إعلانُ العاهِل السعوديّ الملك سلمان، أنّه أمَرَ بإجراءِ تَحقيقٍ داخِليٍّ في هَذهِ الجَريمة هو “اعتِرافٌ” بتَورُّط عناصِر سُعوديّة، والتَّراجُع عَن كُل المَواقِف السَّابِقَة التي سادَت طِوال الـ 13 يَومًا الماضِية، وأنكَرت أيَّ دَورٍ للسعوديّة، وأكّدت أنّ خاشقجي غادَر القُنصليّة بعد عِشرين دقيقة مِن دُخولِها، وادّعوا القَلق على اختفائِه.
نُقطَة التحوّل الرئيسيّة التي أدّت إلى هذا التَّراجُع السعوديّ الرسميّ في رأيِنا هُو نَقل وكالة أنباء “رويترز” العالميّة عن مَسؤولٍ ومَصدرٍ أمنيٍّ تُركيّين أنّ سُلطات الأمن التركيّة لديها تسجيل صَوتيّ يُؤكِّد مَقتَل الصحافي خاشقجي داخِل القُنصليّة، واحتمال إرسال نُسخَة مِن هذا التَّسجيل إلى السعوديّة والوِلايات المتحدة مَعًا.
***
الملك سلمان بن عبد العزيز قال الحقيقة عِندَما أكَّد للرئيس الامريكي بشَكلٍ حازِمٍ أنّه ليسَ على عِلمٍ بأيِّ شيء، فالحاكِم الفِعليّ للمملكة هو وليّ عهده الأمير محمد بن سلمان، وكُل أصابِع الاتِّهام تُشير إليه، والمَجموعة المُحيطة بِه، فمَن يَجرؤ داخِل الأجهزة الأمنيّة الإقدام على ارتكابِ جَريمةٍ كهَذهِ في قُنصليّةٍ سُعوديّةٍ، ولاغتيال صحافيّ مَشهور، وإرسال طائِرات خاصّة وفَريقٍ مِن 15 رجل أمن غير المَسؤول الأعلى وصاحِب القرار الأوّل في المملكة حاليًّا؟ فمن يتَّخِذ قرار شَن حرب في اليمن لا يتَردَّد في اغتيال صحافي كان مِن أهلِ البَيت وانْشَق.
تَدخُّل الملك سلمان، أو بالأحرى، التَّدخُّل باسْمِه، عِندما تَدخُل المملكة في أزمةٍ صَعبةٍ باتَ مُمارسةً مألوفَةً، فعِندما جرى اتِّهام السعوديّة، ووليّ عَهدِها، بتأييدِ صفقة القرن، وتَهويد القُدس المحتلة، كَرُكنٍ أساسيٍّ فيها، خَرَجَ العاهِل السعوديّ ببيانٍ أكَّد فيه أنّ بلاده مُتَمسِّكةٌ بالمُبادَرة العربيّة، وقِيامِ دولةٍ فِلسطينيّةٍ مُستَقلَّةٍ عاصِمتها القُدس، وإنّها لن تَقبَل إلا ما يَقبَل بِه الفِلسطينيين، والسِّيناريو نفسه يَتَكرَّر الآن حَرفيًّا.
الأسئِلة المَطروحة بقُوّةٍ الآن هِي عَن “كَبشِ الفِداء” الذي سيتم التَّضحية بِه لرَفعِ أيِّ لَومٍ عَن العاهِل السعوديّ، ووليّ عَهدِه، والمَسؤولين الكِبار في المملكة؟ وما هُوَ الثَّمن الذي سيَتِم دفعه لتركيا وللوِلايات المتحدة مُقابِل المُساعَدة في “لفْلَفَة” هَذهِ الجَريمة وطَوي صَفحَتِها؟
للإجابةِ على هَذهِ الأسئلة، أو بَعضِها، علينا الرُّجوع إلى قضيّة لوكربي والصَّفقة التي جَرى التَّوصُّل إليها لإنقاذِ العقيد معمر القذافي، وعدم توجيه أي اتِّهامٍ له، ورَفعِ الحِصار الخانِق عن ليبيا، ومِن المُفارَقة أن المملكة العربيّة السعوديّة، والأمير بندر بن سلطان، سَفيرها في واشنطن في ذَلِك الحين، كان أحد أبرز مُهَندسيها.
التَقَيت شَخصيًّا المُتَّهم الرئيسيّ، أو بالأحرَى، كبش الفِداء الليبي في هَذهِ الصَّفَقة، وأقصِد عبد الباسط المقرحي، رجل الأمن الليبي الذي أُدين بالسَّجن مَدى الحياة بتُهمَة زرع القُنبلة في إحدى الحقائب التي فَجّرت طائرة “بان آم” فوق أسكتلندا، وراح ضَحيّة هَذهِ الجريمة حواليّ 300 راكب، المقرحي الذي دَعاني لزِيارته في سِجن غلاسكو أكّد لي أنّه لا دَور له على الإطلاق في هَذهِ الجريمة، وهو يُعانِي من مرض السرطان (البروستات) الذي انتَشر في جسده، ولم يَبْقَ أمامه بِضعَة أشهُرٍ قَبلَ المَوت المُؤكَّد، وبَكى بُكاءً لم أرى، أو أسمَع مِثلُه في حياتي.
المقرحي قال لي أنّه يَملُك الشَّجاعة للقَول أنّه ارتكب الجريمة فليسَ لديه ما يخسره، وهو الذي يَقِف على حافّة المَوت، وأكَّد أنّه استُخدِم كذَريعةٍ وضحيّة، لإنقاذِ آخرين، كما أكّد لي بعد ذلِك بأسابيع السيد عبد الرحمن شلقم، وزير الخارجيّة الليبي الأسبَق، وهو زميل دِراسة، أنّ ليبيا لم يَكُن لها أيُّ دَورٍ في لوكربي إطلاقًا، ودَفَعنا ما يَقرُب ثلاثة مِليارات دولار كتَعويضاتٍ لأمريكا مِن أجلِ ليبيا ورَفعِ الحِصار عنها، وهو ما زالَ حَيًّا يُرْزَق.
***
نَقولُها للمَرّة الثالثة، بأنّ الصَّفَقات تتقدَّم على مَبادِىء حُقوق الإنسان، خاصَّةً بالنِّسبةِ إلى رَئيسٍ مِثل ترامب لا يُؤمِن إلا بالعُمولات، ولا يُجيد غَير ابتزاز السعوديّة ودُوَل خليجيّة، ونَهب مُعظَم ما لديها مِن مِليارات، فلم يَحصُل في تاريخ أمريكا أن مارَس أي زعيم أمريكيّ الابتزاز بهَذهِ الوَقاحة، و”عايَر” هَذهِ الدُّوَل أربَع مرّات في أيّامٍ مَعدودةٍ بأنّها لن تُبْقِ حُكوماتها في السُّلطة أُسبوعَين بدون الحِماية الأمريكيّة، وذَهَبَ إلى ما هُوَ أخطَر مِن ذَلِك عِندما لوَّح بأنّ إيران ستَحتل السعوديّة في 12 دقيقة دُونَ الحِماية الأمريكيّة.
لا نَعرِف المَبْلغ الذي سيَحصُل عليه ترامب مُقابِل دَورِه في إخراجِ الحُكومة السعوديّة مِن هَذهِ الأزَمَة بأقَلِّ الأضرار، لكنّنا نَتكهّن بأنّ المبلغ سيَفوق مِئات المِليارات، ولا بُد أنّ مايك بومبيو، وزير الخارجيّة، الذي غادَرَ إلى الرياض اليوم سيَحمِل “الفاتورة” التي ستتضَمَّن تفاصيل هذا المَبْلَغ.
رَحِم الله جمال خاشقجي حَيًّا أو ميّتًا، ونَعتقِد أنّ السَّبق الصَّحافيّ القادِم الذي سيَحْتَل العَناوين الرئيسيّة هُوَ الكَشْف عَن جُثمانِه، ومَكانِه، وكَيفيّة قَتلِه في القُنصليّة السعوديّة.. والأيّام بَيْنَنَا.
بقلم:عبد الباري عطوان
المصدر:رأي اليوم