرب فيه من الطف، ثم نعود بعد عام نبكي على جريمة كنا شهودها، وكنا أول الهاربين من أرضها.
في كل زاوية، في كل أفق، في كل صباح ومساء، نرى راية حسينية مكتوبة بالدم تعلّمنا كيف ننصر الحسين، لكننا نشيح وجوهنا عنها، فهذا المنهج صعب شاق لا رغبة لنا في سلوكه.
تقول الروايات إنهم قطعوا أصبع الحسين عليه السلام، وسرقوا خاتمه، ولقد رأينا الأصبع شاخصاً يؤشر على الاتجاه والطريق، لكننا لا نسير نحو الجهة الصحيحة، فهناك صوت صارخ ينطلق من أعماقنا، يصيبنا بالذعر، صوت آمر نطيعه حين نسمعه، يدفعنا لأن نسير بعيداً عن نهج الحسين.
عثرنا على الخاتم المسروق، هذا هو أمام أبصارنا، نقشه واضح، حروفه بارزة، لكننا لا نريد قراءة الكلمات، فيهتف الرضيع بأن الحسين يريدكم أن تحيوا نهجه، أن تسلكوا طريقه، أن تعيشوا مبدأه.
تأتي كلمات الرضيع حادة حمراء، تجرح أسماعنا، توشك أن تعيد الوعي الينا، لكننا نركض سراعاً نحن الطبول نقرعها بعنف، ننشر الصخب لكي لا نسمع صوت الرضيع.
على التل، تقف زينب، تنظر الينا، تخطب فينا، تستحثنا، تناشد فينا الرجولة والمروءة والدين. تصيبنا الحيرة، ماذا نفعل أمام فصاحة كلماتها؟ تبرز فكرة يلقيها الشيطان: اضربوا رؤوسكم بالسيوف، ستخدعون زينب، وسيشغلكم دمكم الخدّاع عن كلماتها.
تقول الرواية، رفعوا رأس الحسين على الرمح. سمعناها، وأوّلناها كما نريد، فطالما قُتل الحسين، فقد انتهى الأمر، دعونا نبكي ونتمنى أن نكون معه، ونصرخ: (هيهات منا الذلة). ونبقى نصرخ بالهتاف، حتى تخور قوانا، فنشعر براحة بالغة، لقد أدينا ما علينا.
صوت هاتف من بعيد: هذا منهج الحسين، إن كنتم شيعته خذوه وطوفوا حوله، إن الطواف حول منهج الحسين طواف حول الكعبة، فهو محور الإسلام والتشيع.
لم نرغب بهذا الكلام، وجدناه يخالف أهواءنا، فهرولنا نحو الطبول نقرعها بعنف، لنشوش على صاحب النداء، ونزيد على الصخب صراخاً: (هيهات منا الذلة) نرددها بالألسن فقط.
يهمس الشيطان: ما لكم ومنهج الحسين، إنه يحرمكم مما ألفتموه وسرتم عليه عقوداً؟ اتركوا نهجه. لو أخذتم نهج الحسين، فلن ترون مأساته مرة أخرى، ولن يكون عندكم ما تبكون من أجله، ولن تقرعوا طبول الصخب ولن تشجوا رؤوسكم بالسيوف ثانية.
هتفنا بصوت واحد: هيهات منا الذلة. نرددها بالألسن فقط.
في اليوم التالي، تركنا كربلاء، وكأننا دفنّا ميتاً غريباً. انتهت كربلاء وانتهى موسمها. ننتظر الموسم القادم. وعلى هذا الحال نزداد بعداً عن نهج الحسين.
* سليم الحسني