كثيرة هي المشتركات بين الصيغة السابقة والصيغة الجديدة للاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الارهاب، إذا تنص كلتا الصيغتين على تجفيف منابع الإرهاب المالية والحيلولة دون وصول الإرهابيين إلى الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية أو النووية المشعة، إلا أن الجديد في الصيغة التي أقرّت مؤخراً والتي أعلن عنها بولتون، هي التركيز على ما أسماه "الإرهاب الإسلامي المتطرف" كتهديد أساسي للمصالح الأمريكية واعتبار إيران "المصدر الأساسي لتمويل الإرهاب" حول العالم على حد زعمه، في حين أن الصيغة السابقة كانت تتمحور حول "تنظيم القاعدة" كممثل للإرهاب العالمي.
إلا أن الجدير بالذكر هو التناقض الذي بدا واضحاً بين ما تضمنه إعلان الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لمكافحة الإرهاب، وبين الشعارات التي أطلقها ترامب في حملته الانتخابية والتي انتقد فيها التكلفة العالية المترتبة على حروب أمريكا في منطقة غرب آسيا تحت شعارات "مكافحة الإرهاب"، الأمر الذي يترتب عليه قراءة ما بين السطور، لمعرفة الأسباب الحقيقة التي دعت أمريكا لإعلان استراتيجيتها الجديدة، خلافاً لما كان قد أعلن عنه ترامب سابقاً.
أهداف داخلية
مع مجيء ترامب إلى السلطة ممثلاً عن تيار المحافظين الجدد لكن مع صبغة شعبوية، شهدت أمريكا على الصعيد الداخلي تنفيذاً جزئياً لسياسات مثيرة للجدل في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي كان من شأنها تعميق الشرخ في المجتمع، بدءاً من إقرار قانون الهجرة الذي يستهدف المسلمين من بعض دول الشرق الأوسط، مروراً ببناء الجدار الفاصل على الحدود مع المكسيك، وصولاً إلى طرد المهاجرين غير الشرعيين.
كما تبنت حكومة ترامب شعار "أمريكا أولاً"، ودعت إلى تشديد الرقابة على المعابر الساحلية، ورفع شعار "نحن أمة في حالة حرب"، لذلك فإن ترامب بحاجة إلى تبني خطاب يبرر هذه التصرفات، والسياسات المناهضة للإسلام والمهاجرين، وذلك من خلال نشر "الإسلام فوبيا"، وإعلان أن الخطر الاستراتيجي على أمريكا يأتي من "الإرهاب الإسلامي المتطرف".
الهروب إلى الأمام
يريد ترامب من إعلان الاستراتيجية الجديدة لمكافحة الإرهاب أن يتخذها ذريعة لتبرير التدخل الأمريكي في غرب آسيا، خاصة بعد انكسار وانهيار "خلافة داعش" في سوريا والعراق، في الحقيقة إن تعزيز الوجود العسكري الأمريكي بعد انهيار داعش ظل دائماً هدفاً أساسياً لأمريكا وفق المحللين والمراقبين.
وفقاً للاستراتيجية الأمريكية الجديدة لمكافحة الإرهاب، فإن حكومة ترامب ستكمل نهج سلفه أوباما في محاربة داعش، وستبقي على انتشار القوات الأمريكية في كل من العراق وسوريا وأفغانستان وغرب إفريقيا.
الجديد بالذكر أن أمريكا تحتفظ اليوم بحوالي 2000 جندي أمريكي في سوريا تحت ذريعة مكافحة داعش، في حين أنه بعد انهيار داعش بواسطة محور المقاومة وروسيا، بقيت عناصر ونواة التنظيم الإرهابي محافظين على وجودهم في منطقة العمليات الأمريكية، وسط أنباء روسية تحدثت عن تعاون مستمر ومتكرر بين القوات الأمريكية وقوات التنظيم الإرهابي، وهذا ما دعا دول إيران وروسيا والصين والباكستان لعقد اجتماعات عدة خلال الشهور الماضية لمناقشة النوايا الأمريكية لنقل عناصر التنظيم الإرهابي من سوريا إلى مناطق أخرى كآسيا الوسطى أو جنوب آسيا، لذلك فإن إعلان الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لمكافحة الإرهاب من قبل البيت الأبيض في ظل الانتقادات للوجود العسكري الأمريكي غير الشرعي على الأراضي السورية، هو نوع من الهروب إلى الأمام.
خطاب تعبوي
إن خطاب مكافحة الإرهاب، شكّل المعنى الذي تمحورت حوله السياسة الخارجية الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، إذ كان لا بدّ من عدو تقوم بذريعته الإدارة الأمريكية بالتحشيد على كل المجالات من أجل تثبيت سيطرتها أحادية القطبية على العالم، ومن ثم تقوم بعد ذلك بنشر جيوشها في أنحاء مختلفة من العالم ولاسيما منطقة غرب آسيا الحيوية.
بالرغم من أن المساعي الأمريكية قد اصطدمت بمقاومة شعوب المنطقة ولا سيما حلف محور المقاومة، إلا أن واشنطن لا تزال تسعى للإفادة من هذه الوسيلة أي خطاب "مكافحة الإرهاب"، من أجل تعزيز مطامعها الاستعمارية في التحكم والسيطرة على منابع الطاقة في المنطقة، لتحقيق هذا الهدف، كان لا بدّ لواشنطن من تجديد عهدها مع خطاب "مكافحة الإرهاب" من خلال إعلان الاستراتيجية الجديدة، بحيث تُخرج منها جماعات القاعدة وأخواتها التي ضعف وجودها إلى حد كبير، وتُدرج فيها بشكل أساسي القوى الشريكة في محور المقاومة.
تعريف الإرهاب وفق المصالح الأمريكية
إن أمريكا وبعدما تلقت صفعات متعددة من قوى المقاومة في ميادين الشرق الأوسط المختلفة تسعى للتعويض عن خسائرها من خلال إلصاق تهم واهية بدعم الإرهاب بها وفرض عقوبات عليها، حيث إن تصريحات جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي تبرهن على هذا الاتجاه، حيث وصف الجمهورية الإسلامية الإيرانية بـ "أكبر ممول للإرهاب الدولي" متهماً إياها بدعم حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي المدرجة على قائمة الإرهاب في أمريكا، مضيفاً إن أمريكا ستسعى ألّا تكون هناك أي استثناءات من الحظر على استيراد النفط الإيراني حتى تتقلص واردات إيران النفطية إلى الصفر.
في الحقيقة إن التعريف الأمريكي للإرهاب، والمفارقة الفجة باعتبار إيران وقوى المقاومة التي كان لها الفضل الأساس في مكافحة الإرهاب، بأنهم منشأ الإرهاب، يشكّل في حدّ ذاته دليلاً على أن أمريكا تعرّف الإرهاب وفق مصالحها.
وللمفارقة فإن بولتون لم يأتِ على ذكر التمويل السعودي للإرهاب الذي جاء موثّقاً ضمن التقرير الأخير لمنطقة FTFA الذي انتشر في 24 سبتمبر من العام الحالي.
لكن الرأي العام العالمي يميل اليوم وبشدة لتكذيب أمريكا وعدم التساوق مع تعريفها الكاذب للإرهاب، حيث إن مطالبات المنظمات الحقوقية الدولية، لمحاكمة أمريكا على جرائمها المتعددة في الجنائية الدولية، تمثّل أكبر دليل على أن أمريكا ستواجه تحدياً كبيراً يتعلق بصورتها ومصداقيتها أمام العالم.
المصدر: الوقت
31