العلامة السيد محمد حسين فضل الله
إنّ فكرة العيد في الإسلام، لا تنطلق من مجرد مناسبة يراد استذكارها، ليكون العيد مجرَّد حافز للذكرى، ولكنَّ العيد في الإسلام ينطلق من فكرةٍِ تتّصل بكلِّ حياة الإنسان، فليس فيها ماض وحاضر ومستقبل، بل هي الفكرة التي تتّفق على إنسانيّة الإنسان في كلِّ أمورها وفي كلِّ نشاطاتها، الأمر الّذي يجعل معنى الاحتفال بالعيد مختلفاً عن كلّ ما يحتفل النّاس به. ومن خلال ذلك، يمكننا أن نستوحي من العيد الإسلامي، ما استوحاه علي(ع)، عندما اعتبر أنّ من الممكن إذا انفتحنا على فكرة العيد، أن نحوِّل كلَّ أيامنا إلى أعياد، فلا يكون العيد يوماً في السنة، بل يمكن أن يكون السنة كلّها من خلال تأكيد الفكرة.
عيد الأضحى
وهكذا نلتقي في هذه الأيام بعيد «الأضحى المبارك». وقصة عيد الأضحى مستوحاة من قصة إبراهيم وإسماعيل، وقصَّة الإسلام إلى الله التي هي عنوان كلّ ما أنزله الله من دين، فكلُّ دين هو إسلام، فلقد جاء إبراهيم بالإسلام، وجاء عيسى وموسى ومحمد(ص) بالإسلام. والإسلام هو أن تسلم أمرك إلى الله، وأن تمتثل أوامره في كلِّ مواقع الإسلام العمليّة والرّوحيّة والحركيّة.
وهكذا تنطلق مناسبة العيد من مسألة لها خصوصية في التشخيص، ولكنّها لا تنحصر بها، بل تمتدّ من خلالها إلى كلِّ أمر من أوامر الله، والى كلِّ جيل من الأجيال التي تمتثل أمره، {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}(الصافات: 100)، وكان إبراهيم(ع) يدعو الله أن يرزقه ولداً {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} صار يمشي ويسعى في أموره ويساعده ويعاونه، كانت المفاجأة {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافَّات: 101-102)، وكان المنام بالنسبة إلى الأنبياء إحدى وسائل الوحي، وعرف إبراهيم أن الله يوحي إليه أن يتحرّك في مسألة ذبح ابنه، ولم يرد أن يأخذ ولده على غفلةٍ من أمره، بل كان يريد أن يعلمه أمر الله، فلقد ربَّاه على الإسلام لله، كما ربّى نفسه على ذلك {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ}(الحجّ: 78)، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(البقرة: 131ـ 133).
{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فما هو رأيك؟ قال: كيف تطلب مني الرأي، والرأي يُطلَب في الأمر الّذي يحتمل أمرين، إمّا أن يقبل أو أن يرفض، أمّا عندما يكون الأمر واحداً من عند الله، فأمر الله ليس فيه خيار {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب:36)، {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} مادام الأمر أمر الله، فافعل {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}(الصّافّات:102) الذين يعيشون صبر الطاعة من خلال عمق القناعة، والصّبر على البلاء من خلال الإرادة الروحية بين يدي الله. {فَلَمَّا أَسْلَمَا} أسلم الأب الأمر إلى الله، وأسلم الولد أمره إلى الله، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}، فأنت لم تر في المنام أنّك ذبحت ولدك، ولكن رأيت في المنام أنك بدأت التحضير لذبحه، ولذلك، لم يكن لك أن تذبحه، ولكن المسألة هي أن الأمر الإلهي بهذه المهمة، يظهر أنك مستعدّ لأن تنتهي بها إلى نهاية المطاف {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ}(الصافات: 104-106). وأيّ بلاء أشدُّ من أن يتولَّى الإنسان ذبح ولده بيده، أو يقدِّم نفسه للذبح {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}(الصافات: 107).
وكانت هذه المسألة منطلقاً في أن يكون اليوم نفسه عيداً، وذلك بتقديم الحاج قربانه إلى الله، كما قدَّم إبراهيم قربانه إليه، وكما قدّم إسماعيل قربانه.
وهكذا، علينا أن نعيش الأضحى عيد الإسلام لله، بأن يسلم الإنسان لله عقله، فلا يتحرّك عقله إلاّ في ما يخدم الحياة، وأن يسلم لله عاطفته، لتكون عاطفته منفتحةً على كلِّ ما يحبّه الله، وأن يكون مسلماً في حركته، بحيث يبصر الاتجاه إلى الله. فمن لم يكن مسلماً في مواقفه ومواقعه وعلاقاته، فإنه ليس بمسلم، لأنّ المسلم هو الذي إذا أراد الله له أن يفعل، فلا ينتظر ليفعل، وإذا أراد الله له أن يترك، فإنّه يترك مباشرةً.
ولهذا، نستطيع أن نعتبر كلّ يوم عيداً أضحى، إذا كنا نسلم فيه أمرنا لله، وكلّ يوم نتقرَّب فيه إلى الله بالطّاعة هو عيد. قدّم ابتعادك عن المعصية قرباناً لله، قدِّم توبتك قرباناً لله، قدّم مسؤوليتك ومحبتك للإنسان كلّه وللحياة كلّها في سبيل الله ومن أجل الله، فسوف تجد في ذلك كلّ يوم عيد أضحى.
المصدر:موقع بينات بتصرف