الشيخ عبدالله إبن الحاج حسن آل درويش
فعلى الأطائب من أهل بيت محمَّد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإيَّاهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضجون ، ويعجَّ العاجون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ، أين أعلام الدين وقواعد العلم.
روى إبن شهر آشوب عليه الرحمة في كتاب المناقب عن كتاب الإبانة ، قال بشر بن عاصم : سمعت ابن الزبير يقول : قلت للحسين بن علي ( عليهما السلام ): إنك تذهب إلى قوم قتلوا أباك وخذلوا أخاك ، فقال : لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبُّ إلي من أن يستحلَّ بي مكة، عرَّض به( عليه السلام).
وعن كتاب التخريج ، عن العامري ، بالإسناد عن هبيرة بن مريم ، عن ابن عباس قال : رأيت الحسين ( عليه السلام ) قبل أن يتوجَّه إلى العراق على باب الكعبة وكفّ جبرئيل في كفّه ،وجبرئيل ينادي : هلمّوا إلى بيعة الله عزّ وجلَّ.
وعُنِّف ابن عباس على تركه الحسين ( عليه السلام ) فقال : إن أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلا ولم يزيدوا رجلا ، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم.
وقال محمد بن الحنفية: وإن أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فسار الحسين ( عليه السلام ) إلى مكة وهو يقرأ : «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته ( عليهم السلام ) : لو تنكَّبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب، فقال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض ، ولمَّا دخل الحسين ( عليه السلام ) مكة، كان دخوله إياها يوم الجمعة ، لثلاث مضين من شعبان دخلها .
وهو يقرأ : « وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ» .
ثمَّ نزلها وأقبل أهلها يختلفون إليه ، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف ، ويأتي الحسين ( عليه السلام ) فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كل يومين مرة وهو ( عليه السلام ) أثقل خلق الله على ابن الزبير ، لأنه قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين ( عليه السلام ) في البلد ، وأن الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وكان خروج مسلم بن عقيل ـ رحمه الله ـ بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين ، وقتْلَه ـ رحمه الله ـ يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة ، وكان توجُّه الحسين ( عليه السلام ) من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة وهو يوم التروية ، بعد مقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين ، وكان قد اجتمع إلى الحسين ( عليه السلام ) مدّة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ، ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.
ولما أراد الحسين ( عليه السلام ) التوجُّه إلى العراق طاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة وأحلَّ من إحرامه وجعلها عمرة ، لأنه لم يتمكَّن من تمام الحج مخافة أن يُقبض عليه بمكة فَيُنفذ إلى يزيد بن معاوية ، فخرج ( عليه السلام ) مبادراً بأهله وولده ومن انضمَّ إليه من شيعته ، ولم يكن خبر مسلم بلغه بخروجه يوم خروجه على ما ذكرناه .
الواقدي وزرارة بن صالح ، قالا : لقينا الحسين بن علي ( عليهما السلام ) قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيام فأخبرناه بهوى الناس بالكوفة ، وأن قلوبهم معه ، وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبواب السماء ، ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلاّ الله تعالى ، فقال ( عليه السلام ) : لولا تقارب الأشياء ، وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكن أعلم يقيناً أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي ( عليه السلام ) .
وعن أحمد بن داود القمي ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : جاء محمد بن الحنفية إلى الحسين ( عليه السلام ) في الليلة التي أراد الحسين الخروج في صبيحتها عن مكة فقال له : يا أخي ، إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعزّ من بالحرم وأمنعه ، فقال : يا أخي ، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت ، فقال له ابن الحنفية : فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البر ، فإنك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد ، فقال : أنظر فيما قلت.
فلمّا كان السحر ارتحل الحسين ( عليه السلام ) ، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ بزمام ناقته ـ وقد ركبها ـ فقال : يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال : بلى ، قال : فما حداك على الخروج عاجلا ؟ قال : أتاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد ما فارقتك فقال : يا حسين ، اخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا ، فقال محمد بن الحنفية : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟ قال : فقال لي ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله قد شاء أن يراهن سبايا ، فسلَّم عليه ومضى . فما حال بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم سبين وصرن في أيدي الأعداء ، وكيف صار حالهن بعد ذلك العزّ في ظلال أبي عبدالله وأبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) فأصبحن في يدي زجر وشمر.
ولله درّ الحاج الفاضل عبدالله الذهبة البحراني الخطي عليه الرحمة إذ يقول :
عَزَّ على الأملاكِ والرُّسْلِ أن تمسي لأبناءِ الغوى منهبا
تودُّ لو أنَّ الدجى سرمدٌ لِمَا عن الرائي لها غيَّبا
وإن بدا الصُّبْحُ دَعَتْ من حَيَاً يا صبحُ لا أهلا ولا مرحبا
أبديتَ يا صُبْحُ لنا أوجهاً لها جَلاَلُ اللهِ قد حجَّبا
تُرَاكَ قد هانت عليك التي عن شأنِها القرآنُ قد أعربا
فما جنى يا شمسُ جان كما جنيتِ في حُرَّاتِ آلِ العَبَا
روى السيد ابن طاووس عليه الرحمة عن بعض الرواة قال : وجاءه عبدالله بن العباس وعبدالله بن الزبير ، فأشارا عليه بالإمساك ، فقال لهما : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه ، قال : فخرج ابن العباس وهو يقول : واحسيناه.
ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
ولستُ أنسى ابنَ عباس غداةَ دَعَا دَعِ الودائعَ في أوطانِ أهليها
إنّي لأخشى عليها الهَتْكَ بعد بني عَمْروِ العُلاَ حيث لا حام فيحميها
فقال هنَّ معي ما عشتُ أكفُلُها وقد قضى اللهُ ما قد خِفْتَهُ فيها
وقال أيضاً عليه الرحمة :
ولستُ أنسى ابنَ عباس غداةَ دعا دَعِ الحرائرَ أخشى مَا تلاقيه
ومذ وَعَت زينبٌ ذاك الخطابَ بكت خَلْفَ الحجابِ ونادت لا نخلّيه
دعنا نموتُ ونحيى والحسينُ وهل أبقى الزمانُ إلينا من نرَجّيه
لم تستطع زينبٌ حيّاً تفارقُهُ كيف استطاعت لُقىً مَيْتاً تخلّيه
لو خيَّروها أقامت عند مصرعِهِ ولو لها أكلت آسادُ واديه
فيا لها ساعةً سار الركابُ بها تقسَّمَ القلبُ لمّا صاح حاديه
فالجسمُ في كربلا قد خلَّفته لُقَىً والرأسُ يقدمُ ظعناً سيِّرت فيه
قال الراوي : ثم جاء عبدالله بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال ، وحذَّره من القتل والقتال ، فقال : يا أبا عبد الرحمان ، أما علمت أن من هوان الدنيا على الله تعالى أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ، أما تعلم أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً ، فلم يعجِّل الله عليهم ، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام ، اتق الله يا أبا عبد الرحمن ، ولا تدع نصرتي .
وروي أنه صلوات الله عليه لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال : الحمد لله ، وما شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله ( وآله ) وسلَّم ، خطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأني بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلاء ، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفّينا أجور الصابرين ، لن تشذَّ عن رسول الله لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرُّ بهم عينه ، وتنجز لهم وعده ، من كان فينا باذلا مهجته،
موطِّنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً إن شاء الله .
وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وروي عن الفرزدق أنه قال : حججت بأمي في سنة ستين ، فبينما أنا أسوق بعيرها حتى دخلت الحرم إذ لقيت الحسين ( عليه السلام ) خارجاً من مكة ، معه أسيافه وتراسه ، فقلت : لمن هذا القطار ؟ فقيل : للحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، فأتيته وسلَّمت عليه وقلت له : أعطاك الله سؤلك وأمَلَك فيما تحبّ ، بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ، ما أعجلك عن الحج ؟ قال ( عليه السلام ) : لو لم أعجل لأخذت ، ثمّ قال لي : من أنت ؟ قلت : رجل من العرب ، ولا والله ما فتّشني عن أكثر من ذلك.
ثم قال لي : أخبرني عن الناس خلفك ، فقلت : الخبيرَ سألت ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ، قال : صدقت ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، وكل يوم ربنا هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحقُّ نيَّته ، والتقوى سيرته ، فقلت له : أجل ، بلَّغك الله ما تحبّ وكفاك ما تحذر ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، وحرَّك راحلته وقال : السلام عليك ، ثم افترقنا .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وكان الحسين بن علي ( عليه السلام ) لمّا خرج من مكة اعترضه يحيى بن سعيد بن العاص ، ومعه جماعة أرسلهم إليه عمرو بن سعيد ، فقالوا له : انصرف ، أين تذهب ؟ فأبى عليهم ومضى ، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط ، فامتنع الحسين( عليه السلام ) وأصحابه منهم امتناعاً قوياً ، وسار حتى أتى التنعيم ، فلقي عيراً قد أقبلت من اليمن فاستأجر من أهلها جمالا لرحله وأصحابه
وقال لأصحابها : من أحبَّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كراه وأحسنّا صحبته ، ومن أحبَّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراه على قدر ما قطع من الطريق ، فمضى معه قوم وامتنع آخرون.
وألحقه عبدالله بن جعفر بابنيه عون ومحمد ، وكتب على أيديهما كتاباً يقول فيه : أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي هذا ، فإني مشفق عليك من هذا التوجُّه الذي توجَّهت له ، أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، إن هلكت اليوم طفىء نور الأرض ، فإنك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، ولا تعجل بالسير فإني في أثر كتابي والسلام.
وصار عبدالله إلى عمرو بن سعيد وسأله أن يكتب إلى الحسين( عليه السلام ) أماناً ويمنّيه ليرجع عن وجهه ، وكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً يمنّيه فيه الصلة ، ويؤمنه على نفسه ، وأنفذه مع يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبدالله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ، ودفعا إليه الكتاب وجهدا به في الرجوع ، فقال : إني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المنام وأمرني بما أنا ماض له، فقالوا له: ما تلك الرؤيا ؟
فقال : ما حدّثت أحداً بها ، ولا أنا محدِّثٌ بها أحداً حتى ألقى ربي عزَّ وجلَّ ، فلما يئس منه عبدالله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه ، والمسير معه ، والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى ابن سعيد إلى مكة.
وتوجَّه الحسين ( عليه السلام ) إلى العراق مغذّاً لا يلوي إلى شيء حتى نزل ذات عرق.
وقال السيّد ابن طاووس ـ رحمه الله ـ : توجَّه الحسين( عليه السلام ) من مكة لثلاث مضين من ذي الحجة سنة ستين قبل أن يعلم بقتل مسلم ، لأنه ( عليه السلام ) خرج من مكة في اليوم الذي قتل فيه مسلم رضوان الله عليه .
ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول:
أبا الشهداءِ الآخرين بوقعة استقامت وفيه قد أقيمت حدودُها
وَيَامَنْ به في الطفِّ ملَّةُ جدِّه سما الشهداءَ الأوَّلين شهيدُها
وَمَنْ في سبيلِ الحقِّ بين شبا ظُّبا قضى وهو مشكورُ المساعي حميدُها
تأسَّى أُبَاةُ الضيمِ فيك فلم تكن تَحَكَّمُ بالأحرارِ منها عبيدُها
بنى جدُّك الهادي قَوَاعِدَ شِرْعَة بسيفِكَ يومَ الطفِّ قُمْتَ تُشِيدُها
لك الدينُ يشكو من عُتاة تألَّبَتْ على حَرْبِهِ مِن كُلِّ فجٍّ جنودُها
كأنَّ لها حقداً على الناسِ فاشتفت بما اقترفت أضغانُها وحقودُها
أبت أن يسودَ الشعبَ في الحكمِ أهلُهُ وقد رَضِيَتْ بالأجنبيَّ يسودُها
إلى أن أبادَ اللهُ حِزْبَ ضَلاَلِها كما قد أبيدت عادُها وثمودُها
المصدر:المجالس العاشورية في المآتم الحسينية