لا يختلف اثنان على أن حركة الإمام الصدر شكَّلت نموذجاً جديداً على الساحة اللبنانية والإقليمية. بل إن مظلومية الإمام، لا تقتصر على تغييبه بل تتجاوز ذلك، لتصل الى تقصير النخب العلمية، فيما يخص طرح شخصية الإمام موسى الصدر المتعددة الأبعاد والجوانب. لم يكن الإمام عالم دينٍ مجتهد فحسب، بل كان زعيماً سياسياً، عارفاً بالقضايا الإجتماعية، مُحترفاً في فنون التواصل ونسج العلاقات، فقيهاً في الحقوق المدنية والمواطنة، مُطَّلعاً بعمق على أسس بناء الدولة وشكل النظام. شكَّل الإمام ببُعد نظره حالةً نموذجية أحاطت المشاريع الغربية بالخطر، ليس فقط في لبنان بل على الصعيدين الإقليمي والدولي. التَمَس المُخطط الغربي خطر الإمام دون أن يلتمس من هم حول الإمام طُرق تأمين الحماية له، في ظل ظروفٍ كانت الفتنة فيها كبيرة لدرجة يمكن اخفاء أي قضية. ما أخفى الإمام هو بُعد نظره ومصداقية حركته!
اليوم يعيش لبنان كما المنطقة مرحلة من المراحل الأصعب في التاريخ السياسي المعاصر. ولأن حجم الإمام وفكره يتخطى الجغرافيا اللبنانية بل الإقليم، سنكتفي بتسليط الضوء على نظرة الإمام للكيان اللبناني والدولة وشكل النظام فقط.
منذ ما قبل الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا يعيش اللبنانيون انقساماً حول هوية الوطن وشكل النظام ونموذج الكيان اللبناني. ومنذ ذلك الحين لم يستطع أحدٌ أن يُقدم طرحاً يُحاكي هواجس العقدة اللبنانية. عام 1975 بدأت الحرب الأهلية وبقيت حتى العام 1990. خلال هذه الفترة عرف لبنان أبشع حقبة من تاريخه المعاصر، كانت كفيلة بتقطيع أواصره، فيما دفع الشعب اللبناني ثمن هذه الحرب. عام 1978 اختفى الإمام الصدر في ليبيا، ومنذ ذلك الحين لم يُكشف مصيره. السنوات الإثني عشر (من 1978 حتى 1990) كانت كافية لتمييع قضيته. لكن يُخطىء من يتجاهل حقيقة العلاقة بين اختفائه والقرار الإستراتيجي بتدمير لبنان!
اليوم، وبعد 28 عاماً من قيام النظام اللبناني بعد الحرب الأهلية (1990 حتى اليوم)، ما يزال اللبنانيون يتقاسمون الرؤى المُختلفة لوطنٍ يُعَرفُّه كلٌ من التيارات السياسية كما يشاء، حيث لا يوجد مفهومٌ واحد للنظام أو الكيان اللبناني. ولأننا كشعوب هذه المنطقة، مقصرون بحق النماذج والشخصيات التي نمتلك، بل غافلون عنها، لم نلتفت الى الأهمية التي يتمتع بها مشروع الإمام موسى الصدر، الخاص بالنظام والكيان اللبناني. بل إن مرور 40 عاماً على تغييب هذه الشخصية الفذة، لم يمنع من بقاء مشروعه قابلاً للحياة. يمكن الجزم وبثقة، أن المشروع اللبناني القابل للخلود، هو فقط، النموذج الذي قدَّمه الإمام الصدر حول شكل الكيان والدولة اللبنانية. وهنا نُشير لأهم أسس هذا المشروع:
أولاً: لا يمكن إحداث إصلاح في النظام السياسي من خلال الطائفية أو الثنائية الطائفية، بل إن بداية التغيير تبدأ من تأسيس تيار اجتماعي عابر للطوائف والمذاهب والأحزاب.
ثانياً: إن قاعدة المواطنة تكمن في تعزيز فكرة الدولة كملجأ لجميع اللبنانيين ما يجعل من مشروع بناء الدولة معيار للوحدة والتضامن الوطني.
ثالثاً: الكيان الإسرائيلي هو عدو جميع اللبنانيين وأبناء المنطقة، والمقاومة تُشكَّل خيار للبنانيين والأمة في مواجهة هذا الكيان.
رابعاً: التكافل الوطني والتعاون هي شروط أساسية لبناء الوحدة السياسية الداخلية فيما يجب أن يمتنع اللبنانيين عن استخدام لغة الإبتزاز الداخلي فيما يخص ممارسة السياسة اللبنانية.
خامساً: لبنان بلد متتعدد ومتنوع، ونموذج للتعايش الإسلامي المسيحي في المنطقة والعالم. فالدين بجوهره واحد، والإنسان هو القاسم بين هذه الأديان. ما يجعل أما اللبنانيين فرصة، لإبراز القيم المشتركة بين هذه الديانات. هدف كافة الأديان.
سادساً: الإعلام أداة هامة، والتركيز عليها ضرورة كما الإنتباه الى دورها التربوي والتثقيفي لتعميق الوحدة والمواطنة.
"لبنان الوطن الصغير الذي يمكن أن يصبح مصدر الشر والأخطار وأن يقض المضاجع" ما يفرض بالضرورة الإيمان بأن "التمسك بوحدة لبنان وانسجامه مع المنطقة وصيانته كونه أمانة للحضارة العالمية"، هي الكلمات التي كان يُعرِّف بها الإمام موسى الصدر وطنه لبنان ودوره في المنطقة والعالم. في تلك الفترة، آمن الإمام الصدر أن تفتيت لبنان هو مقدمة لتفتيت المنطقة بأكملها. دفعه هذا الإيمان للقيام بجولة إقليمية يمكن من خلالها بناء إطارٍ قادرٍ على حماية لبنان والمنطقة. فَهِمَه العدو قبل الصديق، فأخفاه، وبقي الإمام الى يومنا هذا مجهول المصير. ورغم السنوات التي مرَّت، ما يزال الإطار الإستراتيجي لنظرية الإمام موسى الصدر فيما يخص شكل الدولة والكيان اللبناني صالحاً. فهل يُحيي اللبنانيون هذه النظرية؟!
بقلم : محمد علي جعفر
31