السيد عباس نورالدين
لم تخلُ الأرض يومًا من ملائكة الله؛ فكل هذا الجريان والتدبير والإحياء والإماتة ونزول المطر وما يجري في الكون يتم عبر ملائكة الله تعالى المدبّرات. وللملائكة حكاية تشير إلى حضور الغيب في عالم الشهادة. تريد هذه الحكاية أن تخبرنا أنّ وراء هذا العالم الماديّ المحسوس عوالم أعلى تمثّل جانب الحقيقة منه.
قد نتصوّر الملائكة مجرّد عمّال إلهيين لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمره يفعلون؛ إلّا أنّ للملائكة بعدًا آخر قد أشير إليه في قوله تعالى: {فَسُبْحانَ الَّذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}.[1]فالملائكة هم ظهور هذا البعد ومظهره، إلا أنّ استغراقنا في عالم المادّة والحس يجعلنا غافلين عن هذه الحقائق، التي تُعدّ أفضل وأرقى وسيلة لشهود حقيقة أكبر، وهي حقيقة حضور الله بأسمائه وصفاته.
لو شهد أحدنا ذات يوم ملكًا من الملائكة، فلا يمكن أن يكون هذا الملَك حاجبًا بينه وبين شهود الله والشعور اليقينيّ بحضوره؛ بل إنّ من علامات شهود الحقائق الإلهية شهود الملائكة. وإنّما تكمن عظمة الملائكة في هذه المظهرية وهذا التجلّي. لذلك عُدّ الإيمان بهم مرتبة عالية من مراتب الإيمان بالله تعالى. إنّهم وسيلة المعرفة الشهودية العرفانية، وهم ظهور الحقيقة التي أراد الله تعالى لهذا الإنسان المحجوب أن يدركها في ارتقائه وصعوده إلى قمم المعرفة الشامخة. إنّهم حقائق هذا العالم وبواطنه، لكنّهم حقائق فاعلة؛ لهذا كان لهم هذا الظهور الشخصيّ.
يريدنا الله تعالى أن نرتبط بالحقيقة ارتباطًا شخصيًّا تفاعليًّا، هو أكبر وأعظم من الارتباط الذهني والتصوّر الكليّ. وبهذا الارتباط يتفعّل حضورنا ودورنا الملكوتيّ في العالم، بواسطة تفعيل تأثيرنا الإيجابيّ فيه، وذلك من خلال الاستفادة القصوى من هذه القوى الملكوتية.
منذ آلاف السنين، والملائكة الموكلة بهذا العالم تديره وتدبّره، تبعًا لخليفة الله وطاعةً لحجّته، الذي يكون بمثابة القائد والموجّه. فملائكة الله لا يفعلون أي شيء في العالم إلا بإذنه وحكمته؛ وهذا ما تُعبّر عنه أسرار ليلة القدر ومعانيها.. فهم عمّال وليّ الله وخليفته في هذا العالم وقواه الفاعلة.. لكن ما يحدث، بعد ظهور الإمام المهديّ، هو أنّ هذه الفاعلية الملكوتية ستزداد وتتضاعف أضعافًا كثيرة؛ ممّا يفسر ما سيحصل على مستوى التغيير والتبديل الذي يجري تحت عنوان "جعل هذه الأرض ملكوتًا"، أو ما يمكن أن نعبّر عنه بروحنة المادّة أو فتح أبواب السماوات.
لم نسمع عن حضور الملائكة في حياة أصحاب الأنبياء والرسل عبر التاريخ إلا في حالاتٍ نادرة. لكن هذا الحضور سيكون السمة البارزة لأصحاب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، كما جاء في حديث الإمام الرضا (عليه السلام) في دلائل الإمامة، حيث قال:
"إِذَا قَامَ الْقَائِمُ، يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْجُلُوسِ مَعَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ وَاحِدُ حَاجَةً أَرْسَلَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْض الْمَلَائِكَةِ أَنْ يَحْمِلَهُ، فَيَحْمِلُهُ الْمَلَكُ حَتَّى يَأْتِيَ الْقَائِمَ، فَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَرُدَّهُ.
وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَسِيرُ فِي السَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْبِقُ الْمَلَائِكَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَحَاكَمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَيْهِ؛ وَالْمُؤْمِنُونَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَيِّرُهُ الْقَائِمُ قَاضِياً بَيْنَ مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَة..".[2]
لم تخلُ مجالس العلم والعلماء من الملائكة يومًا. فالملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم أثناء سيره وسعيه نحو مجلسه، وهي شريكة كل مجلس يُقام لله تعالى، تستغفر لأهله وتبارك لهم. لكن كأنّ هذه الرواية الشريفة تريد أن تخبرنا عن حقيقة أخرى تميّز عصر الظهور، وهي انبعاث هذا الحضور وظهور هذه المشاركة. وهذا هو الفارق الأكبر بين أي زمن شهدته البشرية وبين زمن الإمام المهديّ بعد قيامه وإقامته لحكم الله. كما أنّ هذه الرواية الرضويّة تريد أن تبيّن لنا درجات المؤمنين من خلال علاقتهم واستفادتهم من الملائكة. فقوّة الإيمان في عصر الحضور المبارك ستُقاس بحسب هذا اليقين والاتّصال والاستخدام الملكوتيّ؛ ممّا يدل على تحوّلٍ نوعيّ على مستوى ظهور الإيمان في عالم الوجود.
فلطالما كان الإيمان خفيًّا مستترًا مجهولًا بالنسبة للناس (بسبب جهلهم)، ممّا سمح للمنافقين أن يتظاهروا به، حيث لا يعلم الكثير منهم كيف يكتشفون الكافر ويميّزون المؤمن، إلا بواسطة أمور يمكن لأي شخص أن يدّعيها. وفي كتاب الله تنبيه إلى هذا الفارق، كما في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ في سَبيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين}.[3]
ففي زماننا هذا، يسهل خداع الكثير من المسلمين من خلال التظاهر بخدمة الحجيج وعمارة المساجد وتسهيل الخدمات التكنولوجية لهم، لأنّهم لا يعرفون حقيقة الإيمان أو لم يخبروه. ثمّ يأتي زمانٌ يتجلّى فيه الإيمان بهذا المستوى من الفاعلية، حيث يظهر تمايز المؤمنين عن غيرهم بمستوى ارتباطهم واستفادتهم من الملكوت. ففي الزمان الملكوتيّ يكون الحكم والفاعلية للمؤمنين فقط؛ لأنّ كل فعل آخر لن يكون مناسبًا لأحوال الأرض الجديدة، وسيكون كنفثة في بحرٍ لجّيّ لا أثر له ولا قيمة.
إنّ التحوّل النوعي على مستوى حضور الملائكة يحكي عن تحوّلٍ نوعيّ على مستوى الأعمال التي تجري في الأرض؛ حيث تكون الأعمال الملكوتية السمة البارزة لكل الأنشطة التي يقوم بها الناس (المؤمنون). ولا معنى لهذه الأعمال إلا إذا كانت تصب في قناةٍ واحدة وهي تبديل هذه الأرض إلى أرض ملكوتية، قد أشار القرآن الكريم إلى صيرورتها مشرقةً بنور ربّها. فهناك سيبدأ العمل الحثيث نحو فتح أبواب السموات، من أجل الرجوع إلى جنّة الله، التي هي جنّة الخلد والبقاء.
إنّ الاستفادة من الملائكة لقضاء الحوائج المختلفة لا ترتبط بالأمور المعيشية العادية، لأنّها قضايا يتم حلّها في الزمن الأول. ولا تكون حاجة المؤمن، التي تستدعي نقله إلى الإمام على أجنحة الملائكة، إلا حاجة مصيرية نوعية، لأنّ الحاجات الأرضية أو الدنيوية يتم قضاؤها دون الحاجة إلى هذا الانتقال.
الهوامش:
(1)سورة يس، الآية 83.
(2)دلائل الإمامة، ص 454-455.
(3)سورة التوبة، الآية 19.
المصدر:مركز باء للدراسات