الشيخ عبدالله إبن الحاج حسن آل درويش
أخلاقه الشريفة
جاء في زيارة الناحية المرويَّة عن الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف : فلئن أخَّرتني الدهور ، وعاقني عن نصرك المقدور ، ولم أكن لمن حاربك محارباً ، ولمن نصب لك العداوة مناصباً ، فلأندبنّك صباحاً ومساء ، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً ، حسرة عليك ، وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهّفاً ، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب .
ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول في استنهاض الإمام الحجة(عليه السلام):
فيا حبَّذا يومٌ به تَنْشُرُ اللِّوا وتَشْهَرُ ذاك المشرفيَّ من الغمدِ
تصولُ بجند من ملائكةِ السَّمَا كجدِّك لمَّا صال في ذلك الجندِ
يسدُّ الفضاءَ الرَّحْبَ عَدّاً وعُدَّةً ولم يَبْقَ دونَ الحقِّ للشركِ من سَدِّ
كأن المواضي البيضَ إنْ مطرت دماً بروقٌ وأصواتُ الملائكِ كالرَّعْدِ
ونسمعُ روحَ القُدْسِ في أُفُقِ السما ينادي بأهل الأرضِ قد ظهر المهدي
فتجمعُ شَمْلَ المسلمين مُؤَلِّفاً قلوباً طواها الاختلافُ على الحقدِ
وتسْتَلُّ في كفّيكَ سيفَ محمَّد ومنه على عِطْفَيْكَ فضفاضةُ السردِ
وتَسْتَرْجِعُ الأمرَ الذي استأثَرَتْ بِهِ كَمَا شاءت الأعداءُ في الحَلِّ والعَقْدِ
نُلاَقي بِلاَ وَعْد مُحَيَّاكَ طالعاً وما أحسنَ اللُّقْيَا تجيءُ بلا وَعْدِ
جاء في كتاب أنس المجالس أن الفرزدق أتى الحسين(عليه السلام) لما أخرجه مروان من المدينة فأعطاه(عليه السلام) أربعمائة دينار ، وروي أن أعرابياً وفد المدينة فسأل عن أكرم الناس بها ، فدلّ على الحسين(عليه السلام) ، فدخل المسجد فوجده مصليّاً ، فوقف بإزائه وأنشأ :
لم يخبِ الآنَ مَنْ رَجَاكَ وَمَنْ حَرَّكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الحَلَقَة
قال: فسلَّم الحسين (عليه السلام) وقال : يا قنبر ، هل بقي من مال الحجاز شيء؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فقال : هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منا ، ثم نزع برديه ولفَّ الدنانير فيها ، وأخرج يده من شقّ الباب حياء من الأعرابي ، وأنشأ :
خُذْهَا فإني إليك معتذرٌ واعلمْ بأني عليك ذو شَفَقَه
لو كان في سَيْرِنَا الغَدَاةَ عَصَاً أمست سَمَانا عليك مُنْذَفِقَه
لكنَّ ريبَ الزمانِ ذو غِيَر والكفُّ منّي قليلةُ النَّفَقَه
قال : فأخذها الأعرابي وبكى ، فقال له : لعلّك استقللت ما أعطيناك ، قال : لا ، ولكن كيف يأكل التراب جودك.
أقول : وما درى الأعرابي ما يحلّ بالحسين(عليه السلام) بعرصة كربلاء ، وكيف لو رآه وهو جثة بلا رأس ، مقطَّعاً بالسيوف ، تريب الخد ، مسلوب الثياب؟ ولله درّ بعض الشعراء إذ يقول :
فيا نكبةً هَدَّتْ قُوَى دينِ أحمد وَعُظْمَ مُصَاب في القُلُوبِ له سُعْرُ
أيرتفعُ الرأسُ الكريمُ على القَنَا ويُهْدَى إلى رِجْس قد اغتاله الكُفْرُ
ويُمْنَعُ شُرْبَ الماءِ عمداً وكفُّه به من عَطَايَا جُوْدِ إنعامِهِ بَحْرُ
ويُقْتَلُ ظمآناً كئيباً وجدُّه نبيٌّ له الإقبالُ والعزُّ والنصرُ
حبيبٌ أجلُّ المرسلين مَقَامُهُ رسولٌ به تُرْجَى الشفاعةُ والبُشْرُ
ووالدُهُ الهادي الوصيُّ خليفةُ الـ نبيِّ أبو الأطهارِ والصِّنْوُ والصِّهْرُ
إمامٌ له السرُّ العظيمُ وشأنُهُ الـ قديمُ وفي أوصافِهِ نَزَلَ الذِّكْرُ
وعن شعيب بن عبدالرحمن الخزاعي قال : وجد على ظهر الحسين بن علي(عليه السلام) يوم الطف أثر ، فسألوا زين العابدين(عليه السلام) عن ذلك فقال : هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين .
وقيل : إن عبدالرحمن السلمي علَّم ولد الحسين(عليه السلام) الحمد ، فلمَّا قرأها على أبيه أعطاه ألف دينار ، وألف حلّة ، وحشا فاه درّاً ، فقيل له في ذلك فقال : وأين يقع هذا من عطائه يعني تعليمه؟ وأنشد الحسين(عليه السلام) :
إذا جادت الدنيا عليكَ فَجُدْ بها على الناسِ طرّاً قَبْلَ أَنْ تتفلَّتِ
فلا الجودُ يُفْنِيها إذا هي أَقْبَلَتْ ولا البُخْلُ يُبقيها إذا ما تَوَلَّتِ
ومن تواضعه(عليه السلام) أنه مرَّ بمساكين وهم يأكلون كسراً لهم على كساء ، فسلَّم عليهم ، فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : لولا أنه صدقة لأكلت معكم ، ثم قال : قوموا إلى منزلي ، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم.
وروي عن الحسين بن علي(عليهما السلام) أنه قال : صحَّ عندي قول النبي(صلى الله عليه وآله): أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه ، فإني رأيت غلاماً يواكل كلباً فقلت له في ذلك ، فقال : يا ابن رسول الله ، إني مغموم ، أطلب سروراً بسروره ، لأن صاحبي يهودي أريد أفارقه ، فأتى الحسين إلى صاحبه بمائتي دينار ثمناً له ، فقال اليهودي : الغلام فداء لخطاك ، وهذا البستان له ، ورددت عليه المال ، فقال(عليه السلام) : وأنا قد وهبت لك المال ، قال : قبلت المال ووهبته للغلام ، فقال الحسين(عليه السلام) : أعتقت الغلام ووهبته له جميعاً ، فقالت امرأته : قد أسلمت ووهبت زوجي مهري ، فقال اليهودي : وأنا أيضاً أسلمت وأعطيتها هذه الدار.
وقال أنس : كنت عند الحسين(عليه السلام) فدخلت عليه جارية فحيَّته بطاقة ريحان ، فقال لها : أنت حرّة لوجه الله ، فقلت : تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ قال : كذا أدَّبنا الله ، قال الله : {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(3) وكان أحسن منها عتقها.
وعن عمرو بن دينار قال : دخل الحسين(عليه السلام) على أسامة بن زيد وهو مريض ، وهو يقول : واغمَّاه ، فقال له الحسين(عليه السلام) : وما غمك يا أخي؟ قال : ديني ،وهو ستون ألف درهم ، فقال الحسين : هو عليَّ ، قال : إني أخشى أن أموت ، فقال الحسين (عليه السلام) : لن تموت حتى أقضيها عنك ، قال : فقضاها قبل موته.
وجنى غلام له جناية توجب العقاب عليه فأمر به أن يضرب ، فقال : يا مولاي (والكاظمين الغيظ) قال : خلّوا عنه ، فقال : يا مولاي (والعافين عن الناس) قال : قد عفوت عنك ، قال : يا مولاي (والله يحب المحسنين) قال : أنت حرٌّ لوجه الله ، ولك ضعف ما كنت أعطيك.
وفي أسانيد أخطب خوارزم أورده في كتاب له في مقتل آل الرسول (صلى الله عليه وآله) أن أعرابياً جاء إلى الحسين بن علي(عليهما السلام) فقال : يا ابن رسول الله ، قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها ، فقلت في نفسي : أسأل أكرم الناس ، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقال الحسين (عليه السلام) : يا أخا العرب ، أسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال ، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال ، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل . فقال الأعرابي : يا ابن رسول الله ، أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟ فقال الحسين(عليه السلام) : بلى ، سمعت جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : المعروف بقدر المعرفة ، فقال الأعرابي : سل عما بدا لك ، فإن أجبت وإلاَّ تعلَّمت منك ، ولا قوة إلاَّ بالله .
فقال الحسين(عليه السلام) : أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي : الإيمان بالله ، فقال الحسين(عليه السلام) : فما النجاة من المهلكة؟ فقال الأعرابي : الثقة بالله ، فقال الحسين(عليه السلام) : فما يزين الرجل؟ فقال الأعرابي : علم معه حلم ، فقال : فإن أخطأه ذلك؟ فقال : مال معه مروءة ، فقال : فإن أخطأه ذلك؟ فقال : فقر معه صبر ، فقال الحسين(عليه السلام) : فإن أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابي : فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فإنه أهل لذلك .
فضحك الحسين(عليه السلام) ورمى بصرّة إليه فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه ، وفيه فص قيمته مائتا درهم ، وقال : يا أعرابي ، أعط الذهب إلى غرمائك ، واصرف الخاتم في نفقتك ، فأخذ الأعرابي : وقال {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
المصدر:المجالس العاشورية في المآتم الحسينية