لم يَكُن الكويتيون، في معظم مفاصل تاريخهم، على وفاق مع جيرانهم السعوديين. ظلّت دائماً الخشية من تغوّل آل سعود تسكن نفوس حاكمي الدولة الخليجية. حتى عندما أسدى مؤسِّس الدولة، مبارك بن صباح الصباح، كل أشكال الدعم لعبد العزيز آل سعود من أجل استرجاع الرياض وإطلاق مسار تأسيس الدولة السعودية الثالثة، إنما كانت تُحرِّكه خشية من آل الرشيد الذين اتسع حينها نفوذهم في نجد على نحو بات مُهدّداً لآل الصباح. على أن ذلك يبقى «معروفاً» جعله مباركاً في عبد العزيز بمعزل عن أسبابه. «معروف» سرعان ما تنكّر له أوّل ملوك السعودية، واضِعاً نصب عينيه هدف الاستيلاء على الكويت.
لعلّ الرجوع إلى تأريخ العلاقات إبّان عهدَي عبد العزيز وسالم بن مبارك الصباح (الحاكم التاسع للكويت) يبدو الأكثر إفادة في فهم طبيعة ما يكنّه الطرفان لبعضهما البعض. مبكراً، استشعر سالم خطورة تنامي نفوذ الأمير السعودي في الجزيرة. ومن هنا، بدأ عمله على تحصين الأراضي الكويتية (التي لم تكن يومذاك مُرسَّمةً حدودها مع الأراضي النجدية)، بوضع علامات حدودية عند ميناء بلبول كنقطة فاصلة بين نجد والكويت. خطوة لم يتأخّر الرد السعودي عليها بتسليط قوة من «الإخوان» (إخوان من أطاع الله) على الكويتيين، لتندلع عقب ذلك موقعة الجهراء الشهيرة التي آلت إلى الاحتكام للبريطانيين.
امتنع البريطانيون عن مساندة الكويتيين، وتركوا سالماً «يقلّع شوكه بيديه»، إلى أن عاد بيرسي كوكس مندوباً سامياً للحكومة البريطانية إلى العراق. في ميناء العقير، أسرّ عبد العزيز لكوكس، للمرة الأولى، بما في نفسه: الكويت جزء من «ممتلكاتنا». وبعد قرابة سنتين من المناوشات، تمّت الصفقة بين الجانب السعودي وراعيه البريطاني. في غياب الجانب الكويتي الذي كان قد أصبح على رأسه آنذاك أحمد الجابر الصباح، وفي ميناء العقير نفسه، خَطَّ كوكس حدود نجد، مُضمّناً إياها حوالى الثلثين من مساحة الكويت. ولما احتجّ أحمد الجابر، جاءه الجواب البريطاني: «السيف أقوى من القلم»، إن لم تتنازل عن تلك الأراضي بالسلم فإن ابن سعود سينتزعها منك بالقوة. أحسّ أحمد بـ«الخيانة»، لكنه اضطر للموافقة أخذاً في الاعتبار تفوق عبد العزيز العسكري عليه، وخشيةً من إلحاق الكويت بالعراق.
ابن سلمان يستلهم جدّه
بموجب معاهدة العقير عينها (تشرين الثاني/ نوفمبر 1922)، أقرّ البريطانيون إنشاء «منطقة محايدة» أو «مشتركة» بين السعودية والكويت، على طريقة المستعمِرين في تلغيم حدود المستعمَرين. وبعد مرور أكثر من 40 عاماً، وُقّعت اتفاقية تقسيم تلك المنطقة ما بين جنوبي تابع للسعودية وشمالي تابع للكويت. ووفقاً للاتفاقية التي دخلت حيّز التنفيذ عام 1970، فإن لكلّ دولة سلطة الإدارة والقضاء والدفاع على الجزء التابع لها (مع تمتّع الطرفين بحقوق متساوية في الثروات). سلطة لم تكد تمرّ بضعة عقود على إقرارها، حتى بدأت السعودية «التحرّش» في مقلبها الكويتي. عام 2009، كان يُفترض أن ينتهي العقد الموقّع لمدة 50 عاماً مع شركة «شيفرون»، مُمثِّلة الجانب السعودي في المنطقة المشتركة. لكن الرياض قرّرت تمديد العقد 30 عاماً إضافية من دون استشارة الكويت أو موافقتها. عضّ الكويتيون على الجرح مرة أخرى، وآثروا عدم التصعيد. إلا أن السعودية مضت في تنمّرها، مستبيحةً الأراضي الكويتية في عمليات تصدير النفط، ومتحكّمةً بالتعيينات في المواقع الحساسة من دون مراعاة متطلّبات التوازن بين البلدين.
بدأت الخلافات على المنطقة المحايدة بين البلدين عام 2009
ومع ممارسة الكويت حقّها في التضييق على «شيفرون» لناحية إجراءات العمالة كون الأولى ليست طرفاً في الاتفاقية المُمدّدة سعودياً، قررت الرياض معاقبة جارتها بإعلان وقف الإنتاج النفطي في المنطقة المحايدة (2014 - 2015)، مُتسبّبةً بخسائر بالغة للكويتيين. كتمت الكويت غيظها مرة ثالثة، وارتأت السعي في حلّ النزاع عبر القنوات الديبلوماسية، حتى أن تلويحها باللجوء إلى محكمة العدل الدولية ظلّ تلويحاً لم يسلك سبيله إلى التنفيذ. غير أن أنجال عبد العزيز وأحفاده لا يتركون «أشقاءهم» وشأنهم.
في الـ30 من أيلول/ سبتمبر الماضي، حطّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في الكويت، بعدما بلغت الضغوط الأميركية عليه مستوى غير مسبوق من أجل دفعه إلى زيادة إنتاج النفط. كل ما في الزيارة أوحى بأن الرجل ذهب إلى جيرانه غازياً أكثر منه مفاوِضاً. من الإخلاف في موعد الزيارة، إلى استباقها بإرسال وزير الخارجية عادل الجبير لاستطلاع الأجواء، إلى اقتصارها على ساعات معدودات بعدما كان مُقرّراً لها الاستمرار ليومين، جميعها مؤشرات أنبأت بأن النية فرض شروط لا عقد تسوية.
خلاصة لم يتردّد ابن سلمان نفسه في الجهر بها في مقابلته الأخيرة مع «بلومبرغ»: «الأمور العالقة هي جزء من مسائل ذات علاقة بالسيادة لم يتمّ حلّها خلال الـ50 سنة الماضية، وهم يريدون حلّها الآن قبل أن نستمرّ في الإنتاج، ونحن نعتقد أن مسألة عالقة منذ 50 سنة يكاد يكون من المستحيل حلّها في أسابيع قليلة. لذا، فنحن نعمل للحصول على اتفاق مع الكويتيين لكي نستمرّ في الإنتاج للسنوات الـ5 إلى الـ10 المقبلة، وفي الوقت ذاته نعمل على حلّ مسائل السيادة». بتعبير آخر: فلينسَ الكويتيون لبضع سنين أنهم دولة ذات سيادة، وليسمحوا لنا بالاستيلاء على أراضيهم ونفطهم حتى نشبع نهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن بعدها «لكلّ حادث حديث».
الكويت بين «المرّ» و«الأمرّ»
لم يَخِب ظنّ الكويتيين في «جار السوء». مشاعر القلق التي تعزّزت عقب اندلاع الأزمة الخليجية، حتى بلغت حدّ التباحث في ما يمكن فعله حال تعرّض الكويت لعدوان سعودي (راجع: تقرير «أميري» في الكويت: السعودية قد تهاجمنا! - «الأخبار» - 18 آب 2018)، سرعان ما وجدت ما يصدّقها على أرض الواقع. ولي العهد السعودي الواثق بـ«أوهام» محمد بن زايد عن أن اليمن «أصبح في جيبنا»، وأن بمقدوره ضرب عُمان من البوابة اليمنية، والمزهوّ بـ«حصاره» المفروض على قطر، جاء إلى الكويت وفي رأسه أن باستطاعته إخضاعها من خلال ابتزازها بخوفها، مثلما فعل جدّه في عشرينيات القرن الماضي. لكن المفاجأة أن الكويتيين لم يكونوا هذه المرة ليّني الجانب، وأبدوا تمسكاً بحقوقهم على اعتبار أن أي تنازل لابن سلمان اليوم يمكن أن يُغريَه بما هو أكبر وأبعد، وأفهموا الأمير الشاب أنه إذا كان مستعجلاً تسليف ترامب فَلْيسلّفه من كيسه لا من كيس الآخرين.
هذا ما بدا واضحاً في مقابلة ابن سلمان مع «بلومبرغ». لم ينكر الرجل استمرار الخلاف مع الكويت، لكنه حاول التذاكي بإلقاء فشله على الكويتيين عندما تحدث عن أن «جزءاً منهم يريد التمسك بمسائل السيادة قبل المضي قدماً، والجزء الآخر يؤيد ما نحاول قوله». ومع ذلك، أبدى ولي العهد السعودي تفاؤله بـ«الحصول على شيء ما قريباً»، معرباً عن اعتقاده بـ«أنها مسألة وقت حتى يتمّ حلّها». فعلام يراهن؟ قد يكون مؤمِّلاً ضغطاً أميركياً يحمل الكويت على التراجع خطوة، حتى لا تفقد مظلّة الحماية الأميركية التي حالت إلى الآن دون انفلات الغضب السعودي على قطر. لكن هذا الضغط، الذي لا يبدو مستبعداً في ظلّ إعلان الأميركيين أكثر من مرة سعيهم إلى حل الأزمة، لن يكون بالضرورة وفق ما يشتهيه ولي العهد، إذ قد يتخذ مسارين متوازيين (على الرياض والكويت في الوقت نفسه)، أو قد يُمارَس على السعودية من دون الكويت!
أما إذا ارتأت واشنطن إدامة الخلاف كبؤرة توتر إضافية في الخليج إلى جانب الأزمة القطرية، فسيكون الكويتيون، كما هي حال القطريين، عرضة لعمليات سلب أميركية مقابل تحصينهم من «الغول» السعودي. مقايضة ليست إلا جزءاً من الاستراتيجية الأميركية الجديدة القائمة على تحصيل الفوائد بأقلّ قدر من التكاليف، والتي لا يمانع الخليجيون المناوئون للسعودية إلى الآن الاستجابة لمتطلباتها، على رغم لجوئهم إلى خيارات بديلة كان آخرها - في الحالة الكويتية - التوقيع على سبع اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع الصين. على أن تلك الخيارات تبقى قاصرة عن إعتاق الدول الخليجية الصغيرة من عقدة الضعف وتبعاتها، ما لم تتحوّل إلى استراتيجية متكاملة، تتكتّل بموجبها تلك الدول بوجه السعودية.
ليس ملك البحرين!
بكثير من الصلف تعامل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مع الكويتيين خلال زيارته الأخيرة إليهم وما أعقبها. كان في ظنّه ربما أنه سيلقى قيادة تُناظِر ما هو موجود في البحرين، حيث يقول آل سعود لآل خليفة افعلوا فيفعلوا، أو امتنعوا فيمتنعوا. لكن رد فعل الكويتي، الذي لم يخرج عن حدود اللياقة والدبلوماسية، حمل ابن سلمان على سلوك سبل أخرى. هكذا، لم يجد نجل الملك ضيراً في الكذب في شأن محادثاته مع القيادة الكويتية، زاعماً أموراً غير موجودة أصلاً، من قبيل أن ثمة خلافاً داخل الكويت حول كيفية حلّ مشكلة الحقول النفطية المشتركة. وهي مزاعم لا يقتصر الغرض منها على محاولة الهروب من الفشل، إنما تستهدف أيضاً زرع فتنة داخل البيت الكويتي، من خلال الحديث عن أجنحة لم يُعلَم إلى الآن أن لها وجوداً في الكويت كما هي الحال في الإمارات والبحرين؛ إذ من المعروف عن الحكم الكويتي تماسكه الداخلي والتفاف أقطابه حول عائلة آل الصباح. والجدير ذكره، هنا، أن الملابسات التي رافقت زيارة ابن سلمان إلى الكويت أثارت الكثير من السخط في أوساط النشطاء والمواطنين الكويتيين، الذين استذكروا الاستيلاء السعودي على الأراضي الكويتية أيام الاستعمار البريطاني، وكذلك الحصار الذي فرضته السعودية على بلادهم ما بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، مُجدّدين رفضهم التمنين السعودي المتواصل لهم بمساندتهم إبان الغزو العراقي لأرضهم.