السيد عباس نورالدين
إنّ السعي لتحريف الدين الإلهيّ والعبث بالوحي، كان ولا يزال أمنية الشيطان وأوليائه. فالدين الحقّ كان دومًا عامل إيقاظ الغافلين، وتحريك الناكلين، وتحفيز المجاهدين، للقضاء على الظلم والطغيان. قال الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ}. [الحج، الآية 52]
وقد كانت دوافع تحريف الدين عند المتضرّرين من قدراته الإصلاحية أقوى من دوافع القضاء عليه وإزالته؛ لأنّ في التحريف فرصة مهمّة ومكاسب هائلة تعطي أصحابها إمكانات عظيمة للسيطرة على الناس، وذلك لما توفّره من قداسة دينيّة تسمح لزيادة أعداد الخاضعين والتابعين والمنقادين بصورةٍ عمياء.
لا يخفى على أحد ما لبعض الحكومات، المهيمنة على مناطق واسعة من بلاد المسلمين اليوم، من قدرةٍ ونفوذ؛ وذلك بسبب تظاهرها بخدمة المقدّسات والقرآن وحماية الإسلام. بل إنّ طموح هذه الحكومات قد وصل إلى حد أمنية النفس بقيادة المسلمين وتزعّم العالم الإسلامي كلّه، لما وجدته في نفسها من فرص التظاهر بكونها حماية حمى الدين والمسلمين. ولو أنّ المسلمين اكتشفوا هذه الخدعة، ولم تنطلِ عليهم هذه الألاعيب الناشئة من التحريف والعبث بتراث الإسلام، لأصبحت هذه الحكومة في منتهى الضعف والهوان، ولباءت كل محاولاتها المزعومة بالفشل المبين.
تتعاظم دوافع التحريف، كلّما أدرك المستكبرون ما في الدين الحقّ من قدرة على المقاومة والتحرّر والانبعاث والصحوة والتقدّم؛ ويحيك هؤلاء آلاف المؤامرات ومئات المشاريع، التي تهدف إلى تعزيز التيّارات التحريفية وتقوية شوكة النفاق؛ ولكنّهم كانوا يفشلون وسوف يستمر فشلهم. ولهذا قصّة من المهم أن نتعرّف إليها.
من الطبيعيّ أن يكون لمساعي التحريف تأثيراتها في البيئة الجاهلة؛ إلّا أنّ الجهل البسيط لم يكن يومًا العامل الأساس وراء اقتدار المحرّفين وانتشارهم، نظرًا لما يتمتّع به الدين الحقّ من أصول تخاطب الفطرة والوجدان، حيث يشعر الناس بوجود خطبٍ ما، كلّما انبرت المحاولات التحريفيّة وتعاظمت. لهذا، كان لا بدّ لهؤلاء من مسعًى آخر يحقّق لهم ما يصبون إليه على صعيد إبعاد الناس عن الحقيقة وقيامهم بوجهها. وقد تمثل هذا المسعى على مدى التاريخ بمنع وصول الحقيقة إلى الناس عبر مختلف السبل والأساليب.
التحريف لوحده لا يثمر، لأنّ فطرة الناس لا يمكن أن تتعايش مع الباطل؛ إلّا أنّ إدخال اليأس إلى نفوسهم عبر إخفاء الحقّ يمكن أن يؤدّي إلى نتائج ملموسة. لهذا، كان عمل الأنبياء الأوّل عبارة عن إيصال الحقائق للناس وقذف الباطل بها، عملًا بقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ}. [سورة الأنبياء، الآية 18]
ولأنّ صراع الحقّ والباطل سيطول، وسوف يتطلّب ترسيخ الحقائق والدين في المجتمع زمنًا طويلًا، كان لا بدّ من العمل على تثبيت مجموعة من المبادئ والقيم الأساسية، التي تساعد الناس على اكتشاف باطل المحرّفين وكذبهم؛ وذلك من خلال ترسيخ طريق التحقيق والمعرفة الصحيحة للدين.
لقد أثمرت جهود أولياء الدين ثبوت مجموعة من القواعد والأصول، التي يعصى إتقانها وممارستها على المحرّفين. ففي بداية الأمر، كان أسلوب هؤلاء يتمثّل ببعض الأعمال البسيطة والسهلة، كاختلاق الأحاديث وجعلها ودسّها داخل التراث من أجل إيجاد بلبلة واضطراب يمنع من تشكّل الوعي المطلوب؛ لكنّ نجاح علماء الدين الأصيلين في تثبيت تلك القواعد والأصول التحقيقية وتعميقها، قد أوجد بيئة علمية رصينة ومتينة ذات بنية قويّة، تفوّقت بصورة واضحة على قدرات التحريفيين التقليدية. فتعاظمت الهوّة بين التيارين على مدى العصور، وكان الزمان كفيلًا ليتعرّف قسم مهم من المسلمين على التيّار التحقيقيّ ويميّزوه عن التيّار التحريفيّ، الذي انكفأ وأصبح أداؤه أشبه بالشعوذة والسخافات.
إنّ هذا الإنجاز الحضاريّ الكبير يُعدّ أحد أعظم مكتسبات المسلمين على مدى العصور، وهو أهم مظاهر قوّتهم؛ وبفضله اكتسب التديّن الإسلاميّ ـ في كل بيئة تبنّت هذا الجهد وسلكت هذا المسار العلميّ، الذي أُطلق عليه عنوان الاجتهاد (بمعنى بذل أقصى الجهد لاستنباط الأحكام) ـ مناعةً خاصّة مقابل كل أشكال التحريف.
إنّ المحرّفين الجدد، الجاهلين بطبيعة ونوعية هذا الإنجاز يستمرّون في مساعيهم، ولا يعلمون أنّ مصيرها ليس سوى الفشل وأنّ عاقبتها لن تكون إلّا في ازدياد تمسّك هذه البيئة بهذا الإنجاز الكبير؛ لقد نشأ هؤلاء في بيئة مختلفة، وورثوا ذلك الجهل القديم وظنّوا أنّ الآراء العلمية المرتبطة بأحكام الإسلام لا تختلف عن عملية إصدار الفتاوى وفق إرادة السلاطين أو انطلاقًا من الاستحسان والتحقيق السطحيّ العابر، وإن حاولوا إضفاء الصبغة العلميّة على ما يقومون به أحيانًا.
لقد تعرّفت هذه البيئة عبر التاريخ على أداء فقهاء المسلمين المخلصين، وأدركت أنّ ما يجري في أعمالهم العلمية، بعيد كل البعد عن العبث والاستخفاف والسطحية؛ لهذا، فهي تنتمي إليهم من باب تقديرها للبحث العلميّ وتبنّيها للدقّة والتحقيق والبحث العميق والاستقصاء وبذل الجهود المتضافرة و.. لكن لنا أن نتوقّف عند تجربة الاكتشاف والمعرفة هذه؛ لأنّها بحسب رأينا لم تكتمل بعد، وما زالت بحاجة إلى جهود عديدة. فمطالعة دقيقة للتاريخ، تبيّن لنا أنّ تعرّف تلك البيئة المسلمة الخاصّة، على هذه الحركة الفقهية العلمية المخلصة، قد جرت عبر عاملين أساسيّين. الأوّل: هو حضور تلامذة هؤلاء العلماء بين الناس واستفادتهم من الثقة الطبيعية، التي تنشأ من جرّاء معايشتهم وتواجدهم في محافلهم. والثاني: هو الحصار السياسيّ والاجتماعيّ الطويل، الذي فرضته السلطات الطاغوتية على هذه الجماعة، وعدم وجود بديل منافس على صعيد وسائل الإعلام والتعليم. لهذا، فقد لاحظنا أنّ أي مجتمع مماثل كان يخلو من تلامذة هؤلاء الفقهاء، سرعان ما كان ينكشف أمام شتّى أنواع التحريفات، ويصبح فاقدًا للمناعة المطلوبة، فيتحوّل إلى مجتمعٍ بعيد عن الإسلام والدين وتعاليمه وروحه. ولهذا أيضًا، أدّى تراجع موقعية هؤلاء التلامذة في المجتمعات، التي كانوا يتواجدون فيها، إلى تضخّم تأثير التحريفات وتجدّد نشاطها الأوّل.
لقد اكتفى الكثير من تلامذة العلماء والفقهاء بتلك الأدوار التقليدية التاريخية، من إمامة الجماعة، واستقبال مراجعات الناس العادية، التي كانت ذات يوم تستحوذ على القسم الأعظم من الأنشطة الإعلاميّة والتعليميّة في تلك المجتمعات، والتي أصبحت اليوم بفعل إدخال التعليم الاستعماريّ المدرسيّ، والاجتياح الكبير للإعلام الغربيّ، لا تستحوذ إلا على مقدارٍ ضئيل من هذه السوق الإعلامية والتعليمية؛ فنشأت أجيال لا تميّز بين عمل الفقيه الأصيل وصاحب البدعة والمآرب التحريفية والآراء السطحية.
إنّ شباب المسلمين يحبّون الإسلام ويعشقونه، لكنّ قسمًا كبيرًا منهم لا يعرف الفارق بين الحركة الاجتهادية العلمية العميقة، وبين إطلاق الآراء العشوائية والمجتثّة الأصول؛ وفي ذهن هؤلاء، إنّ الفقيه هو ذاك المعمّم، الذي ينظر في القرآن والأحاديث، ثمّ يطلق الفتاوى بحسب ما يراه مناسبًا. وما نحتاج إليه بقوّة ـ لمواجهة تيّار التحريف الجديد ـ هو أن نعرّف شبابنا على هذه العملية التحقيقيّة، ولا نكتفي بالاعتماد على رصيد الثقة السابق، لأنّه لم يعد كافيًا لتمتين العلاقة بينهم وبين الفقهاء الحقيقيين.
نحن بحاجة إلى أن يتلمس شباب اليوم ما يبذله هؤلاء الفقهاء الأصيلون من جهدٍ وتعب، وكدحٍ وسهر، وتحقيقٍ وبحث مضنٍ، وإخلاص حقيقيّ، ونكران للذات، وموضوعية عجيبة لا نظير لها، في عالم البحث العلميّ؛ ليعرفوا أنّ ما يعرضونه تحت عنوان "أحكام الإسلام"، ليس تلك القرارات الأكليروسية المنبعثة من مصالح فئة تريد السيطرة على العقول والمقدرات.
المصدر:مركز باء للدراسات